الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قرأت لك| شخصية «أنتيجونا» بين سوفوكليس وجان أنوي وجان كوكتو

صدى البلد

يرى بعض النقاد مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس أروع مسرحياته، وأروع التراجيديات اليونانية التي وصلتنا على الإطلاق؛ وذلك لأن الصراع فيها ليس بين الإنسان والقدر أو الآلهة الوثنية - كما هو الأمر في أكثر التراجيديات اليونانية القديمة - ولكن الصراع فيها بين البشر أنفسهم، وتحديدًا بين كريون حاكم ثيبة الجديد، وأنتيجونا، ويحتدم الصراع بينهما، وينتهي بمآسٍ كثيرة تتجاوزهما.

وأوضح  د. علي محمد السيد خليفة، أستاذ بكلية الآداب-جامعة العريش، وأستاذ مشارك بالكلية الجامعية بتربة -جامعة الطائف، في كتابه “صفحات في النقد المسرحي"، أنه تبدو شخصية أنتيجونا في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس من لحم ودم، وهي تستشعر الألم؛ لأن أخاها بولونيس قد أصدر كريون أمره بعدم دفنه؛ لكونه جاء معتديًا على وطنه ثيبة بجيش أجنبي؛ ليأخذ حكم ثيبة من أخيه أتيوكليس، ولكن ذلك الجيش انهزم، وقضى كل أخ من هذين الأخوين على الآخر.

وترى أنتيجونا أن ما فعله بولونيس في حياته لا دخل له بما يجب أن يؤدى له من شعائر وطقوس بعد موته؛ بأن يوارى جسده التراب، كما تقضي عقائد الإغريق بذلك، في ذلك العصر.

وتبدو أنتيجونا حريصة على تكريم أخيها بولونيس في عالم الموتى، كما تنص عقيدة الإغريق آنذاك، وتدرك أنها إذا ما أقدمت على دفن جثة بولونيس فإنها غالبًا سيقبض عليها الحرس الذين أمرهم كريون بمراقبة هذه الجثة حتى تأكلها السباع، وتفنيها، ومع ذلك تستشعر أهمية أن تقوم بهذا العمل؛ وفاء لذكرى أخيها، وإرضاء للآلهة الوثنية التي تأمر بذلك، كما كان يعتقد الإغريق آنذاك.

وتستشعر أنتيجونا أنها بإقدامها على هذا الفعل، وعند القبض عليها ستحرم من حبيبها وخطيبها هيمون بن كريون، وتدرك أيضًا أنها قد تموت قبل أن ترتبط به، وتنجب منه، وتخسر كل متع الحياة، ولكنها تقاوم كل هذه الدوافع التي تعوقها عن تلك المهمة في دفن أخيها بولونيس، وتقرر دفنه 
في النهاية.

وتستطيع أنتيجونا أن تغافل الحرس الذين يحرسون جثته، وتقوم بإهالة التراب عليها، وقراءة بعض التعاويذ الجنائزية خلال ذلك، ولكنها في المرة الثانية التي تحاول فيها دفن جثته - بعد أن أمر كريون بكشفها في العراء - يقبض عليها، ويحاكمها كريون، ويبدو غليظًا في مواجهته لها، وهو يرى أن الشدة مطلوبة معها؛ حتى يظهر للرعية في ثيبة مع بداية حكمه أنه لا يتهاون في عقاب من يخالف أوامره، ولو كان من أقربائه، وكذلك كان يرى أنه لا بد من ترك جثة بولونيس في العراء عقوبة له لجرأته في معاداة وطنه والمجيء بجيش أجنبي لغزوه.

وتبدو أنتيجونا ثابتة في مواجهة كريون، وتُعَرِّفُهُ أن أكثر شعب ثيبة يرى أن ما فعلته صواب؛ لأنه يتوافق مع أوامر الآلهة الوثنية للإغريق، ولكن أبناء الشعب لا يجرءون على مواجهته بذلك.
ويأتي سريعًا حكم كريون على أنتيجونا بأن تُلْقَى في نفق مظلم حية حتى تلقى حتفها فيه.

ولا تتراجع أنتيجونا بعد هذا الحكم عن الموقف الذي كانت قد اتخذته بأهمية دفن جثة أخيها بولونيس، وإن كانت قد أخذت تنعى مصيرها البائس الذي قربها من الموت، وباعد بينها وبين حبيبها هيمون، وبين باقي متع الحياة، كإنجاب الأولاد.

ولا يتراجع كريون عن موقفه المتشدد بعد مواجهة الكاهن تريزياس له، وإلقائه نبوءاته التي ستحدث له لو استمر على موقفه هذا، ومن تلك النبوءات التي توعده بها موت ابنه هيمون، ولكن كريون يتراجع عن موقفه بعد أن يحدثه شيوخ ثيبة المتمثلون في الجوقة، ويعرفونه بأهمية ألا يتهاون بنبوءات تريزياس.

