الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خطبتا المسجدين الحرام والنبوي.. تحذران من الفساد بكل صوره.. وتؤكدان: الرشوة من كبائر الذنوب وأعظم أبواب الفساد سواء سميت إكرامية أو هدايا .. وحرمة المال العام اقترنت بحرمة الدماء

خطبتا الحرمين
خطبتا الحرمين

خطيب المسجد الحرام: 

  • الرشوة من كبائر الذنوب وأعظم أبواب الفساد سواء سميت إكرامية أو هدايا
  • من جعل المال أكبرَ همِّه فالحلال عنده ما حل بيده
  •  رسول الله كان يربّي أصحابه على العفة والنزاهة
  • المحافظةَ على الأموال من مقاصد الشريعة الكبرى والضروريات العظمى
  • بني آدم مجبولون على حب المال والسعي في طلبه

خطيب المسجد النبوي: 

  •  حرمة المال العام اقترنت بحرمة الدماء
  • الاستخلاف في الأرض مسؤولية تستوجب الأمانة
  • المال خضرة حلوة من أصابه بحقه بورك له فيه 

حذرت خطبتا المسجدين الحرام والنبوي، من الفساد بكل صوره، كما أن من مقاصد الشريعة الكبرى، بل من الضروريات العظمى، المحافظةَ على الأموال، التي تقوم بها مصالح العباد، ولأهمية المال؛ شرعت الملكية الخاصة والعامة، وشرع للمرء أن يدافع عن ماله، فمن قتل دون ماله فهو شهيد، وكذلك هذا المال خضرة حلوة من أصابه بحقه بورك له فيه ورُبّ مُتخوضٍ ، فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار.

ومن مكة المكرمة ، قال الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي، إمام وخطيب المسجد الحرام، إن من عرفَ الله أطاعه، ومن أحبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له، وتفكَّر في مُنصرَف الناس يوم القيامة: فريق في الجنة، وفريق في السَّعير.

من مقاصد الشريعة الكبرى

وأوضح « المعيقلي» خلال خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أن من مقاصد الشريعة الكبرى، بل من الضروريات العظمى، المحافظةَ على الأموال، التي تقوم بها مصالح العباد، ولأهمية المال؛ شرعت الملكية الخاصة والعامة، وشرع للمرء أن يدافع عن ماله، فمن قتل دون ماله فهو شهيد.

وأضاف أن أطولُ آيةٍ في كتاب الله، جاءت في شأن المال، والتصرُّف فيه وتوثيقه، وضبطه وحفظه، فالمال قرين العرض والدم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»، رواه مسلم، وفي الصحيحين، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

مجبولون على حب المال

ونبه إلى أن بني آدم، مجبولون على حب المال، والسعي في طلبه، فيشيب ابن آدم، وقلبه لا يزال شابّا على حُبِّ المال، إلا من رحمه ربه، وجعل غناه في قلبه، فالمال فتنة، يبـتلي الله به من شاء من عباده؛ فمن أجمل في طلبه، وأنفقه في حقه؛ فقد فاز وربح، وأفلح وأنجح، وكان بركةً عليه وأجرا، ولورثته ذخرا ومغنما.

وأشار إلى أن من جعل المال أكبرَ همِّه، فالحلال عنده ما حل بيده، ولم يبال من أين أكتسبه، فقد أصبح ماله وبالاً عليه، إن أمسكه لم يبارَكْ له فيه، وإن تصدقَ به لم يُقبل منه، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن خلّفه وراء ظهره، كان زادا له إلى النار، غرمه عليه، وغنمُه لورثته، ولا يثبت أمام هذه الفتنة، إلا الصادق النزيه، فالنزاهة: هي دليل الديانة، والصدق والأمانة، فمن نزَّه نفسَه، فقد أبعدها عَنِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيَّةِ، وحفظ كرامتها وعزتها، وبذل أسبابَ غناها ورضا الرحمن عنها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يربّي أصحابه، على العفة والنزاهة.

