ربما يظن البعض أن البيان الذي أصدرته جبهة تحرير أورومو الممثلة للإقليم، والتي ينتمي لها أغلب قبيلة رئيس الوزراء الإثيوبي أبى أحمد، يعد مفاجأة وضربة قوية لرجل إثيوبيا الأول في خطوته الكارثية بالتعدي على حدود دولة الصومال، وإعلان توقيع اتفاقية ميناء بربة المثير للجدل، ولكن المتابع للمشهد الإثيوبي بدقة، يعلم أن البيان يعكس الواقع السياسي الداخلي لإثيوبيا، وأن ممارسات الرجل المثيرة للجدل ساهمت في تأجيج الصراعات الداخلية بين الدولة والأقاليم، وعلى رأسها إقليم أورومو.
[[system-code:ad:autoads]]
وخلال السنة الماضية، كان التوتر والصراع هو سمة العلاقة بين أبي أحمد وقبليته، وذلك في ظل ممارسات عرقية ودينية بحق الإقليم صاحب الأغلبية المسلمة، ففي مايو الماضي، تسببت الحكومة الإثيوبية، في العديد من المشاكل العرقية، وهو ما حدث مع مساجد المسلمين، حيث قامت الجهات الحكومية بهدم 19 مسجدا، وهو ما دفع لخروج الآلاف من المسلمين في مظاهرات حاشدة، وهي المظاهرات التي جاءت بعد أقل من أسبوعين على هجوم مسلح، شنته القوات الإثيوبية على مناطق قبائل الـ أوروميا، ما أثار مخاوف من اندلاع حرب أهلية، خاصة وأن الهجوم جاء في أعقاب فشل المباحثات بين الطرفين في العاصمة زنجبار.
الأورمو يكشفون نوايا أبي أحمد الحقيقية
ولكن البارز في البيان الصادر اليوم من جبهة تحرير أورومو، والخاص بما قام به رئيس الوزراء أبي أحمد واتفاقيته مع إقليم أرض الصومال المهددة لأمن البحر الأحمر، هو كشف النوايا الحقيقية لأبي أحمد في سعية لتنفيذ هذا الاتفاق، فقد وصفت الجبهة في بيانها الاتفاق بأنه غير قانوني وانتهاك لسيادة الصومال واستقلاله وسلامة أراضيه، ومشيرة إلى أن هدف الاتفاقية تضليل الرأي العام الإثيوبي وتحويل الاهتمام العالمي والإقليمي بعيداً عن الصراعات والاضطرابات الداخلية الكبيرة التي تعاني منها إثيوبيا.
وأكد بيان جبهة تحرير أورومو أيضاً على التاريخ المشترك والصراعات والروابط الثقافية بين الصوماليين وشعب الأورومو، والتزام الطرفين المشترك بالسعي من أجل السلام والوئام، وقد كان الاتفاق الذي أبرمته إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال الانفصالي يثير تبعات خطيرة، ويهدد بمخاطر تهدد الأمن في القرن الإفريقي والملاحة في البحر الأحمر والأمن العربي والمصري.
من هم الأورومو؟
و"الأورومو" كبرى القوميات الإثيوبية، يمثل المسلمون أغلبيتها الساحقة، وتحتج منذ عشرات السنين بسبب "انتهاك" حقوقها والتمييز الاقتصادي والمجتمعي الذي تمارسه الحكومة ضدها، وتناضل لإنصافها عبر مجموعة من المنظمات بعضها فصائل مسلحة، وتشمل منطقة "أوروميا" معظم أراضي وسط إثيوبيا، ومنها محتلة كبرى ولاياتها الـ 9، وتتكون من 10 أقاليم من أشهرها إقليم "شوا" الذي تقع في قلبه عاصمة البلاد أديس أبابا، وإقليم "هرر" الذي كان مملكة إسلامية طوال قرون عدة.
وتقدر مساحة منطقة "أوروميا" -التي يطالب أهلها بالاستقلال- بنحو 600 ألف كلم مربع، وتحد أراضيها شرقا صحراءُ أوغادين (الصومال الغربي)، وغربا جمهورية السودان، وشمالا أقاليمُ قوميتيْ "التغراي" و"العفر" ودولة إريتريا، وجنوبا كينيا التي للأورومو امتدادات بين سكانها، ويبلغ تعداد قومية الأورومو زهاء 40 مليونا، وتشكل أغلبية سكان البلاد البالغ عددهم نحو 94 مليون نسمة (حسب إحصاءات 2013) والمكونين من نحو 80 عرقية، ثم تأتي بعدها عدديا قومية "الأمهرية" -المهيمنة على حكم البلاد- بنسبة تقدر بـ27%، وللأورومو لغتها الخاصة بها والمختلفة عن "الأمهرية" التي هي اللغة الرسمية في إثيوبيا، وتتراوح نسبة المسلمين في قومية الأورومو بين 50% و80% حسب تباين مصادر الإحصاءات.
توافق الصومال مع الأورومو
ويأتي بينا الجبهة الإثيوبية ضد مواقف بلادها، ليتوافق مع موقف دولة الصومال، وخلال الأيام الماضية اتخذت الصومال خطوات جادة لمواجهة التحرك الإثيوبي الذي يهدد سيادتها ووحدة وسلامة أراضيها وأمنها، منها قرار الحكومة بإلغاء الاتفاق وسرعة التنسيق مع الجامعة والدول العربية لمواجهة هذا الاتفاق، فقد رفض الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، الاتفاقية في وقت سابق، قائلًا إنه لا يمكن استبدال أرض دولة الصومال بحصة في مشروع سد النهضة، أو الخطوط الجوية الإثيوبية أو شركة الاتصالات الإثيوبية.
