الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أكثر المطبوعات مبيعًا في إستونيا.. ننشر فصلًأ من رواية الرجل الذي تحدث الثعبانية|خاص

صدى البلد

خلال العام الحالي صدر عن دار العربي للنشر رواية "الرجل الذي تحدث الثعبانية"، للؤلف  أندروس كيفيراك، والتي تعد من أكثر الروايات مبيعًا في إستونيا، وهي من ترجمة رانيا صبري علي.

واستمرارًا للدور الذي يلعبه "صدى البلد" لنشر الوعي والثقافة، ننشر فصلًا من هذه الرواية وذلك بالاتفاق مع دار العربي للنشر والتوزيع.

 

فصل الرواية

كانت الغابة خاوية هذه الأيام، فمن الصعب مقابلة أي شخص هنا، باستثناء خنافس الروث بالطبع. لا يبدو أنها تتأثر بأي شيء! فهي تظل تئن وتطنُّ كما جرت العادة، طمعًا في عضَّة صغيرة أو قطرة من دمك، حتى أنها قد تتسلق ساقك إذا وقفت في طريقها، وتتجول هنا وهناك حتى تُبعدها أنت. عالمها لم يتغير أبدًا، ولكنه لن يبقى على حاله. ستتغير الأقدار حتى بالنسبة لخنافس الروث تلك. بالطبع أنا لن أرى ذلك اليوم، لن يراه أحد. ولكن يومًا ما، سيحين الوقت، أنا متأكد! 

لم أعد أخرج كثيرًا. أخرج مرَّة واحدة أسبوعيًا للبئر لإحضار الماء. أغتسل وأنظف رفيقي أيضًا، أفرك جسده الدافئ جيدًا. يستهلك ذلك كثيرًا من الماء، لذلك أضطر إلى الذهاب للبئر عدَّة مرَّات في اليوم، ونادرًا ما أقابل أحدًا أحادثه في طريقي إلى هناك. في الغالب، لا يكون بشرًا حتى، فقد قابلت غزالًا مرَّة وخنزيرًا بريًا مرة أخرى. أصبحوا خجولين، حتى أن رائحتي تخيفهم الآن، ويرتجفون إذا سمعوا فحيحي، ويحدِّقون بي ببلاهةٍ، لكنهم لا يقتربون أبدًا. يحدقون كأنهم في حضرة معجزة من معجزات الطبيعة! إنسان يتحدث لغة الثعابين. ويُرعبهم هذا أكثر. يرغبون في دفعي بين الأغصان، أو جرح ساقي والابتعاد عني بأقصى سرعة، ولكنهم لا يجرؤون. يَحولُ ما أنطق به بينهم وبين ذلك.

أُصدر ذلك الفحيح مرة أخرى، ولكن بصوتٍ أعلى هذه المرة، وبنبرتي الحازمة آمرهم بالاقتراب، وتطيعني الوحوش بخضوع. يمكنني أن أشعر بالشفقة تجاههم وأعفو عنهم، ولكن لِمَ قد أفعل ذلك؟ بداخلي كره غريب تجاه المستجدين الذين لا يعرفون قوانين الغابة، ويتجولون بها كأنها خُلقت فقط لكي يتجولوا على أرضها! لذلك أصدر ذلك الصوت مرة أخرى، ولكن هذه المرة نبرتي حازمة كمستنقع يصعب الخروج منه. تنطلق الحيوانات المخبولة نحوي كأنها سهام أطلقها أحدهم من قوسه، بينما تنفجر أعضاؤها الداخلية من التوتر. إنهم ممزقون كُليًّا الآن، مثل بنطالٍ ضيِّق جدًا، وتتسرب أمعاؤهم من أجسادهم على العشب. منظرهم مقزز جدًا، لا أجد أيَّة متعة في رؤيتهم، ولكنني لا أستطيع ألا أستخدم قوتي. ليس خطئي أن أولئك الحيوانات قد نست لغة الثعابين التي اعتاد أجدادي تعليمها إياها. 

في إحدى المرات، جرى الأمر بصورة مختلفة. كنت عائدًا من البئر وعلى كتفي قربتي الجلدية مملوءة بالماء، عندما رأيت غزالًا كبيرًا أمامي. وفورًا همست ببضع كلمات بسيطة. شعرت عندها بالازدراء لمصير الغزال. لكن الغزال لم يرمش عندما سمع الكلمات المنسية بصورة غير متوقعة على لسان الطفل المسترجل الواقف أمامه. في الواقع لقد أخفض رأسه، واقترب مني، وركع أمامي، وكشف لي عن رقبته. تمامًا كما في الأيام الخوالي، عندما كنَّا نحصل على طعامنا بهذه الطريقة. كنَّا ننادي على الغزال ليلقى حتفه. لطالما كنت أراقب أمي وهي تؤَمِّن مؤونة الشتاء لعائلتنا بهذه الطريقة. 

كانت تنتقي أكثر غزالٍ مناسب من بين القطيع وتنادي عليه، وبرفق تشقُّ عنق الحيوان المطيع، وهي تهمس بالثعبانية. كان الغزال البالغ يكفينا الشتاء بطوله. كم كانت طرق الصيد التقليدية التي اتبعها سكَّان القرية سخيفة مقارنة بطريقتنا البسيطة! كانوا يقضون ساعات ليُمسكوا بغزالٍ واحدٍ، ويطلقون أسهمهم اعتباطًا على الشجيرات، ويعودون إلى منازلهم بعد ذلك بخُفي حُنين. 

 

لكي يخضع لك الغزال، أنت بحاجة إلى بضع كلمات بسيطة. الكلمات نفسها التي استخدمتها لتوِّي لينتهي الحال بهذا الغزال الكبير والقوي راكعًا أمامي.. في انتظاري. كان بوسعي قتله بحركة من يدي، ولكنني لم أفعل. بل أخذت القِربة عن كتفي وقدَّمت له بعض الماء، وأخذ يلعقه بلطف. كان غزالًا طاعنًا في السن. لا بد أنه كذلك، وإلا ما كان ليتذكَّر كيفية التصرُّف عندما يناديه إنسان. كان ليقاوم ويُصارع ويحاول التسلق والوصول إلى قمة الشجرة باستخدام أسنانه، حتى وهو تحت تأثير كلماتي التي تسحبه نحوي، وسينتهي به الحال خاضعًا أمامي كالمغفل، ولكنَّ الذي أمامي خضع لي كملك. غير مبالٍ أنه متجه إلى حتفه، وهذه مهارة مُكتسبة غير فطرية! هل هناك شيء مُهين في الخضوع للعادات والتقاليد؟ لا أظن ذلك. لم نقتل أي غزال للمتعة أبدًا. أي متعة توجد في ذلك؟ احتجنا للطعام، وهناك كلمة تُحضر لك الطعام، وذلك الغزال تعرَّف على تلك الكلمة وأطاعها. 

المُهين حقًا هو نسيان أصلك مثل تلك الخنازير البرية والغزلان اليافعة، التي تفزع فور سماعها الكلمات. بالإضافة إلى أولئك القرويين الذين يذهبون مجتمعين لمطاردة خنزير واحد. الغباء هو المهين بحق، وليست الحكمة. قدَّمت بعض الماء للغزال ومسَّدت على رأسه، وفرك هو أنفه بمعطفي. 

إذًا لم يتلاشَ العالم القديم بشكل كامل بعد.. طالما أنني وذلك الغزال على قيد الحياة، ستظل الثعبانية قائمةً ولن ينساها أحدٌ في هذا المكان. 

أطلقت سراح الغزال. عسى أن يعيش طويلًا.. ويتذكَّر لغتنا.

 

كنت على وشك أن أقصَّ عليكم جنازة "مانيفالد".  كنت في السادسة من عمري وقتها، ولم أرَ "مانيفالد" شخصيًا من قبل لأنه كان يعيش قُرب البحر، لا في الغابة هنا. حتى يومنا هذا، ما زلت عاجزًا عن فهم قصد خالي من أخذي معه إلى تلك الجنازة. لم يكن هناك أطفال آخرون. لم يكن صديقي "بارتِل" هناك، ولا حتى "هي". كانت "هي" قد ولدت بالفعل وقتها، فالفارق بيننا سنة واحدة. ولكن لِمَ لم يحضرها "تامبت" و"مال" معهما؟ على كل حال، فقد كانت مناسبة سعيدة لهما. ليس لأن لديهما مشكلة مع "مانيفالد" أو أن موته سيُدخل عليهما السرور. الأمر بعيد كل البعد عن هذا. فقد احتَرَم "تامبِت" "مانيفالد" كثيرًا. أتذكر جيدًا ما قاله عند المحرقة المعدَّة له: 

- لن يتكرر رجل مثله أبدًا.

كان على حق، لن يُخلق مثله مرَّة أخرى. في الواقع، لم ولن يولد رجالٌ مثله بعد الآن، على الأقل ليس في مقاطعتنا. كنت أنا الأخير، وقبلي بعدَّة أشهر وُلد "بارتِل"، وبعدي "هي". لكن "هي" ليست رجلًا، بل فتاة. 

بعد "هي" لم يولد سوى النُموس والأرانب البرية في الغابة. بالطبع لم يعلم "تامبِت" ذلك عندها ولم يكن يرغب حتى. كان مقتنعًا أن الزمان سيعود مجددًا كما كان. كان عاجزًا عن تصديق غير ذلك. هكذا كان "تامبِت"، مُخلصًا لكل العادات والتقاليد. كل أسبوع كان يذهب إلى البستان المقدس ليربط قطعة قماش ملونة في شجرة الزيزفون، مؤمنًا أنه هكذا يقدِّم قربانًا لـ"أرواح الطبيعة". كان "أولجاس" حكيم البستان، صديقه المقرَّب. في الواقع لم تكن كلمة "صديق" مناسبة في هذا السياق، لم يكن "تامبِت" ليصفه بالـ"صديق". كان ليعُدَّ ذلك إهانة للحكيم. كان عظيمًا ومُباركًا، يُحترم ولا يُصادَق. 

بطبيعة الحال كان "أولجاس" حاضرًا في جنازة "مانيفالد". كيف له أن يتغيَّب عنها؟ يجب عليه أن يُشعل الحطب ويُرسل روحه المغادرة بسلام إلى عالم الأرواح.

وقد استغرق وقتًا طويلًا حد الإزعاج في ذلك؛ غنَّى، ودقَّ الطبل، وأحرق بعض الفطر والقش. هذه هي الطريقة التي نحرق بها الأموات، والتي توارثناها من جيل إلى جيل، وهذا ما يجب علينا فعله. لذلك أصدقُكم القول حين أقول إن "تامبِت" قد استمتع كثيرًا بهذه الجنازة، فهو يُحب الطقوس بأنواعها. هو سعيدٌ طالما أن كل شيء يتم كما توارثته الأجيال. 

بعد ذلك، شعرت بالحزن. أتذكَّر ذلك جيدًا. لم أعرف "مانيفالد" أبدًا، لذا هذا ليس حزنًا عليه، فقد كنت هناك بغرض المشاهدة. في البداية شعرت بالإثارة عند رؤية وجهه الممتلئ بالتجاعيد، ولحيته الطويلة، لأنني لم أرَ جثة من قبل. استمرت ترانيم الحكيم وقتًا طويلًا لدرجة أنها فقدت سحرها، فما عادت مثيرةً ولا مَهيبة. كنت سأركض نحو الساحل، بما أنني لم أره من قبل؛ فقد كنت ابنًا بارًا بالغابة، ولكن الخال "فوتيلي" أبقاني هناك، وظل يهمس في أذني أنهم سيوقدون الحطب قريبًا. في البداية بدا الأمر مبهرًا، وأردت حقًا رؤية النار، تحديدًا وهي تحرق رجلًا بالكامل. ما الذي سيتصاعد منه؟ ما نوع عظامه؟ بقيت مكاني لأشاهد، ولكن الحكيم "أولجاس" تابع طقوسه، وكدتُ أموتُ من الملل. حتى وإن وعدني الخال "فوتيلي" بأنهم سيسلخون الجثة قبل حرقها، لن أستعيد حماسي مرة أخرى. أردت العودة للمنزل. تثاءبت بصوت مسموع، فنظر إليَّ "تامبت" بازدراء وقال: 

- اهدأ يا فتى! هذه جنازة، استمع إلى الحكيم! 

عندها همس الخال "فوتيلي":

- اذهب وتجوَّل حول المكان. هيَّا!

ركضت نحو الساحل، وعانقت الأمواج بكامل ملابسي. وبعد ذلك لعبت بالرمل حتى أصْبَحتُ كتلة من الوحل. عندها لاحظت أن النار مشتعلة بالفعل. ركضت بأقصى سرعة نحو النار، ولكن لم يكن هناك أثر لـ"مانيفالد". كانت النار مهولة لدرجة أنها لامست السماء. 

- يا لك من قذر! 

قال الخال "فوتيلي" وهو يحاول تنظيفي بكمِّه. ومرة أخرى كنت تحت رحمة نظرة "تامبِت" الغاضبة، لأنني لم أتصرف تصرفًا "لائقًا بالجنائز". وكان "تامبت" مهووسًا بالقوانين والأعراف! 

لم أهتم بأمر "تامبت"، لأنه ليس أبي ولا خالي، إنه مجرَّد جارٍ غاضبٍ من سلوكياتي، ولكن لا سلطة له علي. سحبت لحية الخال "فوتيلي" سائلًا:

- من كان "مانيفالد"؟ لماذا عاش قرب البحر؟ لماذا لم يعش في الغابة مثلنا؟ 

- كان بيته قرب البحر. 

كان "مانيفالد" عجوزًا حكيمًا، أكبرنا سنًا. حتى أنه رأى "ضفدع الشمال". سألته:

- من هو "ضفدع الشمال"؟ 

- "ضفدع الشمال" هو ثعبان عظيم، الأكبر على الإطلاق، أكبر من ملك الثعابين. بحجم غابة، ويمكنه الطيران بأجنحته الضخمة. وعندما يرتقي للسماء، يغطِّي الشمس والقمر. قديمًا، كان يرتفع في السماء ويلتهم كل الأعداء، الذين احتلوا الساحل بمراكبهم. وبعد أن يأكلهم، كنَّا نستولي على ممتلكاتهم. كنَّا أغنياء وأقوياء يهابنا الجميع؛ لم يخرج أحد من ذلك الساحل على قيد الحياة. لكنَّهم علموا أننا أثرياء، وتغلَّب جشعهم على خوفهم. ظلَّت القوارب تقترب من ساحلنا لسرقة كنوزنا، ولكن "ضفدع الشمال" كان يأكلهم جميعًا. 

- أريد رؤية "ضفدع الشمال" أيضًا! 

- للأسف لم يعد يمكنك رؤيته. 

تنهَّد الخال "فوتيلي" وتابع:

- "ضفدع الشمال" نائم ولا يمكن إيقاظه؛ عددنا قليل جدًا.

- يومًا ما سنوقظه! 

تدخَّل "تامبت" في الحوار:

- لا تتحدث هكذا يا "فوتيلي". أي نوع من الترهات الانهزامية هذه التي تقولها؟ تذكَّر كلامي؛ سنرى شمس اليوم الذي سيصعد فيه "ضفدع الشمال" في السماء وسيلتهم الرجال الحقراء، وجرذان القرية!

قال الخال "فوتيلي":

- في أحلامك! كيف سيحدث هذا وأنت تعلم جيدًا أنه لن يستيقظ إلا في وجود عشرة آلاف رجل منا! سيستيقظ فقط عندما يناديه عشرة آلاف رجل منَّا بلغة الثعابين، ويخرج من عشه السري ويرتقي مرَّة أخرى. أين العشرة آلاف رجل؟ لا يوجد عشرة منا حتى! 

- لا تستسلم! انظر إلى "مانيفالد"، لطالما كان متفائلًا يؤدي واجبه يوميًا! كلما رأى سفينة تتربص في الأفق كان يوقد جذعًا جافًا ويهتف: "حان وقت قيام "ضفدع الشمال"!". ظل يفعل ذلك عامًا بعد عام، رغم تجاهل الجميع له طوال هذه الفترة. وكانت السفن الغريبة ترسو وينزل منها رجال حديديون محصنون بالكامل. لكنه لم يستخدم قبضته أبدًا، بل ظل يجمع الأغصان والجذوع ليجففها ويوقدها.. وينتظر.. اكتفى بالانتظار. كان ينتظر "ضفدع الشمال" ليعود في كامل قوته إلى الغابة مرَّة أخرى كالأيام الخوالي.

