لم تضم مقابر اليهود فى مصر أجساد الموتى فقط لكنها كانت مكانًا لدفن «الجنيزا»، وهي الأوراق المقدسة التى تحمل اسم اللّه.
نفايات مقدسة
الجنيزا، أو النفايات المقدسة، هي الكتب الدينية التالفة، والأوراق الممزقة، وغيرها من كافة الكتابات، التي تضم في ثناياها اسمًا من أسماء الله، والتي أصبحت لم تعد صالحة للاستخدام.
وهذه المواد، كانت تشكل مشكلة من حيث وجوب التخلص منها بصفة نهائية، فكان لابد من إيجاد طريقة مناسبة للتخلص منها، بصورة تحفظ لها كرامتها .
وصية الرب
يقول جهلان إسماعيل الباحث في الجنيزا القاهرية: "بالنسبة لليهود، لم ترُق لهم، أية طريقة من تلك الطرق، فالرب قد أوصاهم في التوراة (سفر التثنية 12/ 3و4) بمحو أسماء الآلهة الوثنية، وتحطيم أصنامها وتكسير سواريها، وألا يفعلوا ذلك مع اسم الرب. فهداهم تفكيرهم إلى دفن تلك المواد في باطن الأرض، لتهلك بطريقة طبيعية، من دون تدخل منهم، كما تهلك جثث الموتى.
احتفال سنوي
فالجنيزا هي الورق المكتوب عليه اسم الّله سواء كانت معاملات مالية أو زواج أو طلاق أو أحوال شخصية أو مواريث، فهي لا تُحرق ولا تُمزق بل يقام لها احتفالًا سنويًا، وتدفن فى مكان يسمى «الجنيزا» المؤقتة أى أن الجنيزا هى مجموعة الأوراق والوثائق التى لا يجوز إبادتها أو إهمالها وفقًا للديانة اليهودية، وخصوصًا إذا ضمت اسم اللّه بين ثناياها، وإنما يتم تخزينها فى غرفة معزولة فى الكنيس أو المعبد لأجيال، فكل يهودى كان يملك ورقة تحمل اسم اللّه بداخلها كان يأتى ليقدمها للحاخام الأكبر وتقام هذه الاحتفالية بشكل سنوى.
الجنيزا الدائمة
وفيما بعد أصبحت أى ورقة تكتب بالعبرية تعتبر جنيزا، إذ كان يساورهم الشك أن يكون اسم اللّه عليها حتى ولو كانت معاملات تجارية، فكان هناك فى القاهرة ما يسمى بـ«الجنيزا القاهرية» (أى الجنيزا التى خرجت من معبدين وهما كنيس بن عزرا بمصر القديمة، وكنيس آخر كان يسمى بكنيس الأستاذ بدرب الصقالبة فى الجمالية) لكن عندما كانت تملأ الغرف الموجودة بالكنيس بهذه الجنيزا، كانت تنقل لتدفن فى الجنيزا الدائمة وهى عبارة عن مغارات فى المقابر اليهودية وتبنى تحت الأرض بالطوب المحروق أو الحجارة، بها مداخل تغلق عليها ألواح غليظة من الحجر حتى لا تتعرض تلك الكتابات للتدنيس أو تُنتهك حرمتها، وتدفن هناك للأبد.
معبد بن عزرا.. بوابة الخروج
لكن مع نهايات القرن الـ١٩ وبدايات القرن الـ٢٠ اهتم الباحثين اليهود بهذه الجنيزا بشكل كبير أثناء أبحاثهم وبدأوا يأخذونها من المعابد فى مصر وخاصة معبد بن عزرا الذى لم تنقل الجينزا به لتدفن بالمقابر لمدة الف عام وقد تم تهريبها للخارج وخرجت آلاف من هذه الوثائق خارج مصر.
ضياع الوثائق!
فمنذ ذلك الحين تم إخراج كل مضمون الجنيزا تقريبًا التى كانت حوالى ٢٥٠ ألف وثيقة تمثل ١٠٠٠ عام من تاريخ مصر وتاريخ يهود مصر، فى قلب العالم الإسلامى، وقد تم نقلها إلى مكتبات وأراشيف فى أوروبا. واليوم توجد نسبة ٧٠٪ منها فى مكتبة جامعة كامبردج بإنجلترا، وخلال الحرب العالمية الثانية ضاعت بعض الوثائق التى كانت محفوظة فى مكتبات بألمانيا وبولندا، وهى تؤرخ للحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وكذلك الشعر، والفلسفة، والتجارة، والطب، ومعاملات البيع والشراء فى ذلك الوقت، وعلاقتهم بالدولة وعلاقة الطوائف اليهودية ببعضها أيضًا.
وكذلك فهى تملأ الفراغ الذى خلفه المؤرخون المعاصرون، الذين اكتفوا بذكر تاريخ الخلفاء والسلاطين والأمراء والحكام والأعيان وأخبار المعارك والحروب دون التعرض للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا نادرًا.
النسخة العبرية
ومن أهم النصوص التى عثر عليها فى جنيزا القاهرة هو النص العبرى الأصلى لسفر حكمة بن سيراخ، وقد ترك اليهود هذا السفر بسبب الخلاف حول قدسيته، أما المسيحيون فواصلوا تقديسه، حيث بقيت ترجمته الأولى إلى اللغة اليونانية، بينما ضاع النص العبرى، حتى تم العثور على نسخة عبرية قديمة فى جنيزا القاهرة. كذلك تم العثور فيها على نسخ قديمة للهاجادا وهو سفر الخروج الجديد وهى عبارة عن نصوص دينية وصلوات تقرأ خلال عشاء عيد الفصح.
