خلال العام الحالي صدر عن دار العربي للنشر رواية "جريمة في الظلام"، للكاتبة النرويجية كارين فوسم، والتي تعد أحد أهم وأشهر كتاب الجريمة الاسكندنافيين، ومن ترجمة المترجمة هند عادل.
واستمرارًا للدور الذي يلعبه "صدى البلد" لنشر الوعي والثقافة، ننشر فصلًا من هذه الرواية وذلك بالاتفاق مع دار العربي للنشر والتوزيع.
تعريف بكاتبة الرواية
دليلك إلى عالم "كارين فوسُم" والمحقق "كونراد سيير"
من هي كارين فوسُم؟
تُعرف كارين فوسم بـ"ملكة الجريمة" النرويجية.. فهي أشهر من كتب في أدب الجريمة بالنرويج وأكثرهم استمرارية.
كانت سلسلة الجريمة التي بدأت كتابتها في منتصف التسعينيات هي سلسلة "المحقق كونراد سيير"، والتي تُرجمت إلى أكثر من 25 لغة ونالت العديد من الجوائز، منها؛ جائزة "ريفرتون" الأدبية لأفضل رواية جريمة نرويجية في العام نفسه، وجائزة "المفتاح الزجاجي" عام 1997 كأفضل رواية جريمة. وتحولت إلى فيلم سينمائي. وقد فازت روايتها هذه بجائزة "براجي" الأدبية عام 2000، وجائزة "لوس أنجلوس تايمز للغموض والإثارة" عام 2007، كما كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة "الخنجر الذهبي لرابطة كُتَّاب الجريمة" عام 2005.
إن المحقق "سيير" رجل من الطراز القديم، عيبه الوحيد هو السجائر التي يدخنها طوال الليل ويشرب معها وهو يفكر في القضية التي أمامه، وتحت قدمه كلبه المخلص. يقضي وقته مع ابنته وابنها التي تبنته من الصومال، لكن لا شيء يشغل عقله عن القضية التي يعمل عليها. يحمل "سيير" قضاياه على محمل الجد، ولا يتهاون أبدًا في التحقيق فيها لمعرفة الحقيقة. وسلاحه الوحيد في سعيه للبحث عن الحقيقة ليس مسدسه ولكن إيمانه القوي بالعدالة، والتعاطف العميق، ورغبته في معرفة كيف يفكر العقل الإجرامي. وهو ككلب الصيد، ما إن يلتقط رائحة المتشبه به حتى ينطلق في أثره ولا يتركه إلا بعد أن يعرف سره.
إن سلسلة المحقق "سيير" تحمل الصفات الأساسية المؤسسة لروايات الجريمة الإسكندنافية، فهي تناقش مشاكل اجتماعية مختلفة؛ كما تلعب الطبيعة الإسكندنافية كذلك دورًا هامًا في هذه السلسلة؛ فالجرائم كلها تقع في قرى معزولة تحيط بها الجبال الصغيرة، والغابات، وكلها أماكن تشجع على ارتكاب الجرائم التي ربما لن يكتشفها أحد.
وما نجحت " كارين فوسم" في تحقيقه في هذه السلسلة هي أنها جمعت كل ما هو مألوف للقارئ في عالم روايات الجريمة؛ مثل الخلافات التي تتطور فجأة إلى أفعال عنف تتحوَّل إلى قتل، ثم التحقيقات التي تلي اكتشاف الجثة، أو ربما حتى اكتشاف شيء كان ينتمي لشخص اختفى فجأة، فتبدأ رحلة التحقيقات التي سنرافق فيها المحقق "كونراد سيير".
كان بيت أطفال،
بيت صغير بإطارات نوافذ حمراء وستائر خفيفة.
توقف على مسافةٍ قصيرة منه وأرهف السمع، لكنه لم يسمع شيئًا إلا لهاث الكلب الواقف بجانبه، وحفيف أشجار التفاح العتيقة. وقف وهلةً وهو يشعر بالعشب الرطب تحت حذائه، ويستمع لدقات قلبه التي اضطربت بعد تلك المطاردة في الحديقة. نظر الكلب إليه وانتظر. سال لعابه من فكه الضخم وظل يشمشم في الظلام بتركيز وأذناه تتحركان بانتباه، لعله يسمع أصواتًا لم يستطع هو سماعها. استدار الرجل ونظر خلفه إلى البيت الكبير. أنواره المضاءة وهالة الدفء والهدوء المحيطة به تدل على أن أحدًا من سكانه لم يسمعه، ولا حتى عندما نبح الكلب. سيارته ما زالت على الطريق، إطاراها الجانبيان فوق الرصيف وبابها مفتوح.
فكَّر بدهشةٍ في أنها قد تكون خائفة من الكلب. فانحنى وأمسك طوقه وسحبه نحو باب البيت اللعبة بخطى بطيئة. بالتأكيد لا يوجد مخرج خلفي في بيت الأطفال الصغير هذا، ولا حتى قفل على الباب. لا بدَّ أنها أدركت هذا بفزعٍ الآن، بل منذ أن حبست نفسها فيه. لا مفر.
لا فرصة لديها في الهرب.
الأول
كان المركز مبنى من الخرسانة الرمادية، ومكوَّن من سبعة طوابق، مع استدارة خفيفة في تصميمه. وفي الواجهة المطلة على الشارع الرئيسي هناك ساتر من الأشجار لتصد الرياح الباردة القادمة مع الثلوج التي تهب من جهة من النهر. أما الكبائن المبنية سالفًا في الخلف فهي محمية من برودة الشتاء، لكنها تختنق في حرارة الصيف. الواجهة التي تعلو المدخل يزينها تمثال حديث لسيدة العدالة لدى الإغريق"ثيميس"، وهي تمسك ميزانها. لكنها بدت عن بعد، من مخزن "ستاتويل" مثلًا، أكثر شبهًا بساحرة شريرة تركب مكنسة. يحتل قسم الشرطة والسجن آخر ثلاثة طوابق من المبنى، وكذلك المباني الخارجية الملحقة به.