قال الخال "فوتيلي" بكآبة:

- لن يعود مرة أخرى.

- أريد أن أراه! 

أصررت أكثر: 

- أريد أن أرى "ضفدع الشمال"! 

قال الخال "فوتيلي": 

- لن تراه.

سألته:

- هل مات؟ 

أجاب الخال: 

- لا، لن يموت أبدًا. إنه نائم، لكنني لا أعرف أين. لا أحد يعرف. 

التزمت الصمت بعد أن أثقلتني خيبة الأمل. كانت قصة "ضفدع الشمال" مثيرة جدًا حتى وصلت إلى نهايتها السيئة. ما فائدة معجزات لا يمكننا رؤيتها؟ تابع كل من "تامبت" وخالي جدالهما وتمشيت أنا نحو الساحل. سرت بمحاذاة البحر، كان الشاطئ جميلًا ورمليًا، تنتشر فيه جذوعٌ نمت لها جذور هنا وهناك. لا بد أنها الجذوع نفسها التي كان الراحل - الذي أصبح الآن قُربانًا للآلهة - "مانيفالد" يجمعها ليرسل بها إشارات لم يستجب أحدٌ لها. كان هناك رجل يجلس القرفصاء بجانب أحد الجذوع، إنه "ميمي". لم أره يمشي علىقدمين من قبل، فهو دائمًا ما يكون جالسًا تحت شجرة ما، كأنه ورقة شجر تحملها الريح من مكان لآخر. دائمًا ما يأكل "فطر الغاريقون" ويعرض عليَّ بعضًا منه، ولكنني لم آكله قط لأن أمي لم تسمح لي بذلك. 

هذه المرة أيضًا كان "ميمي" ممددًا على جانبه بجانب الجذع، لكنني لم ألحظ متى وكيف انتهى به الحال هنا. كنت قد قطعت عهدًا على نفسي أن أرى كيف يبدو ذلك الشخص وهو واقف على قدميه، وكيف يتحرك ويتجوَّل في الأنحاء؛ هل على اثنتين مثل أي إنسان طبيعي، أم على أربع مثل الحيوانات، أم يتلوى مثل الثعبان؟ 

اقتربتُ من "ميمي" وتفاجأتُ عندما لم أرَ في يده فطرًا هذه المرَّة، لكنه كان يحتسي مشروبًا ما من قِربة ما. 

- آآآه! 

قالها وهو يمسح فمه عندها اقتربت منه، جلست بجانبه، وشممت رائحة السائل الغريبة المنبعثة من القربة. 

- إنه نبيذ، أفضل من الفطر بكثير. كلُّ الشكر لأولئك الأجانب ومنطقهم الغريب. لطالما جف حلقي من ذلك الفطر ولكن هذا.. هذا النبيذ يروي ويُسكر في آن واحد. يا لعظمته! أعتقد أنني لن أتخلى عنه أبدًا. أتريد قليلًا منه؟ 

قلت: 

- لا. 

صحيح أن أمي لم تمنعني من شرب النبيذ، ولكن المنطق يقول إنه لا يختلف كثيرًا عن الفطر طالما أن "ميمي" يحبّه. 

 - من أين أحضرت هذه القربة الجلدية؟ 

لم أرَ جلدًا كهذا من قبل في الغابة.

- حصلت عليها من الرهبان والغرباء الآخرين، كل ما عليك فعله هو تهشيم رؤوسهم بالمعنى الحرفي، وستحصل على الجلد منهم. 

تابع الشرب وأكمل: 

- لا شكَّ أن هذا المشروب لذيذ جدًا. ليصرخ ويصيح ذلك الأحمق "تامبِت" كما يشاء، ولكن لن يُغيِّر ذلك من حقيقة أن خمر الغرباء أفضل بكثير من خمرنا.

- لماذا كان "تامبت" غاضبًا؟

- آه، لا يريدنا أن نتعامل مع الغرباء بأي شكل، ولا حتى أن نُجرِّب أشياءهم.

أضاف "ميمي" مستنكرًا: 

- لم أكن أنا من لمس ذلك الراهب، بل      فأسي، ولكنَّه غاضب على أي حال. لنفترض أنني سئمت الفطر، فهذا المشروب أفضل ويستهدف عقلك مباشرة ويُسكرك أسرع حتى من الفطر. على الرجل أن يكون مرنًا لا جامدًا مثل هذا الجذع هنا. ولكن هذا ما نحن عليه في الآونة الأخيرة، وبما نفعنا ذلك؟ صرنا كآخر ذباب يحوم في أرجاء الغابة ببطء حتى يلاقي العث ويموت قبل حلول الشتاء. 

 

لم أفهم أي شيء مما قاله ونهضت لأعود لخالي، حتى أوقفني "ميمي": 

- لحظة، يا ولد! أردت أن أعطيك شيئًا ما. 

هززت رأسي بعنف لأنني أعلم جيدًا أنه سيعطيني فطرًا أو نبيذًا أو شيئًا مقززًا آخر.

- قلت لحظة!

- لن تسمح لي أمي!

- اخرس قليلًا، لا تعرف أمك أي شيء عن الذي سأعطيك إياه! هاك، خذ. لا فائدة له بالنسبة لي، علِّقها حول عنقك. 

دفع "ميمي" في يدي صُرَّة جلدية صغيرة، بدت كأن بها شيئًا صغيرًا، لكنَّه ثقيل. سألته: 

- ماذا بداخلها؟ 

- ماذا بداخلها؟ هناك خاتم بداخلها. 

فتحت الصُرَّة ووجدت خاتمًا بالفعل. خاتم فضيٌّ به حجر أحمر كبير. جرَّبته على إصبعي، ولكنَّه كان كبيرًا جدًا على أصابعي النحيلة.

- ضعه في حافظته الصغيرة وعلِّقها حول عنقك. 

أرجعت الخاتم مكانه. كانت الصُرة مصنوعة من جلد غريب؛ رقيق كورقة شجر قد تحملها الرياح بعيدًا إذا أفلتّها، ولكن هذا الخاتم الجميل يستحق بيتًا جميلًا مناسبًا له. قلت بسعادة غامرة:

- شكرًا لك! إنه خاتم جميل جدًا! 

ضحك "ميمي". 

- عفوًا يا ولد. لا أعرف ما نفعه، ولكن حافظ عليه في حافظته كما قلت لك. 

عدت للمشعل مرة أخرى. كان "مانيفالد" قد احترق بالكامل ولم يبقَ منه سوى رماده الذي ما زال يحترق حتى الآن. أريت الخاتم للخال "فوتيلي"، وتفحصه عن كثب.  قال مسترسلًا: 

- إنه خاتم ثمين صيغ في أرض أجنبية، أظن أنه وصل سواحلنا في إحدى المرّات مع الرجال الحديديين. لن أتفاجأ إذا علمت أن مالك هذا الخاتم كان أحد ضحايا "ضفدع الشمال". لا أفهم لما قرر "ميمي" إعطاءه لك، كان بإمكانه إرساله لأختك "سالمي". ما الذي ستفعله أنت يا ولد بقطعة مجوهرات ثمينة كهذه في الغابة؟ 

قلت باستياء: 

- بالطبع لن أعطيه لأختي "سالمي". 

- حسنًا، لا تفعل ذلك. لن يُقدم "ميمي" على فعل أي شيء عبثًا. إذا أعطاك الخاتم، فبالتأكيد هناك سبب وراء ذلك. أنا لا أفهم خطته في الوقت الحالي، ولكن سيتضح كل شيء يومًا ما. لنعد للمنزل الآن. 

- هيا لنعد. 

قلت وأدركت بعدها أنني أشعر بالنعاس. حملني الخال "فوتيلي" على ظهر ذئبٍ واتجهنا للمنزل عبر الغابة الليلية، خلفنا الجمر المشتعل والبحر الذي تحرر ممن كان يراقبه.