تقنين الأوضاع!
يقول جهلان إسماعيل الباحث فى الجنيزا القاهرية ومدير إدارة البحث العلمى السابق بوزارة الآثار: “إن الغرب بدأ ينتبه لجنيزا القاهرة عندما جاءت سائحتان من اسكتلندا عام ١٨٩٦ وزارتا معبد بن عزرا بالقاهرة، وأخذا ورقتين من هذه الجنيزا كنوع من التذكار لكن عندما رجعوا لبلادهم عرضوها على عالم يهوديات كان يسمى زلمان شاختار وحينها علم أن هذه هى مخطوطة مفقودة تعود لسنة ٢٠٠ ق.م فأعجب بالأمر وقرر أن يأتى إلى مصر وأخذ تصريحًا من كبير حاخامات اليهود فى انجلترا ومصر، وكذلك من المندوب السامى البريطانى وقتها ليسهلوا عليه الأمر، وأخذ معه فى صناديق خشبية من ٢٥٠ إلى ٣٥٠ ألف جنيزا عام ١٨٩٦”.
رفض المجلس الأعلى للآثار
ويكمل: “بعدها بدأ اليهود الموجودون داخل مصر بدفن الجنيزا بحوش موصيرى، أى التى تخصهم منذ نهاية القرن الـ١٩ وبداية القرن الـ٢٠، لكن أخذها موصيرى تقريبًا فى ثلاثينات القرن الماضى وهربها إلى إسرائيل، وبقى اليهود الموجودون داخل مصر يدفنون هذه الأوراق المقدسة داخل الجنيزا الموجودة بمقابر البساتين، لكن فى عام ١٩٨٧ تقدمت جامعة برنستون الأمريكية، بطلب لهيئة الآثار لاستخراج هذه الجنيزا، وعندما علمت جامعة عين شمس بالأمر، تقدمت هى الأخرى بطلب للاستخراج، وقد استقر المسئولون على تفويض جامعة عين شمس بالتعاون مع هيئة الآثار، لكن حدث خلاف بين الجامعة والمجلس وقد خلص القرار إلى أن المجلس الأعلى للآثار سيستخرجها بمفرده، لكن حينها علم «المركز الأكاديمى الإسرائيلى»، رفض الامر حيث أصدر فتوى من الحاخام يفيد بحرمانية استخراج الجنيزا”.
مغارات تحت الأرض
يستطرد: المجلس الأعلى للآثار صمم على استخراج الجنيزا عام ١٩٨٧، وكنت ضمن المجموعة التى عملت بالمشروع، وكان العمل فى مغارتين وكنا حينها شبابا وأغلب من معنا كانوا من العمال الأميين، فعملنا لمدة ١٥ يوما أخرجنا وثائق من مغارة كاملة ونصف وثائق المغارة الأخرى، لكننا لم نكمل العمل حينها بسبب درجة الحرارة المرتفعة، وكانت آلاف الوثائق بين أيدينا وكان الأمر يتم بصورة عشوائية حتى أرسلنا مجموعة كنا نظن أنها منتقاه إلى دار الوثائق القومية فكما ذكرت لك كان أغلب من يقيمون هذه الأوراق من العمال وليسوا من المتخصصين وأرسلنا حوالى ٢٠٠٠ وثيقة لدار الوثائق.
حوش موصيري
وعندما أردنا دفن آلاف الجنيزا المتبقية التى بين أيدينا مرة أخرى فى مكانها الأصلى لم نستطع إرجاعها بكاملها فقد كانت الوثائق مضغوطة عندما استخرجناها لكنها صارت «منفوشة» بعد ذلك وبالتالى لم تستوعب المغارتان الكثير من الأوراق فخزنا حوالى ٢٢ شوالاً بداخلهم آلاف الجنيزا بالقلعة، لكن الطائفة اليهودية اعترضت حينها، لأنها يجب أن تدفن فى منشأة دينية، فنقلناها لحجرة داخل معبد بن عزرا، لكننا تخوفنا أن تغمر الحجرة بمياه الأمطار، فأرضية الحجرة كانت منخفضة عن المعبد، إلى أن جاءت هيئة الوثائق القومية وأخذت هذه الوثائق، وحينها شكلوا لجنة لفحص هذه الأوراق، وقد كنت عضوا منتدبا فى هذه اللجنة، وعملنا لمدة شهرين إلى أن خرج رئيس الهيئة على سن المعاش والذى جاء من بعده أوقف العمل حينها، وتقريبًا كان ذلك فى عام ١٩٩٨، وحتى الآن لم تفحص هذه الوثائق، ولم تستخرج آلاف الوثائق من جنيزا القاهرة الموجودة بحوش موصيرى.
تاريخ اليهود في مصر
ينهي جهلان إسماعيل ويقول: وثائق الجنيزا تلك، تشمل معلومات تاريخية، في شتى مناحي الحياة، على مدى 1000 عام، وتعد المصدر الرئيسي لتاريخ اليهود في مصر والدول الإسلامية المجاورة لها.