كلما تحلى بالنزاهة

واستشهد بما جاء في الصحيحين عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تُوُفِّيَ رضي الله عنه وأرضاه.

وأفاد بأن المسلمُ كلما تحلى بخُلُقِ النَّزَاهَةِ، أثْمَرَ في قلبه الورع والقناعةَ، واتصف بالصدق والأمانة، فنالَ محبَّة ربه، وفاز بمرضاته. قال الماوردي رحمه الله: "والنَّفس الشَّريفة تطلب الصِّيانة، وتُـرَاعي النَّزاهَة، وتحتمل من الضُّرِّ ما احتملت، ومن الشِّدَّة ما طاقت، فيبقى تحمُّلها، ويدوم تصوُّنها".

ولفت إلى أنه إذا تخلى الناس عن خلق النزاهة، حل الفساد في المجتمعات، وضُيِّعت الأمانات، ونُهِبَت الخيراتُ، فالفسادُ يعصف بالقِيَم الأخلاقيَّة، القائمةِ على الصدق والأمانة، وينشُر الكذب والخيانة فالفسادُ يجعلُ المصالحَ الشخصيَّة، هي التي تتحكَّمُ في القرارات، فتتعثَّرُ المشارِيع، ويضعُفُ الإنتاج، ويتدنى مُستوى الخِدمات العامَّة ويُعزِّزُ العصبيَّةَ المقيتة، مذهبيَّةً كانت أو قبَليَّةً أو حِزبيَّةً.

الفساد داء عضال

وحذر من الفساد فإنه داءٌ عضالٌ إذا استشرى بأمَّة، أطاح بأركانِ نهضتِهَا، وكانَ سببًا كبيرًا في فشل تنميتها، وضياع مقدراتها، وإهدار مواردها، بسبب اختلال ميزان العدلِ فيهَا، فالنزاهة والعدل، أصل كل خير، والفساد والظلم، أصل كل شر.

وتابع:  وللفسادِ المالي، صور كثيرة ومتعددة: اختلاس ورشوة، وتزوير وخيانة، فمن انعقد قلبه على الخيانة، تلطخ بالصور الباقية، فالرشوة من أعظم أبواب الفساد، وهي من كبائر الذنوب والخطايا، سواء سميت إكرامية أو هدايا، والراشي والمرتشي والرائش، ملعونون عند الله، مطرودون من رحمته، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أغضبوا ربهم، وخانوا أمانتهم، وغشوا أمتهم، فخسروا دينهم ودنياهم.

النبي بين أبواب الفساد المالي

وأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أبواب الفساد المالي فمنع من تولى عملا للمسلمين، أن يستغل وظيفته، لمصالحه الشخصية، ووضع صلى الله عليه وسلم، قواعد وضمانات، لحماية المال العام، ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى الصَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ »، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، «أَلا هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلاَثًا بلى لقد بلّغ عليه الصلاة والسلام، فوالله لن تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.

وشدد على أن الأخذ من المال العام بغير حق، ظلم عظيم، يهوي بالمجتمع إلى فساد عريض، وهو جريمة في الشرع المطهر، وخيانة لولي الأمر، وكذلك من استرعاه ولي الأمر على عمل، فلا يحل له أن يأخذ فوق حقه، فما أَخذ فوق حقه فهو غُلُول، يغلُّ يد صاحبه يوم القيامة، ولو كان شيئا يسيرا.

ودلل بما جاء في صحيح مسلم: عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: «وَمَا لَكَ؟»، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى».

تُبطل ثواب الجهاد في سبيل الله

وواصل:  وفي التنزيل العزيز: «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»، فمال الدولة، الأصل فيه الحرمة، وهو بمنزلة مال اليتيم، في المحافظة عليه، وتحريم الأخذ منه، والحرص الشديد على صرفه، بما تقتضيه المصلحَة ففي صحيح البخاري، قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، قال ابن حجر رحمه الله: "أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل"، فاختلاس الأموال العامة، قليلها وكثيرها، كبيرة من الكبائر، من عظم جرمها وحرمتها، تُبطل ثواب الجهاد في سبيل الله، وتذهب أجر الشهادة.

واستطرد:  فهذا رجل خرجَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُال الصحابة رضي الله عنهم: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشِّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ»، قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ»، رواه البخاري ومسلم.

ونوه بأنه قد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، صاحبه كعب بن عجرة رضي الله عنه، فقال له: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»، رواه الترمذي في سننه والسحت: هو الحرام الذي لا يحل كسبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وذلك لأن الطعام، يخالط البدن ويمازجه وينبت منه، فيصير مادة وعنصرا له، فإذا كان خبيثا، صار البدن خبيثا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»، والجنة طيبة، لا يدخلها إلا طيب".

من ضعفت نفسُه

وأوضح أن من ضعفت نفسُه، واتبع هواه وشيطانه، فأخَذ شيئا من المال العام بغير حله، وجبت عليه التوبة، ورد المال إلى خزينة الدولة، فعلى اليدِ ما أخَذَتْ حتى تؤديه، فالمال العام، حمايته واجبة، وحُرمته عظيمة، لكثرة الحقوق المتعلِّقة به، وتعدُّد الذمم المالكة له، فلنتقِ الله عباد الله، وَلْنراقبْه في كل صغيرة وكبيرة، فحقوق العباد مبنية على المشاحة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، والله جل جلاله يعفو ويصفح، ويتجاوز فيما يكون بينه وبين عبده، وأما حقوق العباد، فموقوفة على التحلل والاستباحة، فالعاقل يتقي اللهَ تعالى فيما يأخذ ويذر، ويتذكَّر تحذير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، من الفضيحة يوم المحشر، وطوبى لمن حفظ أمانته، وأطاب مطعمه، وأحسن في تعامله، وصدق في حديثه، وأمِنَ الناس بوائقه، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

الأمانة صلاح وشرف 

وبين أن الأمانة صلاح وشرف وكرامة أمر سبحانه بحفظها ورعايتها، وفرض أداءها والقِيام بحقِّها، وهي من صفات الأنبياء والمرسلين، يبلغون بها رسالة ربهم، ويقيمون الحجة على أقوامهم، فما من نبي إلا قال لقومه: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ»، ونبينا صلى الله عليه وسلم خير الأمناء، بشهادة الأعداء، فهو الصادق الأمين.

واستند لما جاء في الصحيحين، من حديثِ عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: "سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ"، فالأمانة من علامات الإيمان، وخيانتها نِفاقٌ وعصيان، وسبب للسقوط في النيران، فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم، كانت دعوةُ الأنبياء هناك: اللهم سلّم سلم، ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ، يَمِينًا وَشِمَالًا».

وأشار إلى أن الفساد المالي، على اختلاف أشكاله وصوره، من خيانة الأمانة، وأكل أموال الناس بالباطل، ظلما وعدوانا، وزورا وبهتانا، ولا يقف أمامه إلا الحارس الأمين، المُخلِصُ لدينه ووطنه، الصالحُ في نفسه، والمُصلِحُ لغيره، فيأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد، ويُحافِظُ على مُكتسَبات البلاد، ويجعل من نفسه، مرآةً لجهات الرقابة والنزاهة، فمن لم يرهبه وعيد القرآن ردعته درة السلطان، والله يَزَعُ بالسلطانِ، ما لا يَزَعُ بالقرآنِ، وشريعتنا المباركة، قد جعلت من الرَّقابة، مسؤوليَّةً يتحمَّلُها الفردُ كما تتحمَّلُها الجماعة قال تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

وقال : الواجب علينا معاشر المؤمنين أن نتعاون مع أجهزة الدولة، المعنية بالرقابة والنزاهة، وإنا لنحمدُ الله عز وجل، في هذه البلاد المُبارَكة أن أصبحت المملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، مثالا رائدا يحتذى به، في محاربة الفساد بكل صوره وأشكاله، فكونوا أيها الْمُؤمنون، يدًا واحدةً مع وُلاة أَمركم، لنهضة وطنكم، وعلو شأنكم، ولتفلحوا في دينكم ودنياكم، «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتقوى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

الدنيا حلوة خضرة

 ومن المدينة النورة، قال الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن البعيجان، إمام وخطيب المسجد النبوي،  إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا فتنة الدنيا فإنها متاع الغرور نعيمها يؤول إلى الزوال ومتاعها يصير إلى الاضمحلال وكل من فيها سيفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال.
واستشهد «البعيجان» خلال خطبة الجمعة من المسجد النبوي بالمدينة المنورة، بما قال تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ »، منوهًا بأن الاستخلاف في الأرض مسؤولية تستوجب الأمانة وقد قلدكم الله الأمانة التي أشفقت من حملها السموات والأرض والجبال، قال تعالى «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» .

الاستخلاف في الأرض مسؤولية 

وأوضح أن الاستخلاف يستوجب الأمانة وأن الأمانة تستلزم الصدق والنزاهة والإخلاص والوفاء بالعهود والعقود والحقوق والالتزامات والتعفف عن المحرمات وهي من مكارم الأخلاق، قال -عليه الصلاة والسلام-: « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» مبينا أن مقابل الأمانة هناك الخيانة وهي لؤم وآية من آيات النفاق فإذا ضيعت الأمانة وظهرت الخيانة فقد طاشت الموازين وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً وهتكت الحرم وانتشر الغلول والاختلاس للمال وانهارت القيم والحضارات قال جل من قائل: «أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون» .

وأضاف أن الإفساد في الأرض يهدد العباد وهو شؤم وخراب فمن مظاهره الغش والاختلاس والغبن والاحتيال وغسيل الأموال وكل ذلك النمو والتطور ويخل بتوفير الاحتياجات، مشيراً فضيلته إلى أن الاستخلاف في الأرض امتحان يستوجب محاسبة النفس ومراقبة الله تعالى فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه .

الإسلام يحمي المال ويصونه

وأشار إلى أن الاستخلاف في الأرض نعمة تستوجب الشكر ومن شكر الله تعالى على ذلك الاقتصاد وعدم الإسراف والمحافظة على النعم وعدم إتلافها فكفر النعم مؤذن بزوالها والإسراف إفساد في الأرض مؤذن بخرابها ، منوهًا بأن الإسلام يحمي المال ويصونه كمقصد من مقاصد التشريع الخمسة التي هي: النفس والعرض والعقل والدين والمال، فشرع من أجله الأحكام وأذن في الدفاع عنه والشهادة دونه .

وشدد على اقتران حرمة المال العام بحرمة الدماء فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ: السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قلْنَا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلَم، فَسكَتَ حَتَّى ظنَنَّا أَنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَليْس ذَا الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بلَى، قَالَ: فأَيُّ بلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّه وَرسُولُهُ أَعلمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سيُسمِّيهِ بغَيْر اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدةَ؟.

واستطرد:  قُلْنا: بلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَومٍ هذَا؟ قُلْنَا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلمُ، فَسكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّه سيُسمِّيهِ بِغيْر اسمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْر؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فإِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذا، في شَهْرِكم هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ ربَّكُم فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلا فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فلَعلَّ بعْضَ مَنْ يَبْلغُه أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَه مِن بَعْضِ مَنْ سَمِعه، ثُمَّ قال: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلا هَلْ بلَّغْتُ؟ قُلْنا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.متفقٌ عَلَيهِ، فاعلمو عباد الله أن هذا المال خضرة حلوة من أصابه بحقه بورك له فيه ورُبّ مُتخوضٍ ، فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار.