الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الجد والحفيدة..

زيارة حميمة إلى الشاعر إبراهيم ناجي: اكتشاف ملهمته الأولى وقصة أغنية الأطلال

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

من مرحلة الإنكار إلى الاعتراف والتماهي مع شخصه، سارت سامية محرز أستاذة الأدب العربي ومديرة مركز دراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية في القاهرة رحلة ليست فقط حميمية مع جدها لأمها الشاعر الكبير إبراهيم ناجي، بل رحلة كاشفة عن محطات استئنائية في حياة الشاعر الكبير عبر البحث عن ملهمته الحقيقية التي كان يرمز لها بالحرفين "ع.م"، ومعاركه الأدبية، وذائقته المعرفية. 
 

وفي كتابها الجديد الصادر تحت عنوان "إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا"، الصادر عن دار الشروق،  كشفت سامية محرز عن رحلتها المتوترة مع جدها في البداية حيث توفي قبل من عامين من ولادتها في يناير 1955، ولم يتبق من ذكراه سوى صورة معلقة على حائط المنزل. بداية الرحلة كانت مع سؤال "هو الدكتور ناجي بيعمل إيه عندكوا؟".. سؤال مباغت من الأديب الكبير جمال الغيطاني الذي زار منزل سامية عام 1981 حيث زارها للمرة الأولى للتناقش بشأن موضوع أطروحتها للدكتوراة التي تدور حول أعماله الأدبية. 
 

وبعد نهاية اللقاء، كانت جملة أخرى مباغتة من الغيطاني مثلت ربط من نوع آخر بين سامية وجدها ناجي، ألا وهو الشبه الشكلي "تصدقي، إنتي شبه جدك بالضبط". شرارة البدايات بدأت من هذه الصدف، وبدأت رحلة البحث عن هذا الشبه، وبدأت الصورة المعلقة في المنزل تأخذ أبعادا جديدة بعد تجاهلها.

 

البداية من مدينة الأحلام 

 

يصف ناجي نشأته في شبرا في خواطر نثرية في كتابه "مدينة الأحلام" الصادر عام 1935 فيقول عنها "شبرا الجميلة كالزمردة الصافية تزهو باليانع الأخضر، والبساط الرائع الذي هو سحر مصر، وفتنتها العتيدة التي جرت إليها الغزاة أجناسا ونحلا". رقعة أرض تقع وراء "محطة مصر" عند الموقع المعروف بشبرا الصغرى حيث الحقول المترامية والترعة البولاقية. اختارت الموقع سبع أسر ميسورة ممن كانوا يعيشوا في الغورية والصنادقية وبجوار الحسين والأزهر، من بيت الزعيم محمد فريد، يليه بيت حسونة الطوير، وكان من أصول تونسية إلى بيت ناجي. ولنتذكر بيت الطوير هذا الذي نشأت فيه قصة الحب الأولى لإبراهيم ناجي. 

 

مذكرات إبراهيم ناجي وأوراقه

 

بعد 60 عاما على وفاة إبراهيم ناجي، اكتشفت سامية بالصدفة الكنز المخبوء، فبعد رحيل خالتها ضوحية أو دو كما كانت تسميها، في أرض الأحلام الأمريكية، جردت سامية شقتها فوجدت مظروفين مغلقين بهما أوراق ناجي. كتبت "دو" في ورقة عن مصير إرث ناجي بعد وفاته عام 1953 "حيث توفى والدي، كنت لم أتجاوز السابعة عشرة من عمري، وكانت شقيقتي الكبرى لم تبلغ العشرين، أما الصغرى فكان عمرها خمسة عشر عام، ولم يكن لنا إخوة صبيان، وبالتالي فقد تولى أعمامي مهمة جرد محتويات مكتب والدي في المنزل ومكتبه في العيادة. وخرجوا بالكثير من المخطوطات والأشعار التي كانت لم تنشر بعد. ووقتها كلفت وزارة الثقافة لجنة مكونة من أحمد رامي وصالح جودت ومحمد ناجي (عمي) وأحمد عبدالمقصود هيكل لجمع ديوان فيه جميع أشعار إبراهيم ناجي. وبعد جمع ما جمعوه للنشر كانت هناك الكثير من الأهكال بخط يد والدي ما بين ما وجدناه في العيادة. وطلبت أنا وشقيقتي الكبرى الحصول على بعض الأعمال بخط يده للذكرى. وقدموا لنا دفتر مذكرات والكثير من الخطابات والأوراق الشخصية ومجموعة من الأشعار التي لم تكن موزونة كبقية الأشعار". إلا أن ضوحية الابنة الوسطى لناجي قررت التراجع عن النشر، فهي على حد تعبيرها، الحارس الأمين على أسراره. 

إبراهيم ناجي 

الملهمة الأولى لـ إبراهيم ناجي 

 

"ع.م" هي حب الصبا في حياة إبراهيم ناجي، الذي لازمه مدى الحياة، ونظم في عذاباته ومباهجه الكثير من الشعر. فقد أهدى إليها ديوانه الأول "وراء الغمام" قائلا: "أنت وحي العبقرية وجلال الأبدية.. أنت لحن الخلد والرحمة في أرض شقية"، وفي ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" كتب "إلى صديقي ع.م الذى ندى بالزهر الذابل من خمائل الماضي، وأنبت في روض الحاضر زهورا ندية مخضلة بالألم والحياة.. إليه أقدم ما أوحي به إلي". لكن الحفيدة كانت الأولى بكشف السر بعد حوالي قرن من الزمان، عبر الحفيد أيضا المؤرخ حسين عمر، حفيد الملهمة الأولى علية محمود الطوير "ع.م". وتعيد سامية وحسين كتابة التاريخ من الهامش، عبر جلسة عابرة، فقد هيمنت علية الطوير على مخيلة إبراهيم ناجي، وكانت السبب الرئيسي وراء تعلمه اللغة الفرنسية. وبهذا دحضت سامية في كتابها كل الأساطير والحكايات التي نسجت حول ع.م أو ملهمة أشعار وكتابات وكتابات ناجي. 

 

جورنال دي في

 

هكذا عنون إبراهيم ناجي مدونته التي بدأ في كتابتها في شهر مارس 1944، وانتهت في شهر إبريل 1949. المدونة تكشف تعرضه للظلم خلال وظيفته، عن محنة المرض، وأزماته العاطفية. يشتهل ناجي المذكرة بوصف مسيرته بأنها "تاريخ حافل بالتقلبات والنضال"، وهو تاريخ يعرض كما يقول "القيمة الفعلية للدكتور إبراهيم ناجي". يبدأ بتاريخ تخرجه في كلية الطب عام 1922 حيث جاء في المرتبة الثانية على دفعته ثم يدلل على إنجازاه كطبيب من خلال تبحره في مجالات معرفية شتى من بينها علم النفس وعلم الاجتماع والأدب، وكلها حقول معرفية ساعدته، كما يقول في المذكرة، على إتمام واجبه المهني الأصلي كطبيب أمراض باطنية مبينا أن حصاد ذلك الإلمام العميق مفاتيح النجاح، إلا أن ذلك كان سبب مأساته المهنية وسببا لاستبعاده من منصبه. 

 

إبراهيم ناجي شاعر الأطلال

 

لعب صديق ناجي الشاعر أحمد رامي دورا كبيرا في تحول الأول إلى "سوبر ستار" حيث رشح قصيدة الأطلال لكوكب الشرق أم كلثوم لغنائها، ولم يكتف بذلك بل دمج أبياتا من قصيدتي الأطلال والوداع. ووجدت سامية محرز مسودة قصيدة الأطلال في الكراسة، وكانت غير مطابقة للقصيدة المنشورة في ديوانه، فقد كتبها على شكل مقاطع مرقمة بأرقام من 1 إلى 4، حتى خرجت في شكلها الأخير في ديوان "ليالي القاهرة". 

 

إبراهيم ناجي وشكسبير 

 

وجدت سامية محرز كنزا آخر تمثل في ترجمة رامي لأغاني شكسبير، صحيح أنها لم تنشرها بترجمة ناجي في سايق الكتاب، إلا أنها ألمحت إلى علاقة جدها بالشاعر الإنجليزي العظيم. وقامت بنشر ترجمات سركون بولس ومحمد عناني وعبد الواحد لؤلؤة. كما نشرت جزء من كتاب "طبيب العائلة"، وهو مشروع لم يكتمل ولم ينشر، يقول ناجي في مقدمته: "دعاني إلى وضع هذا المؤلف الصغير واجب خطير وكبير. نحن الآن في عضر تحول وانتقال. الجيل الجديد يتطلب أجساما سليمة صحية. ومن أولى من الوالدين بتنشئة الأبدان القوية والكيان المنشود. وكيف يتولى الوالدان هذه المهمة وعلمهما بالوسائل قليل ومشوه وفهمها له مبتور أو مختلط أو منقول عن أفواه الجهلة وتجارب العامة". 

 

رحيل إبراهيم ناجي 

 

سقط الدكتور أحمد ناجي ميتا على صدر أحد مرضاه، جنازته مشي فيها الحي كله وجيرانه في شبرا في العيادة ومرضاه الفقير منهم والغني وزمايله الدكاترة وزمايله في الوزارة ومريديه ورؤساء تحرير وأعضاء في رابطة الأدب الذي أنشأها. 

 

حب إبراهيم ناجي وزازا 

 

لم يكن عزاء ناجي في منزل أسرته فقط، زوجته وبناته الثلاث، بل في البيت المقابل عند زازا. والمدهش أن ناجي لديه رواية تحمل اسم "زازا العاشقة الوفية"، وقد جمعها وحققها ونشرها حسن توفيق في كتاب مستقل مع ثلاث قصص أخرى خارج الأعمال النثرية للشاعر مصحوبة بتأريخ لها ودراسة عنها.   

 

 يصف ناجي من خلال شخصيتين (الصديقين، حسين ناني المحامي وألبير فانوس اللذين يمثلان وجهي ناجي نفسه في الرواية) علاقة عاصفة ومتقلبة ومضنية بين المحامي حسين ناني مع فتاة شابة اسمها زازا يحسده عليها صديق عمره الطبيب ألبير فانوس. 

 

علاقة تماهي 

 

في نهاية الكتاب، تعترف سامية محرز أن علاقتها بجدها الآن أصبحت مختلفة، تتوطد العلاقة وتنشأ صداقة فيها الكثير من المشاغبة والمكاشفة والمراجعة. صداقة لا راجعة فيها. وأصبحت تفتخر بالشبه الذي ألمح إليه جمال الغيطاني في بداية القصة التي نشأت بين الجد والحفيدة.

رسالة بين ناجي وأحمد زكي أبو شادي