فتح شخصٌ ما الباب بزمجرةٍ عصبية، فوضعت سيدة "برينيجن" إصبعها على الجملة التي توقفت عند قراءتها. إنه المحقق "سيير" برفقة امرأة بدت وكأنها عانت الأهوال. كانت ذقنها مجروحة، ومعطفها وتنورتها مهترئين، وفمها ينزف. في العادة لا تطيل سيدة "برينيجن" النظر إلى أي شيء. لقد عملت موظفة استقبال هنا لسبع عشرة سنة، رأت فيها الكثير، لكنها اندهشت هذه المرة لدرجة أنها أغلقت الكتاب بقوة. أمسك "سيير" بذراع المرأة وقادها إلى المصعد. سارت معه وهي تحني رأسها، ثم أغلق باب المصعد.
كان وجه "سيير" جامدًا، من المستحيل قراءة أفكاره. جعله هذا يبدو قاسيًا، لكنه في الحقيقة متحفظًا فقط. خلف ملامحه الجامدة تقبع روحه العطوفة. ليس معتادًا الابتسام بود إلا إذا احتاج إلى التقرب من الناس، وقلة من الأشخاص من سمعوا منه مديحًا. أغلق باب مكتبه وأومأ باتجاه الكرسي الوحيد في الغرفة. ثم أخذ بعض المناديل المعلقة فوق الحوض وبللها بالماء الساخن وأعطاها المرأة. مسحت فمها ونظرت حولها. كانت الغرفة شبه فارغة. على الجدران رسوم طفل، وتمثال صغير من الصلصال على المكتب. هذا هو الدليل الوحيد على أنه يملك حياة خاصة خارج هذا المحيط القاسي. من المفترض أن يصوِّر التمثال ضابط شرطة، لكنه متداعٍ وبطنه متدلية وحذاؤه كبير. إنه لا يشبه أبدًا صاحبه المحقق الذي يجلس الآن وينظر إليها بعينين رماديتين جادتين. يوجد جهاز تسجيل، وكمبيوتر من نوع "كومباك" على المكتب. نظرت المرأة إليهما بقلق وأخفت وجهها خلف المناديل. تركها تهدأ وأخذ شريط تسجيل من الدرج وكتب عليه "إيفا ماري ماجنوس". سألها بلطف:
- هل تخافين من الكلاب؟
رفعت وجهها وقالت:
- في الماضي ربما، لكن ليس الآن.
كوَّرت المناديل وواصلت:
- كنت أخاف من كل شيء. أما الآن فلم يعد هناك ما يخيفني على الإطلاق.
الثاني
اندفع النهر بين الأراضي الريفية قاسمًا البلدة الباردة إلى جانبين رماديين. لقد حل شهر أبريل وما زال الجو شتويًّا. يبدأ النهر بالصخب والزمجرة عند المستشفى في وسط البلدة، وكأن ضجيج المرور والضوضاء على ضفتيه أزعجاه. ظل ينحني ويرتطم، في حين يتقدم بتياراتٍ قوية. يمر بالسينما القديمة، وبمقر حزب العمال، وبالسكة الحديد، وبالميدان المؤدي إلى الصرافة القديمة التي أصبحت الآن أحد فروع "ماكدونالدز"، ومصنع الخمور ذي اللون الوردي والأقدم في البلدة، والسوبرماركت، وجسر الطريق السريع، ومنطقة صناعية ضخمة تضم العديد من شركات السيارات، وأخيرًا الفندق القديم على جانب الطريق. هناك يزفر النهر للمرة الأخيرة قبل أن يصب في البحر.
كان النهار في آخره والشمس بدأت في الغروب. عندها تحول مظهر مصنع الخمور تدريجيًّا من مبنى ضخم كئيب إلى قلعة خيالية تعكس آلاف الأضواء على النهر. تبدو البلدة جميلة فقط في الظلام.
شاهدت "إيفا" الفتاة الصغيرة وهي تجري على ضفة النهر. كانت المسافة بينهما عشرة أمتار، وحرصت على ألا تزيد. كان الجو غائمًا، لذلك كانت البلدة خالية من المارة. هبَّت رياح خفيفة على النهر المتدفق. ظلت "إيفا" تبحث عن أصحاب كلاب حولها لتتأكد إذا كانت الكلاب مؤمَّنة أم لا. فهي لا تطمئن إلا بعدما تبتعد عنها. لكن هذه المرة لم تجد أيًّا منها. حركت الرياح تنورتها وتسللت تحت سترتها حتى شعرت بالبرد فأحاطت نفسها بذراعيها وهي تسير. أما الصغيرة "إيما" فسارت أمامها وهي تقفز بسعادة لكن بروية لأنها بدينة. طفلة بدينة بفمٍ كبير ووجه مربع. عبثت الرياح بشعرها الأحمر فأخذ يلفح عنقها. والجو الرطب جعله أشعث. لم تكن طفلة جميلة بالتأكيد. لكنها لا تدرك هذه الحقيقة، فأخذت تقفز بلا مبالاة وبإقبال على الحياة لا يملكه إلا طفل. بلغت "إيما" السابعة. تبقى خمسة شهور حتى تبدأ الدراسة. ذات يوم سترى التنمر في عيون الأطفال في الحديقة. ستدرك مظهرها غير الجميل أول مرة. لكنها لن تهتم لو كانت قوية كوالدها، والدها الذي هجرهما من أجل امرأة أخرى. هذا ما كان يشغل بال "إيفا ماجنوس" وهي تسير، بالإضافة إلى ندمها على ترك المعطف في البيت.
تحفظ "إيفا" الطريق عن ظهر قلب، فقد تمشَّيا فيه كثيرًا. "إيما" هي من تصرُّ على هذا، فهي لم ترغب في ترك عادة التمشية بجانب النهر، بعكس "إيفا". بين حين وآخر تقترب الطفلة من حافة النهر لترى شيئًا أثار اهتمامها. راقبتها "إيفا" بعيني صقر خشية أن تسقط في الماء دون وجود من ينقذها. فالنهر يتدفق بقوة، ومياهه شديدة البرودة والطفلة ثقيلة الوزن؛ ارتجفت من هول الفكرة. هذه المرة وجدت الطفلة حجرًا مسطحًا إلى جانب الضفة. فأشارت إلى والدتها ونادتها لتأتي. تبعتها "إيفا". كان الحجر بالكاد يكفي لتجلسا عليه.
- لا يمكننا الجلوس عليه، فهو مبتل؛ سنصاب بالتهاب في المثانة.
- هل هذا خطير؟
- لا، لكنه مؤلم ويحرق. وستدخلين إلى الحمام طوال الوقت.
جلستا بكل الأحوال وشاهدتا دوامات التيار وتابعتا حركة المياه بدهشة. سألت "إيما":
- لماذا توجد تيارات مائية؟
فكرت "إيفا" قليلًا ثم قالت:
- بصراحة لا أعرف. ربما يتعلق الأمر بقاع النهر. يوجد الكثير من الأشياء التي لا أعرفها. ستعرفينها عندما تذهبين إلى المدرسة.
- هذا ما تقولينه كل مرة عندما لا تعرفين إجابة شيء.
- إنها الحقيقة. يمكنكِ سؤال معلمتكِ. المعلمون يعرفون أكثر مني بكثير.
- لا أظن هذا.
طافت علبة بلاستيكية بالقرب منهما بسرعة.
- أريدها! يجب أن تمسكيها لي!
-لا، اتركيها. إنها قمامة. أشعر بالبرد يا "إيما". ألا يمكننا العودة إلى البيت الآن؟
- بعد قليل.
وضعت"إيما" شعرها خلف أذنيها وأراحت ذقنها على ركبتيها. لكن شعرها كان أشعث فعاد أمام وجهها مجددًا.
أشارت إلى النهر وسألت:
- هل النهر عميق؟
ردت "إيفا" بهدوء:
- لا. ثمانية أو تسعة أمتار على ما أظن.
- هذا عميق جدًّا.
- لا، ليس كذلك. أعمق مكان في العالم يقع في المحيط الهادئ، اسمه "خندق ماريانا". إنه هوة سحيقة بعمق أحد عشر ألف متر. هذا ما أصفه بالعميق جدًّا.
- ما كنت لأذهب للسباحة هناك. أنتِ تعرفين كل شيء يا أمي. لا أظن أن المعلمين يعرفون كل هذا. أريد حقيبة وردية.
ردت "إيفا" وهي ترتجف من البرد:
- إنها جميلة لكنها ستتسخ بسهولة. أظن أن الحقائب الجلدية البنية لطيفة. هل رأيتها؟ مثل حقائب الأولاد الكبار.
- أنا لست كبيرة. سوف أبدأ الدراسة للتو.
- نعم، لكنكِ ستكبرين. ولا يمكنكِ الحصول على حقيبة جديدة كل عام.
- لكننا نملك المزيد من المال الآن، أليس كذلك؟
لم تجب "إيفا". جعلها السؤال تدير وجهها إلى الخلف بشدة. إنها عادة اكتسبتها مع الوقت. وجدت "إيما" عصا فأخذتها ووضعت طرفها في الماء.
- لماذا توجد رغوة في الماء؟ رغوة صفراء مقززة.
أخذت تلعب بالعصا في الرغوة وأضافت:
- هل أسأل في المدرسة أيضًا؟
ظلت "إيفا" صامتة. أسندت ذقنها إلى ركبتيها وشردت بعيدًا. لم تعد "إيما" مركز تفكيرها الآن. أعاد النهر إليها الذكريات. برز لها وجه تحت سطح الماء الداكن. وجه مستدير بعينين ضيقتين وحواجب سوداء.
"استلقي على السرير يا إيفا".
"ماذا"؟
"افعلي ما أقول. استلقي على السرير".
فجأة أخرجتها "إيما" من ذكرياتها وسألت:
- هل يمكننا الذهاب إلى "ماكدونالدز"؟
- ماذا؟ نعم، لمَ لا. سنذهب إلى "ماكدونالدز". على الأقل الجو دافئ هناك.
نهضت وهي مشتتة إلى حدٍّ ما وأمسكت ذراع الطفلة. هزت رأسها ونظرت إلى النهر. اختفى الوجه الآن، لكنها تعرف أنه سيعود ليؤرق أيامها. عادتا إلى الطريق وسارتا ببطءٍ نحو البلدة. لم تقابلا مخلوقًا واحدًا.
شعرت "إيفا" بالأفكار تعصف بعقلها وتذكرها بما ترغب أن تنساه. استدعى هدير النهر مجموعة من الصور لذاكرتها. لقد انتظرت بصبر حتى تختفي وتتركها في سلام، انتظرت حتى مر الوقت، وتحولت الأيام إلى ستة أشهر.
- هل يمكنني الحصول على وجبة الأطفال مع لعبة؟ ثمنها سبعة وثلاثون كرونة. تنقصني شخصية علاء الدين.
- نعم.
- ماذا ستطلبين يا أمي؟ دجاج؟
- لا أعرف بعد.
نظرت إلى المياه الداكنة مجددًا، أصابتها فكرة الأكل بالغثيان. لم تكن مهتمة بالطعام. راقبت مستوى الماء وهو يعلو ويهبط تحت الرغوة الصفراء القذرة.
- مع المزيد من المال، يمكننا أن نتناول كل ما نريد، أليس كذلك يا أمي؟
ظلت "إيفا" صامتة. توقفت فجأة ودققت النظر حين لمحت شيئًا شاحبًا تحت سطح الماء مباشرةً. إنه جسد يتهادى مع التيار القوي الذي يدفعه إلى الضفة. انشغلت بالمنظر إلى درجة أنها نسيت الفتاة الصغيرة التي ترى أفضل بكثير من أمها.
صاحت "إيما" بذهول:
- إنه رجل!
لوهلة تحجرتا مكانهما بارتباك بينما تنظران إلى الجثة المتحللة المتعفنة وهي تطفو وسط الصخور. كان وجهه للأسفل. لاحظتا أن شعره خفيف ولمحتا بقعةً صلعاء. كانت "إيفا" في حالة ذهولٍ تام، وظلت أصابعها تعبث بسترتها من التوتر. نظرت إلى الجثة الشاحبة بشعرها الأشقر ولم تتذكر رؤية هذا الرجل في البلدة من قبل. لكن حذاءه الرياضي الأزرق والأبيض بدا مألوفًا.
كررت "إيما" بصوتٍ خافت:
- إنه رجل.
أرادت "إيفا" أن تصرخ، لكن الصرخة اختنقت في حلقها.
- إنه غريق. الرجل المسكين. لقد غرق يا "إيما"!
- لماذا يبدو قبيحًا؟ يبدو رخوًا مثل الجيلي!
تلعثمت وهي ترد:
- لأنه.. لأنه مات منذ فترة.
عضت شفتيها بقوةٍ أدمتها حتى أشعرها طعم الدم بالغثيان.
- هل نخرجه؟
- لا! لا تكوني سخيفة! الشرطة ستفعل ذلك.
- هل ستتصلين بهم؟
وضعت "إيفا" ذراعها على كتف الطفلة البدينة وسارت معها وهي تترنح. نظرت خلفها بسرعة وكأنها تتوقع هجمة مفاجئة لكن لا تعرف من أين. هناك تليفون عام في طريق الجسر. سحبت الطفلة خلفها وبحثت في جيب تنورتها على عملات معدنية. وجدت عملة بخمسة كرونة. طافت صورة الجثة المتحللة أمامها مثل نذير شؤم يحذرها مما هو قادم. لقد استطاعت أن تهدأ بعد فترةٍ طويلة، فالوقت يخفف من كل شيء حتى الكوابيس. لكن الآن عاد قلبها يرتجف مجددًا. كانت "إيما" صامتة. تبعت والدتها والخوف بادٍ في عينيها الرماديتين ثم توقفت.
- انتظري هنا. سأتصل بالشرطة وأخبرهم أن يأتوا ليأخذوا الجثة. لا تتحركي!
- سننتظرهم، صحيح؟
- لا، بالتأكيد لن ننتظر.
دخلت كابينة التليفون وهي تحاول السيطرة على ذعرها. هاجمها شلال من الأفكار، لكنها نفضتها واحدة تلو الأخرى. ثم اتخذت قرارًا سريعًا. كانت يدها متعرقة. دفعت العملة المعدنية في الفتحة بصعوبة، واتصلت برقمٍ بسرعة. أجاب والدها بصوتٍ ناعس. همست قائلة:
- إنه أنا، "إيفا". هل أيقظتك؟
- نعم، لكنكِ اتصلتِ في الوقت المناسب. لو انتظرت قليلًا لكنت دخلت في نومٍ عميق. هل توجد مشكلة؟ تبدين متوترة. أسمع ذلك في صوتكِ. أعرفكِ جيدًا.
كان صوته جافًا وأجش، لكن ما زال به نبرة اهتمام لطالما أحبتها. أعادها صوته الحاد للواقع بسرعة.
- لا، لا مشكلة. أنا و"إيما" خرجنا لتناول الطعام ووجدنا كابينة التليفون هذه.
- دعيني أتحدث معها إذًا!
- إنها تقف على ضفة النهر.
راقبت عداد المكالمة وهو يلتهم الثواني. ألقت نظرة سريعة على "إيما" الواقفة خارج الكابينة وتضغط وجهها على الزجاج. كانت أنفها مسطحة مثل المارشميلو. هل تسمع ما تقوله يا ترى؟
- لا أملك عملات كافية الآن. سنأتي لزيارتك قريبًا إن أحببت.
سألها بريبة:
- لماذا تهمسين هكذا؟
قالت بصوتٍ أعلى قليلًا:
- هل أهمس حقًّا؟
- عانقي الطفلة من أجلي. لديَّ هدية لها حين تأتي.
- ما هي؟
- حقيبة مدرسية. ستحتاج حقيبة للمدرسة في الخريف، صحيح؟ فكرت في توفير بعض المصاريف عليكِ. أعلم أن أموركِ لا تسير على ما يرام.
آهٍ لو يعرف. قالت:
- هذا لطفٌ منك يا أبي. لكنها تريد شيئًا محددًا. هل يمكننا تبديلها؟
- نعم، طبعًا. لكنني اشتريت الحقيبة التي رشحوها لي. حقيبة جلد وردية.
أجبرت "إيفا" صوتها أن يبدو طبيعيًا، وقالت:
- عليَّ الذهاب يا أبي. فالوقت ينفد مني. اعتن بنفسك.
سمعت تكة ثم انتهت المكالمة، لقد توقف العداد.
نظرت "إيما" إليها بترقب وسألت:
- هل سيأتون؟
- نعم، سيرسلون سيارة شرطة. هيا، لنذهب ونأكل. سيتصلون بنا لو أرادوا التحدث معنا. لكن لا أظنهم سيحتاجون إلى ذلك. ليس الآن على الأقل، ربما لاحقًا. عندها سيتصلون. على كل حال، لا علاقة لنا بكل هذا.
كانت تتحدث بفزعٍ وهي تلهث.
- ألا يمكننا انتظار وصولهم؟ أرجوكِ؟
هزت "إيفا" رأسها نفيًا. عبرت الشارع مع الفتاة الصغيرة، بينما جثة الرجل ملقاة على الضفة. بدا مظهرهما متناقضًا بشدة بينما تسيران في البلدة. "إيفا" طويلة ونحيلة بكتفين هزيلين وشعر طويل وداكن. أما "إيما" فبدينة وعريضة وركبتاها ملتصقتان ببعضهما وتتهادى قليلًا في السير. شعرت الاثنتان بالبرد، فالبخار الصادر من الماء المثلج يؤثر في مناخ البلدة. قالت "إيفا" لنفسها أن هذه البلدة غير متناغمة على الإطلاق، وكأن انقسامها إلى نصفين يحرمها من السعادة. فكل جانب يحاول فرض سيطرته. النصف الشمالي يضم الكنيسة والسينما وأغلى المتاجر، أما الجنوبي فيضم السكة الحديدية والمتاجر الرخيصة والبارات ومحلات بيع الخمور. العنصر الأخير هو المهم لأنه يضمن حركة مستمرة بين جانبي المدينة عبر الجسر.
- لماذا غرق هذا الرجل يا أمي؟
نظرت "إيما" إلى وجهها في انتظار إجابة.
- لا أعرف. ربما كان سكرانًا وسقط في النهر.
- وربما كان يصطاد وسقط من قاربه. كان عليه ارتداء سترة نجاة. هل كان عجوزًا يا أمي؟
- ليس تمامًا. إنه بعمر والدكِ تقريبًا.
قالت "إيما" بارتياح:
- على الأقل أبي يمكنه السباحة.
وصلتا إلى الباب الأخضر لمطعم "ماكدونالدز"، فدفعت "إيما" الباب بكل قوتها وفتحته. جذبتها رائحة البرجر والبطاطس، وفتحت شهيتها أكثر. تجاهلتا جثة الرجل في النهر، وتجاهلتا كل مشكلات الحياة. المهم الآن أن "إيما" جائعة وتريد لعبة علاء الدين.قالت "إيفا":
- ابحثي لنا عن طاولة، وسأطلب الطعام.
تقدم الطابور. نظرت بشرود إلى الشباب الواقفين خلف طاولة الطلبات، بقبعاتهم الحمراء وقمصانهم الحمراء قصيرة الأكمام. إنهم يعملون بسرعةٍ كبيرة. اخترقت أنفها سحابة الدخان التي تحمل روائح الدهون واللحم المحمر والجبن الذائب والتوابل المختلفة. لكن لم يبد الموظفون عابئين بالدخان الكثيف، بل ظلوا يتحركون بحماس مثل عاملات النمل الأحمر، ويبتسمون لبعضهم بتفاؤل مع كل طلبٍ يأخذونه. شاهدت حركات أيديهم وأرجلهم الرشيقة. هذا لا يشبه إيقاع عملها أبدًا. فهي تقف في وسط المرسم معظم الوقت وهي تشبك ذراعيها وتعاين لوحةً زيتية بنظرةٍ عابسة أو متفحصة. في أفضل الأحوال كانت تنظر بعدائية وتواصل النقد بكل حدة وثقة. وكل فترة طويلة تتمكن من بيع لوحة. قالت للموظفة:
- أريد وجبة أطفال من فضلك.
ثم أضافت:
- وأيضًا قطع دجاج "ناجتس" واثنين من الصودا. هل يمكن أن تضعي لعبة علاء الدين؟ فهي ما تنقصها.
ذهبت الفتاة لتنفيذ طلبها ويداها تتحركان بسرعة البرق. مدتَّ "إيما" رأسها لتتابع أمها بعينيها حتى رأتها قادمة وهي تحمل صينية الطعام. بدأت ركبتا "إيفا" ترتجفان وجلست إلى الطاولة بتثاقل وهي تنظر بتعجبٍ للطفلة التي تفتح علبة الوجبة بلهفة بحثًا عن لعبتها. ثم ثارت بفرحة:
- حصلت على علاء الدين يا أمي!
رفعت اللعبة عاليًا لتريها للمطعم كله. نظروا إليها جميعًا، فأخفت "إيفا" وجهها بيديها وبكت.
تفاجأت "إيما" وقالت بجدية مفاجئة وهي تخفي اللعبة تحت الطاولة:
- هل أنتِ مريضة؟
- لا، بصراحة، لست متأكدة. سأكون بخير.
- هل أنتِ منزعجة بسبب الرجل الميت؟
ردت ببساطة:
- نعم. أنا منزعجة بسبب الرجل الميت. لكننا لن نتحدث عنه مجددًا. إياكِ يا "إيما"! ليس مع أي شخص! لن يسبب لنا هذا سوى الحزن.
- هل كان له أولاد يا ترى؟
مسحت "إيفا" وجهها بيديها. لم تعد واثقة من المستقبل. نظرت إلى قطع الدجاج المقلية الدسمة بلونها البني، وعلمت أنها لن تستطيع تناولها. دارت بعض الصور في عقلها بسرعةٍ مجددًا، ثم قالت:
- نعم، على الأرجح لديه أولاد.
الثالث
خرجت امرأة مسنة لتتمشى مع كلبها. وفجأة لمحت بين الحجارة الحذاء الأزرق والأبيض. اتصلت بالشرطة من كابينة التليفون العمومي القريبة من الجسر، كما فعلت "إيفا" تمامًا. عندما وصلت الشرطة، كانت المرأة تقف عند الجسر مرتبكة وظهرها للجثة. الضابط "كارلسين" هو أول من خرج من السيارة. ابتسم بتهذيبٍ للمرأة عندما رآها، ونظر بتساؤلٍ إلى كلبها. فقالت:
- إنه صيني، من فصيلة "الكلب الصيني المُتوَّج" الصلعاء.
إنه مخلوق عجيب بحق. صغير ومجعد ولون جلده الوردي ظاهر. لديه فقط فرو أصفر كثيف وقذر على رأسه. فيما عدا ذلك فهو أصلع تمامًا. سألها الضابط بلطف:
- ما اسمه؟
- "آدم".
أومأ وابتسم وهو ينحني على صندوق السيارة ليخرج معداته. عانى رجال الشرطة لينتشلوا جثة الرجل حتى استطاعوا أخيرًا وضعها على غطاء مشمع سميك. لم يكن رجلًا ضخمًا، لكنه بدا كذلك بعد بقاء الجثة في الماء لفترة. تراجعت المرأة صاحبة الكلب قليلًا. عمل رجال الشرطة بسرعةٍ ودقة. التقط المصور صورًا، انحنى طبيب شرعي بجانب الجثة وكتب ملاحظات. معظم أسباب الوفاة بسيطة، ولم يتوقعوا شيئًا غريبًا. ربما كان مخمورًا وسقط في الماء. هناك الكثير من أمثاله يتجمعون تحت الجسر وفي الطرقات ليلًا. صاحب الجثة ذكر بين العشرين والأربعين من عمره، نحيل لكن ببطن كبيرة، أشقر، ليس فارع الطول. ارتدى "كارلسين" قفازًا مطاطيًا في يده اليمنى ورفع ملابس الجثة بحذر.قال باختصار:
- هناك العديد من الطعنات. لنقلبه.
حل الصمت إلا من صوت ارتداء وخلع القفازات المطاطية، وصوت الكاميرات، وأنفاس الضباط، واحتكاك الغطاء المشمع بينما يفردونه بجانب الجثة.
تمتم "كارلسين":
- أتساءل هل حقًّا عثرنا على جثة"إينارسون" أخيرًا؟
اختفت محفظة الرجل، هذا لو كان معه واحدة من البداية أصلًا. لكن ساعته ما زالت موجودة، وهي مليئة بالإمكانيات. مثل توقيت نيويورك وطوكيو ولندن. غاص سوارها الأسود في معصم الجثة المنتفخ، لا بدَّ أنها ظلت في الماء فترةً طويلة. على الأرجح حملها التيار من مسافةٍ بعيدة، لهذا لن يفيدهم مكان العثور عليها بشيء. ومع ذلك تحققوا وفحصوا الضفة علهم يجدون آثار أقدام مثلًا. لكن لم يجدوا إلا علبة معدنية فارغة من سائل ما غير قابل للتجمد وعلبة سجائر. اجتمع عددٌ من الناس في الطريق، معظمهم من الشباب الذين يحاولون رؤية الجثة التي على الغطاء المشمع. بدأت في مرحلة التحلل فعلًا. أخذ الجلد يتساقط عنها، خاصةً عند اليدين، وكأنه يرتدي قفازًا واسعًا عليه. اختفى اللون من جسده. أصبحت عيناه شفافتين وباهتتين بعدما كانتا خضراوين. تساقطت خصلات شعره. انتفخ وجهه حتى بات تمييز ملامحه صعبًا. تجمعت مخلوقات النهر من جراد البحر وحشرات وأسماك في جثته. أما الطعنات الحمراء فكان لونها متناقضًا جدًّا مع لحمه الشاحب. قال أحد الفتيان المجتمعين في الطريق:
- كنت أصطاد هنا.
لم يرَ جثة في سنوات حياته السبعة عشر. لم يكن يؤمن بالموت أو بالرب لأنه لم ير أيًا منهما. أخذ يخفي وجهه في سترته وهو يرتجف. من الآن فصاعدًا لن يستبعد حدوث أي شيء.
انتهى تقرير الطب الشرعي بعد أسبوعين. دعا المحقق "كونراد سيير" خمس أفراد لغرفة اجتماعات موجودة في أحد المباني الملحقة بالمركز. لقد تم بناؤها مؤخرًا من مواد معدة مسبقًا، بسبب نقص المساحة في المبنى الرئيسي. وهكذا وضعوا فيها مجموعة من المكاتب المخفية عن عيون العامة، إلا من التعساء الذين قبضت عليهم الشرطة. حصلوا على بعض المعلومات، مثل هوية الرجل. كان هذا سهلًا لأن اسم "يوران" كان محفورًا على خاتم زفافه. هناك ملف من أكتوبر الماضي يحمل بيانات عن المفقود "إيجيل إينارسون". عمره ثمانية وثلاثون سنة، يسكن في "روزينكرانتزجايت"، عقار رقم 16. شوهد آخر مرة في الساعة التاسعة مساء الرابع من أكتوبر. ترك وراءه زوجة وابنًا بعمر ست سنوات. كان الملف خفيفًا في البداية، لكن سرعان ما ملأته الأوراق وأثقلته الصور الفوتوغرافية الجديدة. ولم تكن صورًا جميلة. استجوبت الشرطة عدة أشخاص منذ اختفائه، مثل زوجته وزملائه في العمل ومعارفه وأصدقائه وجيرانه. لم يكن لديهم ما يقولونه عنه. مجرد رجل أبيض بلا أعداء، على حد علمهم على الأقل. كان يعمل في وظيفةٍ عادية في مصنعٍ للخمور، ويتناول العشاء في بيته كل يوم، ويقضي معظم وقت فراغه في المرآب ليصلح سيارته العزيزة أو مع أصدقائه في البار في جنوب المدينة. اسم البار "كينجز أرمز". ربما كان "إينار" مسكينًا راح ضحية مدمن شرير طمع في ماله ورآه هدفًا سهلًا وسط البرد والرياح. إما هذا أو أن لديه سرًا ما. ربما كان مديونًا.
نظر "سيير" إلى التقرير ودلك عنقه. لطالما انبهر بقدرة أطباء التشريح على التعامل مع الجثث المتعفنة، وتجميع الجلد والشعر والعظام والعضلات، واستعادة شكل الجثة لمعرفة العمر والوزن والصفات الجسدية والحالة الصحية، والعمليات الجراحية التي مر بها صاحب الجثة وحالة الأسنان والصفات الوراثية. قال بصوتٍ مسموع:
- هناك بقايا جبن ولحم وبابريكا وبصل في معدته. يبدو أنه أكل بيتزا.
- هل يمكنهم أن يكونوا بهذه الثقة بعد مرور ستة أشهرٍ على الوفاة؟
- نعم، طبعًا. طالما أن السمك لم يلتهم كل شيء. هذا يحدث أحيانًا.
كان "سيير" رجلًا صلبًا، في التاسعة والأربعين من عمره. تغير لون ساعديه لأنه يشمر أكمام قميصه، فتظهر العروق والأوتار تحت الجلد، ويبدو ذراعه مثل جذع شجرة. وجهه مشدود وملامحه حادة إلى حدٍّ ما. كتفاه مستقيمتان وعريضتان. يبدو مثل شخصٍ مرَّ بالكثير، لكنه أيضًا تحمل الكثير. شعره مدبب وقصير، ولونه رمادي أقرب إلى الفضي الداكن. عيناه واسعتان وصافيتان، ولونهما رمادي لامع. هكذا وصفته زوجته "إليز" ذات مرةٍ منذ سنوات. وقد أعجبه وصفها.
كان "كارلسين" أصغر منه بعشر سنوات، وأقل منه حجمًا. في أول وهلة قد يبدو من الأشخاص المبالغين في الاهتمام بمظهرهم، دون أن تكون لهم أهمية أو هيبة، خاصةً بشاربه المشذب وشعره الكثيف المصفف بعناية.
أما "جوران سوت" - الأكثر نشاطًا بينهم - فكان يحاول أن يفتح كيسًا من حلوى الجيلي دون أن يصدر صوتًا. "سوت" لديه شعر كثيف ومموج، وجسد متناسق مفتول العضلات، وبشرة نضرة. كل جزء من جسده على حدة يعتبر مسرَّة للناظرين، أما كل الأجزاء مجتمعة تبدو كومة من العضلات المبالغ فيها. لكنه غير مدرك لهذا الأمر المضحك. جلس رئيس المحققين "هولتهيمان" بالقرب من الباب، متحفظًا وجادًّا كالعادة. جلست خلفه ضابطة بشعرٍ قصير جميل. أما عند النافذة، جلس "جايكوب سكاري" وهو يستند بذراعه إلى الإطار. سأل "سيير":
- كيف الحال مع السيدة "إينارسون"؟
كان يهتم بشأن الناس، وكان يعلم أن لديها ابنًا.
هز "كارلسين" رأسه وقال:
- إنها مرتبكة قليلًا. سألت إن كان يمكنها الحصول على قيمة التأمين على الحياة على الأقل، ثم انهارت بالبكاء، لأن أول ما فكرت فيه في هذه الظروف هو المال.
- لماذا لم تحصل على قيمة التأمين؟
- لم تكن لدينا جثة.
- سأتحدث في هذا الأمر مع شخصٍ مسؤول. كيف كانا يعيشان طوال الستة أشهر الأخيرة؟
- على الإعانة الاجتماعية.
هز "سيير" رأسه وتصفح التقرير، في حين وضع "سوت" حبة جيلي خضراء في فمه ومد ساقيه. قال "سيير":
- وجدنا السيارة في مكب النفايات العام. بحثنا في القمامة أيامًا. في الواقع لقد تعرض للقتل في مكان مختلف تمامًا، ربما في النهر. ثم ركب القاتل السيارة وقادها إلى مكب النفايات. من الغريب أن "إينارسون" ظلَّ في النهر ستة أشهر ولم يظهر قبل الآن. بالتأكيد أن القاتل تمنى ألا يظهر أبدًا. لا بدَّ أنه يعيد حساباته الآن وهو يواجه تلك الصدمة.
تساءل "كارلسين":
- هل علقت الجثة بشيءٍ مثلًا؟
- لا أعرف. هذا غريب. لا يحتوي قاع النهر إلا على الحصى. لقد جُرِفَ منذ مدةٍ قصيرةٍ لتنظيفه. ربما طافت جثته نحو الضفة وعلقت بشيءٍ هناك. نتوقع أن ظهوره كان بسبب هذا على كل حال.
قال "كارلسين":
- تم تنظيف سيارته بعمق من الداخل. ولوحة العداد لُمِّعَتْ. لا توجد بها بقعة واحدة. لقد خرج بها ليبيعها.
قال "سيير":
- وزوجته لا تعلم من قد يكون المشتري.
- إنها لا تعرف شيئًا على الإطلاق. يبدو أن هذا كان أمرًا معتادًا في تلك الأسرة.
- ألم يتصل أحد ليسأل عنه؟
- لا. لقد أخبرها فجأة أنه وجد من يشتري السيارة. أما هي فاندهشت لأنه تعب كثيرًا حتى ادخر ثمنها، وظلَّ أشهرًا يصلحها ويعتني بها كما لو كانت ابنته.
قال "سيير" وهو ينهض:
- ربما كان في حاجةٍ إلى المال.
ثم بدأ يسير في الغرفة وهو يقول:
- يجب أن نجد المشتري. أتساءل ماذا حدث بينهما. وفقًا لأقوال زوجته، كانت معه مائة كرونة في محفظته. علينا البحث في سيارته مجددًا. شخصٌ ما جلس فيها وقادها عدة كيلومترات، إنه القاتل. بالتأكيد ترك فيها شيئًا سهوًا!
قال "كارلسين":
- لكن السيارة بيعت.
- كنت أعرف أن هذا سيحدث!
قال "سكاري"، الرجل ذو الشعر المموج:
- معاينة سيارة في التاسعة مساءً يعتبر وقتًا متأخرًا جدًّا. يكون الظلام حالكًا جدًّا بحلول التاسعة في ليالي أكتوبر. لو أنني سأشتري سيارة، سأودُّ رؤيتها في وضح النهار. ربما كانت خطة مدبرة. خدعة مثلًا.
قال "سيير" وهو يحك ذقنه بأظافره المقصوصة بعناية:
- نعم. إن أردت اختبار سيارة، ستقودها خارج المدينة، بعيدًا عن الناس. لو أنه طُعِنَ في الرابع من أكتوبر، فمعناه أنه ظل في النهر ستة أشهر. هل تتطابق هذه المدة مع حالة الجثة؟
قال "كارسلين":
- الأطباء الشرعيون ليسوا واثقين. يقولون إنه من الصعب تحديد المدة. قال "سنوراسون" إنهم ذات مرة وجدوا جثة امرأة تُوفِّيت منذ سبع سنوات، ومع ذلك بدت جثتها سليمة تمامًا! كانت المياه باردة جدًّا، وهي بيئة ممتازة لحفظ الجثث. لكن يمكننا الافتراض أن الجريمة حدثت في الرابع من أكتوبر. بالنظر إلى التقرير، لا بدَّ أن الفاعل شخص قوي.
- لننظر إلى آثار الطعنات.
اختار صورة من الملف وذهب إلى السبورة وعلقها. تُظهِر الصورة ظهر "إينارسون" ومؤخرته بعد أن غُسِلَتْ الجثة تمامًا حتى ظهرت آثار الطعنات مثل الأخاديد.
- تبدو غريبة فعلًا. خمس عشرة طعنة. نصفها في أسفل ظهره ومؤخرته وبطنه، والباقي في جانب الضحية الأيمن فوق الفخذ مباشرةً. وُجِّهَتْ الطعنات بقوةٍ كبيرة من أعلى إلى أسفل، والفاعل أيمن. نصل السكين طويل ورفيع، رفيع جدًّا في الواقع. ربما كان سكين صيد. يا لها من طريقة غريبة لمهاجمة رجل. لكنك تتذكر شكل السيارة، صحيح؟
ثم نهض فجأة وجذب "سوت" من كرسيه، فسقط كيس الحلوى منه على الأرض. قال "سيير":
- أحتاج إلى من يمثل معي دور الضحية.
دفع الضابط إلى المكتب ووقف خلفه ثم أخذ المسطرة البلاستيكية، وقال:
- سيؤدي المكتب دور سيارة "إينارسون".
دفع "سيير" الضابط الشاب لينحني على المكتب، حتى وصلت ذقنه إلى الحافة الأخرى. ثم قال:
- من المفترض أن غطاء السيارة مفتوح لأنهما يفحصان المحرك. دفع القاتل الضحية إلى المحرك بيده اليسرى، ثم طعنه بيده اليمنى خمس عشرة طعنة. خمس عشرة!
أمسك المسطرة وطعن "سوت" في مؤخرته وهو يعد.
- واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة.
ثم حرك يده وطعنه في جانبه. تحرك "سوت" قليلًا وكأنه يشعر بالدغدغة.
- خمسة، ستة، سبعة.
ثم...
- لا!!!!
كان على وشك أن يطعنه أسفل بطنه مباشرةً، ففزع "سوت" ونهض وهو يغلق ساقيه. توقف "سيير" ودفع ضحيته برفق ليعيده إلى كرسيه وهو يكافح ليمنع ابتسامته.
- إنها طعنات كثيرة بالسكين. خمس عشرة طعنة ستنتج عنها كمية ضخمة من الدماء بالتأكيد. لا بدَّ أن الدم تناثر في كل مكان. على ملابس القاتل، ووجهه، ويديه، والسيارة، والأرض. لا فائدة من نقله للسيارة.
قال "كارلسين":
- بأي حال، لا بدَّ أن الجريمة وقعت بسبب اندفاعٍ لحظي. أسلوب القتل ليس عاديًّا. بالتأكيد حدث خلافٌ بينهما.
قال "سكاري" بسخرية:
- ربما لم يتفقا على السعر.
قال "سيير":
- عادةً من يَقتل بالسكين يُصاب بصدمةٍ عنيفة. فالأمر أصعب مما يتصور. لكن لنفترض أنها جريمة مدبرة، وأن الفاعل انتظر اللحظة المناسبة ليسحب السكين. لنقل مثلًا في حين يعطيه "إينارسون" ظهره وينحني على المحرك.
ضاقت عيناه وكأنما يستحضر المشهد في عقله.
- اضطر القاتل إلى طعنه من الخلف، لذلك لم يستطع قتله بضربةٍ واحدة، لأنه من الصعب الوصول إلى الأعضاء الحيوية من الخلف. وربما استغرق الأمر عدة طعنات قبل أن ينهار جسد "إينارسون" على الأرض أخيرًا. لا بدَّ أنها كانت تجربة مخيفة للقاتل نفسه، ظل يطعن ويطعن وضحيته تواصل الصراخ. بالتأكيد فزع ولم يستطع التوقف. هذا ما حدث. في خياله ظنَّ أنه سيضرب مرة أو مرتين، لكن كم مرة اكتفى أي قاتل في العدد الصغير من جرائم القتل بالسكين التي تعاملنا معها؟ أتذكر قضية ضمت سبع عشرة طعنة، وأخرى كانت ثلاثة وثلاثين.
- لكنَّ القاتل والضحية كانا يعرفان بعضهما. هل نتفق على هذا؟
جلس "سيير" ووضع المسطرة في الدرج وقال:
- نعم، بالتأكيد كانا يعرفان بعضهما. علينا العودة إلى البداية. يجب أن نعرف من أراد شراء السيارة. استخدما قائمة الأشخاص الذين حققنا معهم في شهر أكتوبر، وابدآ من أعلاها. قد يكون أحد زملائه.
نظر "سوت" إليه بشكٍّ وقال:
- الأشخاص أنفسهم؟ هل سنوجه الأسئلة نفسها إلى الأشخاص أنفسهم مجددًا؟
رفع "سيير" حاجبه وقال:
- ماذا تعني؟
- أعني أنه يجدر بنا البحث عن أشخاص جدد. فالإجابات لن تتغير، لأنه لم يتغير شيء منذ آخر مرة.
- حقًّا؟ ربما لم تكن منتبهًا لكلامي، لكننا وجدنا جثة الضحية عالقة في النهر، وأنت تقول إنه لم يتغير شيء؟
منع نفسه بصعوبة من الرد بتحدٍّ وقال:
- أعني أننا لن نحصل على إجاباتٍ مختلفة لهذا السبب فقط.
كتم"سيير" نبرة تحدٍّ أشد وقال:
- سنرى بهذا الشأن، أليس كذلك؟
أغلق "كارلسين" ملف القضية بصوتٍ مسموع.
أعاد "سيير" ملف "إينارسون" مكانه إلى خزانة الملفات إلى جانب ملف "دوربان"، وقال في عقله "فليؤنسا بعضهما". "مايا دوربان" و"إيجيل إينارسون". كلاهما ميت، والسبب مجهول. جلس في كرسيه وأرجع ظهره إلى الخلف ومد ساقيه الطويلتين إلى المكتب. دلَّك ظهره ثم أخرج محفظته. أخرج منها صورة حفيده "ماتيوس" المحشورة بين رخصة القيادة ورخصة القفز الحر. لقد أتم عامه الرابع. بدأ يتعلم عن السيارات، وخاض شجاره الأول فعلًا وخسره بكل أسف. تفاجأ كثيرًا حين ذهب إلى مطار "فورنيبو" ليصطحب ابنته "إنجريد" وزوجها "إريك" اللذين كانا في الصومال لثلاثة أعوام. فهي ممرضة وهو طبيب في الصليب الأحمر. كانت واقفة أعلى سلم الطائرة، تأثير الشمس واضح في بشرتها وشعرها. وهلةً شعر أنه يرى "إليز" في لقائهما الأول. كانت تحمل طفلًا صغيرًا بين ذراعيها. في ذلك الوقت كان في شهره الرابع، بشرته بنية كالشوكولاتة، وشعره مجعد، أما عيناه فلم يرَ أدكن منهما. قال لنفسه إن الصوماليين عرقٌ جميل. تأمل الصورة قليلًا قبل أن يعيدها. ساد الهدوء في المباني الملحقة ومعظم المبنى الرئيسي. مدَّ إصبعيه في كم قميصه وحكَّ مرفقه. تقشر الجلد وظهرت تحته طبقة جديدة وردية سرعان ما تقشرت هي الأخرى. أخذ سترته المعلقة على ظهر كرسيه وأغلق المكتب. ذهب في زيارةٍ سريعة إلى السيدة "برينيجن" في الاستقبال. تركت كتابها فورًا. بالتأكيد وصلت إلى مشهدٍ رومانسي وأرادت الاحتفاظ به حتى تقرأه في السرير. تبادلا كلماتٍ قليلة ثم أومأ لها وذهب إلى "روزينكرانتزجايت" ليزور أرملة "إينارسون".