خلال الأسبوع الماضي احتفل العالم بذكرى مرور 200 عام على اكتشاف رموز حجر رشيد، وفك رموز الكتابة الهيروغليفية القديمة، على يد عالم الآثار الفرنسي شامبليون، وهو الكشف الذي مثّل بالنسبة للفرنسيين انتصارًا ثقافيًا على غريمتها بريطانيا خلالل تلك الفترة، والتي تنافس كلا البلدين وتسارعوا لمحاولة كشف سر الحضارة المصرية القديمة التي حيرت العالم لقرون طويلة.
لم تكن محاولة شامبيلون لفك رموز الحضارة المصرية القديمة هي الأولى، إذ سبقه في ذلك العلماء العرب على مر التاريخ.
محمد أبو اليزيد الباحث الأثري بجامعة توبنجن الألمانية تحدث لـ صدى البلد عن الأمر وقال: "يعتبر الكثير من الباحثين أن يوم ٢٧ سبتمبر ١٨٢٢بمثابة يوم نشأة علم المصريات، فهو اليوم الذي أعلن فيه العالم الفرنسي "جان فرانسوا شامبليون" عبر رسالته الشهيرة إلى مسيو "داسيي" (أمين المجمع العلمي الفرنسي)، نجاحه في فك رموز اللغة المصرية القديمة، ومن ثم نسبوا العلم إليه ولقبوه باسم “مؤسس أو أبو علم المصريات".
حجر رشيد.. محاولات العرب
يضيف: بدأ الاهتمام بآثار مصر وحضارتها في فترة مبكرة، جدًا: أي قبل شامبليون بآلاف السنين، فقد اهتم المصريين القدماء بتراث أسلافهم، وسجلوا قصصهم، ودونوا أسماء ملوكهم، كما قاموا بزيارة جباناتهم والحفاظ عليها، بالإضافة إلى ترميم آثارهم وتجديد الكثير منها وإضافة أجزاء إليها. ثم بعد ذلك قام الرحالة الإغريق بزيارتها والكتابة عنها، ومن أشهرهم المؤرخ هيكاتيه الملطي (٥٢٠ ق.م) ثم هيرودوت (حوالي ٤٥٠ ق.م)، ثم أفلاطون في بداية القرن الرابع قبل الميلاد، وبعد ذلك جاء الرحالة الرومان ومن أشهرهم ديودور الصقلي (٥٩ ق.م) واسترابون (٢٥ ق.م) ثم بلوتارخ في بداية القرن الثاني الميلادي.
قراءة رموز اللغة المصرية القديمة
ولعب العرب أيضًا دورًا لا يقل بل يزيد في توثيق البلدان ومعالمها الأثرية، علاوة على إعداد تصور لقراءة رموز اللغة المصرية القديمة. فهم أول من توصلوا إلى أن القبطية هي صورة من صور اللغة المصرية القديمة، وعرف عنهم أنهم كانوا يطلقون على الكتابة المصرية القديمة اسم "القبطية الأولى" وعلى القبطية اسم "القبطية الثانية". وقد تنافست الدول الأوروبية في ترجمة واقتناء المخطوطات العربية التي تحمل تصورًا لقراءة العلامات الهيروغليفية، وورد أن العلماء الفرنسيين في الحملة الفرنسية ١٧٩٨-١٨٠١ كانوا يبحثون عن المخطوطات العربية التي تسلط الضوء على فك رموز الهيروغليفية، وكانت العديد من هذه المخطوطات بين المسروقات التي صادرها الفرنسيون بعد استسلامهم أمام القوات الإنجليزية.
قيمة صوتية
يستطرد محم أبو اليزيد: تشير المصادر التاريخية إلى أن أول عالم عربي معروف باهتمامه بالنصوص المصرية هو جابر بن حيان، والذي عاش بين منتصف القرن السابع ومنتصف القرن الثامن الميلادي، واستفاد من أبحاثه العديد من العلماء العرب منهم "ابن وحشية" و"ذو النون المصري " وهو ابن مدينة أخميم، المتوفي في ٨٥١م، وقد درس الكتابة المصرية القديمة على جدران معبد أخميم، وقدم قراءة للعلامات الديموطيقية والعلامات القبطية، وله إنجاز غير مسبوق، إلا وهو توصله إلى أن بعض العلامات الهيروغليفية ليست صور فقط وإنما حروف ذات قيمة صوتية. و العالم العربي المؤرخ "عبد اللطيف البغدادي" المتوفي في ١٢٣١م، صاحب كتاب "الإفادة والاعتبار" والعالم المصري الكبير "الشريف أبي جعفر محمد بن عبد العزيز الحسيني" المتوفي في ١٢٥١م صاحب أقدم دراسة علمية عن الأهرامات المصرية وعنوانها "أنوار علوي الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام"، ومنهم "ابن حوقل" الذي ترك لنا خريطة لمصر موضح بها موقع الأهرام وفروع النيل، "أبو حامد الغراطي" الذي وثق منارة الإسكندرية، و"الهمداني" صاحب كتاب "الإكليل" ، ثم "مرتضى العفيفي" الذي ترجم كتابه للفرنسية في ١٦٦٦م. ومن العلماء العرب البارزين أيضًا "أبو القاسم العراقي" المتوفي في ١٣٤١م، والذي وثق لوحة للملك أمنمحات الثاني، وقد أعد دراسة للعديد العلامات الهيروغليفية، مقدما جدول لها، وتوصل إلى قراءة صحيحة لعدد ٤ علامات منهم.
مراجع عربية
أما بالنسبة للمرجع العربي الأهم بلا استثناء كان للعالم أحمد بن أبي بكر بن وحشية (الشهير باسم: ابن وحشية)، وقد عاش بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. ويمكن اعتبار "ابن وحشية" أول عالم مصريات بالمعني الحديث، فقد أكد ما توصل إليه "ذو النون المصري" حول اعتبار عدد من العلامات الهيروغليفية حروفًا ذات قيمة صوتية، كما توصل إلى إنجاز آخر وهو أن المفردات المكتوبة بالهيروغليفية تنتهي بصورة لشكل ما، وهذه الصور لا تعبر عن حرف منطوق، وإنما تكمن وظيفتها في تحديد معني الكلمة وتميزها عن باقي الكلمات الأخرى المشابهة، وهي الصورة التي تعرف حاليًا باسم "المخصص".
لعب ابن وحشية دورا هاما في محاولة فك رموز الكتابات المصرية القديمة قبل العالم الفرنسي شامبليون بعشرات السنين، ويعتبر صاحب أول محاولة جادة لقراءة العلامات الهيروغليفية، إذ أعد دراسة لعدد كبير منها ووضع تفسيرا لها، ونشر أبحاثه في كتابه "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"، وهو الكتاب الذي اهتمت به الدول الأوروبية، وتمت ترجمته بإنجلترا إلى اللغة الإنجليزية في ١٨٠٦ بواسطة المستشرق النمساوي "جوزيف هامر"، أي قبل نجاح شامبليون بفترة تصل إلى ١٦ عاما، إلا أن نتائج دراساته لم تكن على مستوى الدقة الذي وصل اليه شامبليون، ولو كان لديه قطع أثرية شبيهة بحجر رشيد لكان الأسبق في قراءة الكتابات المصرية القديمة، وربما كانت النتائج التي توصل إليها سببًا في تعرف الأوربيون عامة وشامبليون ورفاقه خاصة على خطوات التعرف على العلامات الهيروغليفية.
يرى محمد أبو اليزيد أنه لم يتم تسليط الضوء على مصر باعتبارها قبلة لعلماء الآثار إلا عندما ظهرت الأجزاء الأربعة والعشرون من كتاب وصف مصر (منشورة خلال الفترة من ١٨٠٩ إلى ١٨١٣) والتي تم إعدادها بواسطة البعثة العلمية التي صاحبت نابليون بونابرت إلى مصر، فهناك عدد من المحاولات، أهمها تلك التي قام بها الإيطالي "أثاناسيوس كيرشر" (١٦٠٢-١٦٨٠)، صاحب أول محاولة أوروبية لقراءة عدد من العلامات الهيروغليفية، كلمة واحده منها صحيحة وهي "الماء" والباقي غير دقيق، علما بأنه أول من توصل من بين الأجانب إلى اعتبار اللغة القبطية بمثابة الصورة النهائية للغة المصرية القديمة، وقد قام بنشر ما توصل اليه في كتابه المنشور في ١٦٦٤.
إنجازات مهدت الطريق لاكتشاف أسرار الهيروغليفية
من الإنجازات الهامة للحملة الفرنسية على مصر، هو الكشف عن حجر رشيد ، أشهر حجر في العالم، وذلك في يوم الثلاثاء الموافق ١٥ يوليو ١٨٧٩ ، وأطلقوا عليه هذا الاسم نظرًا لأنهم عثروا عليه قرب رشيد.
حجر رشيد هو الجزء المحفوظ من لوحة كبيرة من حجر البازلت أو الجرانوديوريت، من المفترض أن الجزء العلوي منها ذو شكل مستدير، ويحمل نقشا يمثل الملك بطلميوس الخامس (٢٠٤-١٨٠ ق.م) مع المعبودات، ثم يأتي النص المنقوش في ثلاثة خطوط، النسخة الهيروغليفية من أعلى، والنسخة الديموطيقية في المنتصف النسخة، ومن أسفل تأتي النسخة اليونانية. مما يؤسف له عدم العثور على أية أجزاء أخرى تنتمي لهذه اللوحة.
فقد انتهى استخدام الكتابة الهيروغليفية بعد فترة وجيزة من نهاية القرن الرابع الميلادي، ورويدًا رويدًا اختفت المعرفة بكيفية قراءتها وكتابتها. قام العلماء العرب، أمثال أحمد ابن أبي بكر ابن وحشية، الشهير باسم: ابن وحشية- (القرنين التاسع والعاشر) و"جابر ابن حيان" (القرنين السابع والثامن) و"ذو النون المصري" (متوفي في ٨٥١ م)، و أبو القاسم العراقي (متوفي في ١٣٤١م)، ومن بعدهم العلماء الغربيين، أمثال الألماني "أثاناسيوس كيرشر" (١٦٠٢-١٦٨٠م) والفرنسي "جوزيف دي جين" (١٧٢١-١٨٠٠م) والدنماركي "جورج زويجا" (١٧٥٥-١٨٠٩م ) بعدة محاولات لاستعادة القدرة على قراءة العلامات الهيروغليفية. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، إلا أن مجهوداتهم لم تذهب كلها هباء، إذ تمكنوا من التوصل إلى عدد من الإنجازات. وبما أن العلم تراكمي بطبعه، فقد قدمت نتائج أبحاثهم عونا كبيرًا وأسهمت في سرعة قراءة الكتابات التي وجدت على حجر رشيد، ومن أهم هذه الإنجازاتهي أن العلامات الهيروغليفية تحمل قيمة صوتية وأخرى تصويرية، كما تبين أن الكتابة الديموطيقية هي صورة من صور اللغة المصرية القديمة، وأن اللغة القبطية مرحلة نهائية من مراحل اللغة المصرية القديمة.