ظلت منيرة المهدية لحوالي ثلث قرن من الزمان مالكة أمر الطرب، وسلطانة مملكته المتوجة دون منافس، وعندما ظهرت أم كلثوم في عشرينات القرن الماضي، لم تلق النجاح المرجو فلم يُطرب لها سميعة منيرة، وظلوا على وفائهم لسلطانتهم، وفي ذات الوقت فإنه من الطبيعي عندما تحتل “السلطانة” عرش الغناء لأكثر من 30 عاما، وتظهر من تسحب من تحت قدميها البساط؛ أن يحدث نوع من الغيرة والفضول لمعرفة من هي النجم الصاعدة القادمة، فما حقيقة المشاعر المتبادلة بينهما، وإلى أين وصلت؟
[[system-code:ad:autoads]]
الثناء على السلطانة
عندما غنت منيرة أمام الخديوي عباس الثاني؛ أغدق عليها المال وقال لها “لو كنتي رجلًا لما ترددت في الإنعام عليك برتبة الباشوية”.
ووصف نجيب محفوظ صوت منيرة المهدية في مذكرات الناقد رجاء النقاش، قائلًا: “في بداية عصر أم كلثوم كانت توجد مطربة من أجمل الأصوات النسائية التي عرفتها مصر، وهي منيرة المهدية، فصوتها من نفس طبقة صوت أم كلثوم أو أقل درجة”.
وها هو بطل الثلاثية السيد أحمد عبدالجواد، هذا العاشق للطرب الأصيل، الذي لم يسلم أذنه إلا لأصحاب الموهبة الكبيرة في جلسة مع ندمائه وجليلة العالمة، يتحاورون حول أم كلثوم ومنيرة: “البعض يقولون إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت منيرة نفسها، كلام فارغ أين هذه الصرصعة من بحة منيرة ؟!”.
مصطفى أمين
وقال الكاتب الصحفي مصطفى أمين عن رغبة منيرة المهدية في الاستماع إلى صوت أم كلثوم: "في إحدى الليالي، ارتدت منيرة المهدية ملاءة لف سوداء، ووضعت على وجهها برقعًا، وارتدت شبشبًا في قدميها حتى تبدو كبنات البلد، وصحبت معها الممثل محمد بهجت، وذهبت إلى مسرح رمسيس حيث كانت أم كلثوم تغني، واشترت منيرة تذكره في أعلى "التياترو" (وهو أرخص مقعد في المسرح)، وجلست منيرة المهدية تسمع أم كلثوم، والجمهور يهلل وشهدت سيطرة أم كلثوم العجيبة على المستمعين، وهي تتحكم فيهم بصوتها الخلاب، وتجعلهم يرقصون في مقاعدهم، ويترنحون على نغماتها، ويهبون واقفين مصقفين لها، هاتفين بحياتها؛ فلم تحتمل منيرة المهدية أن تحضر أكثر من الوصلة الأولى من غناء أم كلثوم، فتركت المسرح غاضبة، ساخطة على غباء الجمهور وجحوده وقلة ذوقه.
تغيرت المشاعر.. والأحوال
في البداية؛ اتجهت منيرة المهدية إلى الصحافة لنشر الشائعات عن أم كلثوم؛ والتي تجاهلت كل مايعرقل مسيرة نجاحها.. وتمر الأيام؛ لتُقر منيرة المهدية بإعجابها بصوت أم كلثوم، حيث كانت تستمع إلى حفلات سيدة الغناء العربي في اليوم الأول من كل شهر، حتى رحيلها، أرسلت في نهاية حياتها خطاب يتضمن كلمات تُعبر عن حبها لأم كلثوم.
قررت أم كلثوم زيارة الست منيرة المهدية في عوامتها، وتروى سلطانة الطرب قصة هذه الزيارة خلال حديث لمجلة الكواكب، حيث قالت "جاءت أم كلثوم بصحبة القصبجي لزياريي، وعندما قدمت لهما "الكازوزة" تركت أم كلثوم الزجاجة التي أمامها وشربت من الزجاجة أمام القصبجي"، تصايقت منيرة من التصرف، وقررت أن تثبت حسن نواياها لأم كلثوم فشربت من الزجاجة.
وعندما فكرت منيرة المهدية في العودة للأضواء مرة أخرى عام 1948، وأصرت أم كلثوم على حضور الحفل بصحبة مصطفى أمين الذي لمح دموع أم كلثوم عندما أسدل الستار على منيرة قبل أن تنهي وصلتها الأولى، لعدم قدرتها على الاستمرار في الغناء بسبب سعالها وضعف أحبالها الصوتية.
هذه هي منيرة المهدية، وهذه ملامح ريادتها للمسرح الغنائي خاصة، والغناء المصرى عامة في مطلع القرن الماضي، وإذا كان الخديوي عباس الثاني قد تردد في الإنعام عليها بالباشوية؛ فإن جمهورها لم يتردد في منحها لقب «السلطانة».