قال الشيخ الدكتور صالح بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام، إنه لا وصول من غير سير ، ولا إنجاز من غير عمل ، ولا بلوغ للمراد من غير عزم وإرادة ، من عاش على الأماني زادت حسرته ، ومن جَدَّ علتْ همته .
أثقال الحياة
وأضاف " بن حميد " خلال خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، ومن جالس الجادِّين جدَّ ، ومن صاحب الغافلين غفل ، ومن رافق الذاكرين ذكر، متحدثًا عن الأسرِة واستقراراها ، وحفظِ البيوت ، وصيانةِ المجتمع .
وأوضح أن الخوض في أحكام الأسرة ، وشؤون البيوت ، والحديث عن العلاقات الزوجية بغير علم يفسد الأسر ، ويُشعل الفتن ، ويهز للاستقرار ، منوهًا بأن الزواج علاقة شرعية إنسانية راقية ، تحفظ الحقوق ، وتنشر السكن ، وتجلب السعادة ، وتحقق الطمأنينة .
وأكد أنه لا بديل لها سوى السقوط في أوحال الشهوات الهابطة ، والخروج عن الفطرة المستقيمة ، والتمرد على قيم المجتمع الرشيد ، وقد بسط أهل العلم ، وأهل الحكمة بيانَ ما يكون به استقرار الأسر ، وبناءِ البيوت على السكينة والطمأنينة ، في كلمات جوامع ، واستشهادات ، وارشادات ، واستنباطات مستمدة من نصوص الشرع المطهر ، وتقريرات أهل العلم ، وحكمة أهل الرأي .
حقيقة الحياة الزوجية
وأفاد بأن حقيقة الحياة الزوجية ، وتحقيق السكنِ في البيت ، والوئامِ في الأسرة هي العِشرةُ بالمعروف ، موضحاً أن كلمة " المعروف وردت في ثلاثَ عشرة آية من كتاب الله ، كل ذلك ليعلم الزوجان الكريمان والأسرةُ من بعدهم ، والمجتمعُ من وراء ذلك أن العلاقة بين الزوجين ليست نفعية ، أو علاقةَ معاوضة ، أو مقايضة ، أو علاقةً تحكمها القوانين الصارمة.
وتابع: والموادُّ الجافة ، والأنظمةُ الجامدة ، إنها علاقة مودة ، وسكنٍ ، وعيشٍ كريم ، إنها حقوق متداخلة متكاملة ، ومسؤولياتٌ مشتركة ، أنها العشرة بالمعروف، فالله سبحانه وتعالى جمع أمر الأسرة واجتماعَها وراحَتها وسكنَها في قوله عز شأنه : " فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ".
وبين أن المعاشرة بالمعروف كلمة ، جامعة ، حكيمة ، محكمة تدل على ما ينبغي أن يتمتع به الزوجان من حسن الخلق ، والبعد عن المحاسبة ، والتدقيق في المتابعة ، والبيت جميل إذا تصافت القلوب ، وتغافلت عن العيوب ، وعملت بما يُرضي علام الغيوب .
وقال: كم هو جميل وعظيم أن يتبادل الزوجان صدق المشاعر ، مشاعرُ يدركان معها أن لكل واحد منهما مكانةً في قلب صاحبه ، مشاعرُ صادقة تنبع من قلبٍ لا يتصنعها ، ونفسٍ تتلذذ بإبدائها والاعتزازِ بها من غير أن تتكلفها ، ناصحًا الزوج : لا تستثقل - حفظك الله – التعبيرَ الصادق بالود والمحبة ، فإن لذلك في النفس تأثيراً عجيباً ، وقبولاً عميقا ، وسحراً حلالاً .