وعند ذلك يأمر كريون بدفن ما تبقى من جثة بولونيس، ويسرع الخطى مع بعض حراسه للنفق الذي وضع فيه أنتيجونا، وحين يصلون إليه يتم اكتشاف أن أنتيجونا قد انتحرت بشنق نفسها - كما فعلت أمها جوكاستا من قبل -حتى لا تعاني انتظار الموت في ذلك النفق، وعند ذلك يقوم ابنه هيمون بقتل نفسه حزنًا على مصير حبيبته أنتيجونا، وبعد ذلك تقتل أم هيمون التي هي زوجة كريون نفسها، وهنا تضيق الأرض على كريون، ويستشعر مصيبته الكبرى، ويتألم آلامًا شديدة.

هذا هو ملخص مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس، وتصوير لطبيعة الصراع بها، وهذه هي صورة أنتيجونا فيها.

أما عن شخصية أنتيجون في مسرحية "أنتيجون" لجان أنوي، فهي تبدو فيها امرأة شديدة العشق لهيمون ابن خالتها، وتعاني معاناة شديدة بعد أن تقرر دفن جثة أخيها بولونيس؛ لاستشعارها المصير البائس الذي سيحدث لها عند ذلك بالحكم عليها بالموت.

وأنتيجون في هذه المسرحية تتصور أن العالم الذي تعيش فيه عالم فاضل تحفه المثل والمبادئ، ومن ثم فإنها ترى أنه من الواجب عليها أن تقوم بدفن جثة أخيها بولونيس، وأن تضحي بسعادتها وحياتها في سبيل ذلك، وحين ينكشف أمر أنتيجون وهي تحاول دفن جثة أخيها بولونيس للمرة الثانية.

وتقف أمام كريون - يصدمها كريون بفراغ العالم من المثل التي تظنها فيه، فيعرفها أن كلا أخويها لا يستحقان التكريم بعد موتهما، وليس بولونيس فحسب، ويذكر لها أن كلا هذين الأخوين قد حاولا قتل والدهما أوديب  في حياته عدة مرات؛ لاغتصاب الملك منه، ويطلب كريون الى أنتيجون أن تتناسى ما حاولت فعله اليوم من دفن جثة أخيها بولونيس، وأن تعود للبيت؛ لتنعم بعد ذلك بالزواج والحياة العائلية مع ابنه هيمون.

ولكن أنتيجون تصر على موقفها، ولا تريد أن تتراجع عن اعترافها بأنها دفنت جثة أخيها بولونيس، وأنها ستحاول دفن جثته مرة أخرى لو أتيح لها ذلك، وهي بذلك ترى أن العالم وإن كان قبيحًا يخلو من المثل، فإنها - مع ذلك - لا يمكنها أن تتخلى عن واجباتها، وأيضًا هي تُظْهرُ لكريون بهذا الموقف أنه ليس كل الناس مثله قد نبذوا المثل وراءهم، وغاصوا في وحل الواقع بما فيه من بشاعة.

وإزاء إصرار أنتيجون على موقفها أمام كريون يأمر بدفنها في نفق مظلم، وتكتب رسالة عاطفية في محبسها لحبيبها هيمون، ثم تنتحر بعد ذلك، وتحدث بعد ذلك الفجائع التي ذكرناها عند تحليلنا لمسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس.

ومن الملاحظ في مسرحية "أنتيجون" لجان أنوي أن أنتيجون تنظر للأمور نظرة مثالية، ولا تريد أن تتخلى عنها حتى بعد أن كشف لها كريون زيف ذلك العالم المثالي الذي تتصوره، في حين نرى كريون في هذه المسرحية يدرك ما في العالم من بشاعة شديدة؛ ولهذا فمن الغباء عنده أن يتعامل معه بعض الناس بنبل، كما كان موقف أنتيجون في هذه المسرحية.

وملحوظة أخرى على هذه المسرحية أننا يمكن أن نقسمها لقسمين - وذلك على الرغم من أنها تقع في فصل واحد طويل - والقسم الأول منها نرى أنتيجون لها حضور قوي فيه، والقسم الثاني يهيمن كريون عليه بشدة حضوره وتواجده فيه، وكأن المؤلف يريد من خلال ذلك أن يقول: إن أصحاب المبادئ والمثل في هذا العالم لا يبقون فيه طويلًا، ولكن من يتعاملون مع هذا العالم مدركين ما فيه من بشاعة ويحسنون التعامل معها - هم من يبقون في هذا العالم طويلًا، كحال كريون في هذه المسرحية الذي نراه بعد أن صُدِمَ بموت ابنه هيمون وموت زوجته منتحرة بعده - يواصل العيش؛ لأنه أدرك أن الحياة لا تخلو من مآسٍ، وأنه لا بد من احتمال أقصى مصائبها وما تسببه من آلام شديدة لمن يعيشون فيها.

أما عن أنتيجون في مسرحية "أنتيجون" لجان كوكتو فهي صورة مكررة من شخصية أنتيجونا في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس، كما أن الأحداث في مسرحية "أنتيجون" لجان كوكتو تتشابه تمامًا مع الأحداث في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس.

وكل هذا يجعلنا نشعر أن بصمات جان كوكتو غير واضحة في معارضته لمسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس في مسرحيته "أنتيجون"، ومن ثم فإنه كان الأحرى بجان كوكتو ألا يكتب مسرحيته هذه ما دام ليست عنده أي إضافة جديدة يضيفها في نصه الجديد، ويخالف بها ما جاء في مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس.