الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سحابة من البكاء.. قصة قصيرة لـ محمد عبد المنعم زهران

 الكاتب محمد عبد
الكاتب محمد عبد المنعم زهران

اختص الكاتب محمد عبد المنعم زهران، موقع «صدى البلد» بقصة قصيرة بعنوان "سحابة من البكاء" من مجموعة " حيرة الكائن"، الحاصلة على المركز الأول بجائزة الشارقة للإبداع العربي – الدورة الخامسة 2002، وإلى نص القصة:

 

هكذا وبينما أفكر فى ركوب الباص الذى توقف أمامى ، كنت قد ركبته فعلاً . كان من تلك الباصات التى تتوقف بالقرى فى الليل ، فيركب مسافرون ، ويهبط آخرون . جلست باستسلام فتحرك الباص . كان يخب مهتزاً كجمل عجوز فى صحراء ، مظلماً ، والمسافرون كانوا نائمين .

هكذا تأتى هذه الأوقات التى تشعر فيها بالصفاء وبالرغبة فى التفكير ، فكرت فى ذلك عندما استرخى كل جسدى ، وفكرت أيضا أنه من الرائع أن تستقل باصا لا يعرفك فيه أحد ، ولأنك فى مكان بعيد فلن يفاجئك شخص ، تراه فجأة أمامك فيقطع كل أفكارك ويدمر – بغير قصد – لحظة لا تأتى إلا هكذا فجأة .

كانت بجوارى فلاحة تضع طرحة على رأسها ، تضايقت من رائحتها ، أردت أن أنهض ، ولكن خيطا غامضا ربطنى بهذه الرائحة ، كانت تشبه رائحة الفول الأخضر ، مختلطة بقليل أو كثير برائحة الزبد الطازج ، بريئة وبدائية ، كانت النوافذ محطمة ، وهواء الحقول يغمر الباص ، فشعرت على الفور بأننى محاط بأجواء طالما أحببتها ، وطالما افتقدتها ، وفكرت لو أن هناك قمر يضئ الحقول بذلك البياض النائى والشفيف إذا لاكتمل كل شئ . 

توقف الباص أمام قرية فتسلل ضوء أعمدة الكهرباء إلى الداخل ، استطعت أن أرى طرحتها الخفيفة ، كانت خضراء كالحة ، وجلبابها أبيض منقوشا بزهور حمراء وصفراء ، تحرك الباص مرة أخرى فدخل فى ظلمة الطريق المترب . سرحت قليلا ، وغفوت متلذذا باهتزاز الباص.

عندما فتحت عينى كان كل شئ كما هو ، هادئا بدائيا ، والركاب نائمين ، فعاودت التفكير فى أشياء جميلة ، فرحت لأشياء وحزنت لأشياء ، ابتسمت لأنى كنت غبيا فى أحيان كثيرة ، وحيث لا أحد يرانى أنّبت نفسى . وعلى نحو غريب ، وأنا صامت هكذا أفكر ، انتابتنى رغبة فى أن أكون ذلك الرجل البسيط ، الفلاح الذى يجلس متربعا فى داره مستندا إلى حائط ، مبتسما بوجه أسمر رائقا كسحابة ، وتمنيت بشدة ، تمنيت كحلم أن يرفع أحد النائمين رأسه ويغنى موالا ريفيا ، أو أن يخرج من جلبابه نايا ويعزف لحنا حزينا يصعد إلى السماء ، كنت أتصور دائما أن السماء تجتذب إليها ألحان هذه الآلة ، شرط أن تكون حزينة وريفية .

انتبهت فجأة إلى أنين خافت بجوارى ، التفت ، كانت الفلاحة تبكى ، محاولة أن تكتم صوت البكاء ، وكان يهبط ماء غزير من عينيها ، شعرت أن بكاءها مرير إلى ما لا يمكن تصوره من مرارة ، وفكرت فى أن روح الفلاحة ، روحها الخالصة هى التى تبكى . عدت ألتفت أمامى ، إلى ظلام الطريق ، إلا أن رأسى هذه المرة تحركت محملة بحزن غامض . تركتها تبكى لأننى كنت أعتقد أنه من الرائع أن يبكى المرء ، أن يستطيع البكاء هكذا ، وأننا ودائما علينا أن نبكى كلما شعرنا برغبة فى ذلك ، بالبكاء فقط من دون سبب ، من دون أى شئ ، لكن ذلك قادنى إلى تذكر " بيسوا " الشاعر الذى أحبه حين قال : " أنا بحاجة إلى الرغبة فى البكاء ، ولكن لا أعرف طريقة لاستثارة الدموع " وبدأت أفكر فى إمكانية تقديس هذا البكاء الذى لا يجئ ، يظل مكتوما كقطعة ثلج على موقد لا تنصهر أبدا . لكن الفلاحة انتشلتنى من كل هذا ، عندما ارتفع صوت بكائها وبتلقائية أدهشتنى أمسكت يدها ضاغطا عليها ، لم يبد عليها أى ردة فعل ، فأبقيت يدى ، وحين خفت بكاؤها فكرت فى آسى – أنه قليلا ما يتذكر الإنسان أن لديه دائما ما يشارك به الآخرين ، ثم ولا أعرف ما دفعنى إلى ذلك ، استدرت ببطء ووضعت يدى على وجهها ، فعاد بكاؤها مرة أخرى ، حارا فى حدة واندفاع سيف ، مكتوماً ، تجاهد أن تبقيه مكتوماً ، وفجأة لم أشعر إلا بها بين ذراعى وقد أراحت رأسها على كتفى ، ملتصقة كطفل خائف ، خفت بكاؤها قليلا ، فعدت أفكر وأنا أربت على كتفها ، أن الحياة تعذبنا على نحو مروع . وبدأت أبكى بدورى ، بكاء مريرا .

مر وقت طويل ، لم أشعر بأى شئ ، سوى أن هذه المرأة برائحة الفول الأخضر فى ملابسها ورائحة الزبد فى فمها القريب ، استطاعت أن تدفعنى إلى البكاء ، بكاء كنت احتاجه حتما.

تذكرت الحقول حولنا ، والهواء الذى يندفع من النافذة ، وفكرت أن هذه الفلاحة بإمكانها أن تجعلنى أجرى .. أجرى فى الحقول ، وفقط أجرى ، كطفل مبتسم يرتدى جلبابا ، أذهب إليها .. أسفل شجرة ، فتضحك وتبسط يدها المملوءة بالفول الأخضر ، آكل من دون تفكير فى أى شئ ، آكل ، تضع شايا على نار هادئة لحطب العنب ، فأشرب شايا دافئا وله نكهة العنب على الأشجار ، حيث تكون السماء دائما زرقاء صافية . والسحاب دائما ابيض رقيقا ككومة قطن ، والحقول خضراء ، يدفعها الهواء فتتحرك كطرحة خفيفة على رأس فلاحة ، وحين تدفعنى لأنهض ، أقول لها فى توسل : أريد أن أبقى .. أبقى ، فتأخذنى وتتركنى لأنام .. هكذا فى أحضانها ، غارقا فى دفء جلباب أبيض بزهور حمراء وصفراء . لكن كل ذلك تهاوى فجأة كسماء من زجاج عالية ورحبة تهاوت على الأرض ، فتهاوى كل شئ حين نهضت الفلاحة ، هكذا رأيتها تنهض وتتركنى ، فشعرت بضعف مفاجئ ، وحين توقف الباص ، أدركت أنها ستهبط ، تحركت غائبا ، وأفسحت لها مكانا لتمر ، بسرعة هبطت ، واختفت ، وتحرك الباص .

بعد كم من الوقت أحسست بالفراغ بجوارى ، فعاودنى البكاء مرة أخرى ، أسندت رأسى على المقعد المقابل وفكرت فى أن وقتا طويلا سيمر ، سنين ربما ، حتى ألتقى مصادفة بفلاحة لها رائحة فول أخضر ، ولفمها رائحة الزبدة ، أبكى على كتفها باندفاع ومرارة ، أبكى من جوفى من روحى الخالصة ، وأشهق ممسكا يدها فى استماتة خالدة ، فتشاركنى البكاء وتربت على كتفى فى الظلام ، وسط مسافرين نائمين ، فى باص محطم النوافذ ، يخب مهتزاً .