أسلوبك هو ميزانك
وأشار إلى أن السحر الحلال سحر القلوب بِطِيْب الكلام ، وأبلغُ الكلام الوجه الحسن المبتسم ، اجعل سلاحك العقل وليس اللسان ، واجعل قوتك في الصمت وليس برفع الصوت ، ارفع كلماتك ، ولا ترفع صوتك ، والصوت الهادئ أقوى من الصراخ ، والتهذيب يهزم الوقاحة ، نعم استعينوا على حل المشكلات بالصمت ، فالحزم وُلدِ أبكما .
واستطرد: أسلوبك هو ميزانك ، وهو مكانتك ، وهو فن تعاملك ، فكلما ارتقى الأسلوب ، ارتفعت المكانة ، الجميع يحب الثناء فلا تبخل به ، واحذر من النفاق ، لا تنتظر السعادة حتى تبتسم ، ولكن ابتسم حتى تجلب السعادة، موصيًا الزوجين الكريمين بالاحترام المتبادل فهو الذي يوجد أجواء الألفة ، والاحترام ، والتقدير من أهم ركائز استقرار البيوت .
ولفت إلى أن الاحترام يدل على حسن التربية ، وصدق التدين ، احترم ولو لم تحب ، اكْسَب أهلك ولو خسرت الموقف ، لافتاً النظر إلى أن من حسن العشرة كتمانُ السر ، وسترُ العيوب ، ونشرُ ما يسر من ثناء ، وحسنُ الإصغاء ، والدعوةُ بأحب الأسماء .
حسن العشرة
وواصل: والشكرُ على الإنجاز وحسنِ الصنيع ، والسكوتُ عما يسوء ، وتركُ المراء ، والذَّبُّ في الغَيْبهّ ، والنصحُ بلطف ، وسلولكُ مسلك التعريض ولبس التصريح ، والدعاءُ في ظهر الغيب ، وإظهارُ الفرح بما يسر ، والحزنُ بما يضر ، والجامعُ لذلك كلِّه – حفظكم الله - أن يُعامِلَ كلُّ فرد من أفراد الأسرة بما يحب أن يُعاَملَ به.
ونبه إلى أن من حسن العشرة أيضاً الرفق في التعامل ، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ، بالرفق ينزل الله البركة ، والسكون ، والطمأنينة ، وكذلك التسامح ، وهو أعلى مراتب القوة ، والانتقام من أكبر مظاهر الضعف ، التسامح ليس ضعفاً.
وأكد أن نقاء القلب ليس عيباً ، والتغافل ليس غباءً ، بل ذلك كله تربية ، وعقل ، وقوة ، وهو مع حسن النية عبادة ، ودين ، واكسب أهلك ولو خسرت الموقف ، من سامح ارتاح قلبه ، ومن رضى بالقدر بات سعيداً ، كما أن التواضع من حسن العشرة ، فالمجد في التواضع ، وأكثر البقاع ماءً ما كان منها أكثرَ انخفاضاً ، والتواضع يهزم الغرور ، ولا يتواضع إلا من كان واثقا بنفسه ، ولا يتكبر إلا من كان عالماً بنقصه .
ونوه بأن نشدان الكمال في الشأن الأسري متعذر ، والتطلع إلى استكمال الصفات شيء ليس في متناول البشر ، ومن رجاحةِ العقل ، وسلامةِ التفكير ، وحسنِ التدين ، وحسنِ التبعل ، توطينُ النفس على قبول بعض المنغصات ، والمضايقات ، ومن حاسب على كل شيء خسر كل شيء .
نشدان الكمال
ونصح، قائلاً: فاستوصوا بأهلكم خيراً ، واكسب أهلك ، ولو خسرت الموقف ، ومن رجاحة العقل ، وسلامة التفكير ، وصحة الديانة ، أن يتذكر الزوجان ولا يتنكرا لجوانب الخير والإيجابيات ، وإنهما سوف يجدان من ذلك شيئاً كثيراً ، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث مسلم : ( لا يفْركْ مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ) ومعنى : لا يفْركْ أي : لا يكره ولا يُبْغض .