وأضاف الرئيس الصومالي: "أدعو إثيوبيا إلى حسن الجوار، لدينا خيار واحد - العيش في سلام، والحفاظ على الصداقة، والتعاون من أجل المصالح المشتركة - والحكومة الصومالية مستعدة لذلك"، وكرر شيخ محمود موقفه كرئيس للصومال بأنه لن يقبل مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال، موضحا "لا يمكن استبدال الأراضي الصومالية بحصة في شركة مثل الخطوط الجوية الإثيوبية، أو الاتصالات الإثيوبية، أو سد النهضة حتى إذا قمت بدمجها، فلا يمكننا مبادلة الأراضي".
الأورومو تبحث عن التحرير من إثيوبيا
ولكن الملفت للنظر أن الأورومو ترى أن إثيوبيا ليست دولة موحدة من حيث التاريخ والثقافة واللغة المشتركة، وإنما تشكلت عبر حروب قادها "الغزاة الإثيوبيون" بمساعدة من الأوروبيين، بدافع تصورهم أن إثيوبيا "جزيرة مسيحية تعيش في بحر إسلامي"، ومنذ ستينيات القرن العشرين حاولت جماعات من ناشطي الأورومو إعادة صياغة مفهوم هويتهم الوطنية برفض الهوية الوطنية الإثيوبية "المفروضة على الجميع"، لكن الانشقاقات التي اتسمت بها صفوفهم ساهمت في إضعاف قدرتهم على تحقيق أهدافهم.
وقد شكلت الأورومو منظمات قومية عديدة منها "جبهة تحرير أورومو الإسلامية"،و"الرابطة الدولية لشعب الأورومو"، و"جمعية المرأة الأوروموية"، و"شباب مسيرة الأورومو"، لكن أبرز وأكبر هذه المنظمات هي "جبهة تحرير الأورومو" التي نشأت عام 1973، فحققت شعبية عظيمة في مناطق قوميتها، وفي عام 1991 شاركت الجبهة -مع "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية"- في تشكيل حكومة انتقالية للبلاد إثر إسقاط حكم منغستو هيلا مريام، الذي استولى على حكم البلاد عام 1974 وكان مدعوما من الاتحاد السوفياتي.
كفاح مسلح ضد الحكومة الإثيوبية
والجبهة -التي لا تزال ينظر إليها بوصفها الصوت المعبر عن مظالم الأورومو- وقد خرجت من التحالف الحاكم إثر انتخابات صيف 1992، وشنت بدءا من 1993 "كفاحا مسلحا" ضد الحكومة الإثيوبية التي تقودها قوميتا الأمهرية والتغراي، ولم تشارك في الحكم منذ ذلك التاريخ بل أصبحت تطالب بالحكم الذاتي أو الانفصال، وبعد ابتعاد جبهة تحرير أورومو عن العملية السياسية أصبحت "المنظمة الديمقراطية لشعب الأورومو" المشاركة في الحكومة هي المسيطر على المقاعد النيابية المخصصة لولاية أوروميا، وأصبحت هذه المنظمة تحتكر بصورة شبه كاملة السلطة السياسية في الولاية منذ 1992.
وفي العموم، تتهم الأورومو السلطات الإثيوبية بأنها تعتمد تجاهها سياسة القتل والتنكيل والاعتقال العشوائي، واغتصاب النساء والتهجير القسري والاستيطان المنظم والإبادة الجماعية ومحاربة الثقافة الخاصة لقوميتها، وباعتمادها سياسة تكرس انتشار الفقر والتخلف والجهل ومحاربة التنمية والتطور في مناطقها، كما تشتكي هذه القومية من منع السلطات أبناء الأورومو من استخدام لغتهم في التعليم، حيث يُشترط في من يلتحق بالمدارس والجامعات إتقان اللغة الأمهرية التي يرون أنها "لغة استعمارية"، الأمر الذي أدى إلى انتشار الجهل وسط أبناء القومية بنسبة 80%.
إثيوبيا واستراتيجية الأمر الواقع ضد القانون الدولي
تعد الخطوة الأخيرة التي قامت بها أديس أبابا تحركا عدائيا ضد دولة عربية، وهي الصومال، حيث أبرمت إثيوبيا في الأول من يناير الجاري (2024) اتفاقًا مبدئيًّا مع إقليم "أرض الصومال"، تتمتع أديس أبابا بموجبه بالوصول إلى البحر الأحمر تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية إثيوبية بالقرب من ميناء بربرة على مساحة 20 كيلومتر مربع لمدة 50 عامًا بحسب الاتفاق، مقابل اعتراف الحكومة الإثيوبية بـ"أرض الصومال" كدولة مستقلة، وحصول "أرض الصومال" على حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليار دولار وفقًا لإحصاءات عام 2022.
ويمثل هذا الاتفاق جزءًا من لعبة جيوسياسية إقليمية تديرها بعض الأطراف الإقليمية عبر وكيلها آبي أحمد في القرن الأفريقي، والتي تستهدف وضع قواعد جديدة للعبة الإقليمية وإعادة هندسة المنطقة، بما يجعلنا أمام مناورة متعددة الأهداف؛ فمن ناحية تحقق إثيوبيا طموحها القديم لحماية مصالحها الحيوية، وإيجاد موطئ قدم استراتيجي لها في المياه الدافئة، وفي الوقت نفسه، حماية مصالح هذه الأطراف الإقليمية، بما يثير المزيد من التساؤلات حول دورها الحقيقي في تشكيل سياسة آبي أحمد الخارجية خلال السنوات الأخيرة منذ صعوده للسلطة في عام 2018.