ووأضح أن من الجميل في العشرة أن يكون الاختلافُ بذوق ، والاعتذارُ بتواضع ، والعتابُ برفق ، والاجتماعُ بحب ، والافتراقُ بإحسان ، فلا يجوز أن يكون الخلاف بسبب زلة لسان ، أو عثرة سلوك ، أو كلمة طائشة ، أو تصرف عابر ، مؤكداً أن نجاح الأسرة يكون بالثقة والتجاهل .
وشدد على أن دفن الأسرار أدب من الأدب الراقي ، والغضب ريح عاتية ، تطفئ نور العقل ، ولذةُ الانتقام لحظة ، أما لذةُ الرضا فهي على الدوام ، والمرء هو الذي يصنع قَدْر بنفسه . (اكسب أهلك ولو خسرت الموقف) ، مبيناً أنه ليست المشكلة ألا يقع الخلاف فهو لابد واقع ، لكن المهم هو العقل والحصافة ، كيف يعالج الخلاف إذا وقع ؟ نعم يعالج الخلاف بالصبر ، والأناة ، والتنازل ، والتسامح ، والتغافل .
وقال : هنيئاً لمن يتناسون الإساءة ، ولا يحملون في قلوبهم قسوة ، ولا يعرفون للكره طريقاً ، هنيئاً لمن كان في لقائهم سرور وفرح ، وفي حديثهم سعادة ومرح ، واعلموا أن أولَ من يعتذر هو الأشجع ، وأولَ من يسامح هو الأقوى ، وأول من ينسى هو الأسعد ، والاعتراف بالخطأ ، وقبولُ الحق ، والتنازلُ عن حظوظ النفس ، والحرصُ على جمع الكلمة ، وكسبُ القلوب هو الجامع للأسرة ، الحافظ للبيت ، المحقق لحسن العشرة ، بل هو السر في حل جميع المشكلات ، وهو السر في حلولِ السعادة ، وتنزلِ السكينة . ( اكسب أهلك ولو خسرت الموقف ) .
وأوصى الزوجين قائلاً : الصدق يوجب الثقة ، والكذب يورث التهمة ، والأمانة توجب الطمأنينة ، والعدل يورث اجتماع القلوب ، وحسن الخلق يوجب المروءة ، وسوء الخلق يورث المباعدة ، والانبساط يولد المؤانسة ، والانقباض يجلب الوحشة ، والمخادعة توجب الندامة ، فاكسب أهلك ولو خسرت الموقف ، داعياً المسلمين إلى الاجتهاد في إدارة شؤون الأسرة بيسر وسهولة ، وعفوية ، بعيداً عن التصنع والتشنج ، والادعاء ، والاستعلاء ، والاجتهاد في الصدق ، والنصح والإخلاص ، والبساطة والتواضع ، والكرم ، والبذل .
وتساءل: أين الراحة وأين السكن ، وأين الاستقرار ، إذا كان رب البيت ثقيل الطبع ، ضيق الأفق ، سيء العشرة ، يغلبه حمق ، ويعميه تعجل ، بطيء الرضا ، سريع الغضب ، كثير المن ، سيء الظن ، ومن ساءت أخلاقه سهل فراقه ، ومن حسنت خصاله طاب وصاله ، المعاند متكبر متجبر ، لا يحسن معالجة الأمور ، ولا يحسن النظر في المشكلات ، لا يعترف بالخطأ ، ويرى الرجوع إلى الحق ضعفاً .
وأضاف أن من الحكمة أن تتجاهل كل ما يمكن أن يكدر عليك عيشك ، ومالا ترغب أن يحدث لك فلا تؤذ به غيرك ، من عجائب البشر انهم يستثقلون سماع النصيحة ، ويسرون لسماع الفضيحة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، مبيناً أن لا شيء ينفذ إلى القلوب كلطف العبارة ، وبذل الابتسامة ، ولين الكلام ، وسلامة القصد ، ونقاء القلب ، وغض الطرف عن الزلات ، وسيد المروءات التغافل .