تتشكل المملكة المتحدة من 4 أقاليم رئيسية؛ هي إنجلترا وويلز واسكتلندا، تجمعهم الجزيرة المعروفة باسم بريطانيا العظمى، إلى جانب أيرلندا الشمالية خارج البر الرئيسي لبريطانيا.
ومع وفاة الملكة إليزابيث الثانية، يطفو على السطح تساؤل له ما يبرره في التاريخ عن وحدة المملكة المتحدة واستمرارها، في وقت تكتسب فيه النزعات القومية والانفصالية زخمًا قويًا في المملكة المتحدة، ولا سيما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
اسكتلندا وأيرلندا الشمالية.. الاستقلال مطلب قديم
في استفتاء على استقلال اسكتلندا عام 2014، صوت ما يقرب من نصف الاسكتلنديين (45%) لصالح الاستقلال. وخلال الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (البريكست) عام 2016، صوت معظم سكان أيرلندا الشمالية ضد الخروج من الاتحاد، على عكس أغلبية البريطانيين الذين أيدوا البريكست بحماس.
وفي أيرلندا الشمالية أيضًا، تبدت النزعة الانفصالية في شكل أكثر عنفًا بكثير؛ فلمدة 30 عامًا بين 1968 و1998 نشبت حرب أهلية بين أنصار الوحدة والتبعية للتاج البريطاني من جانب، والقوميين الأيرلنديين المطالبين بالاستقلال من جانب آخر، وبالنسبة لدعاة الاستقلال كان التاج البريطاني هو رمز الذل والهوان اللذين لحقا ببلدهم.
وفي عام 2012، أثناء زيارة إلى أيرلندا الشمالية، صافحت الملكة إليزابيث الثانية مارتن ماكجينيس، أحد أكثر زعماء الانفصاليين الأيرلنديين تشددًا، في مشهد تاريخي حكى الكثير عن دور الملكة إليزابيث كرمز للوحدة بين شعوب المملكة المتحدة، وإن لم تكن تتمتع بسلطة تنفيذية فعلية.
ولذا فليس من قبيل المبالغة القول إن الملكة إليزابيث كانت قوة توحيد ذات أثر حاسم، وقد برعت في استخدام قوتها الناعمة وبشكل خفي في سبيل هدف وحيد هو الحفاظ على وحدة المملكة المتحدة وبقايا الإمبراطورية البريطانية.
الملكة إليزابيث الثانية رمز الوحدة حية وميتة
نادرًا ما التف شعب بريطانيا حول شخص أو رمز حي التفافهم حول جثمان الملكة إليزابيث الثانية ملكة البلاد الراحلة؛ فمن اسكتلندا حيث توفيت إلى لندن حيث مثواها الأخير، إلى أقاليم ومدن أنحاء المملكة المتحدة، يقف مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من البريطانيين لإلقاء نظرة الوداع على نعش الملكة المتجول في شوارع إدنبرة ولندن، أو أمام القصور الملكية والكنائس الكبيرة، تأبينًا للملكة التي قضت أطول فترة في تاريخ البلاد على العرش.
ويُنتظر أن تتزايد الحشود بشكل أكبر في لندن بالذات، مع انطلاق نعش الملكة إليزابيث في رحلته الأخيرة من كنيسة وستمنستر آبي إلى كنيسة سان جورج، الاثنين المقبل، حيث ترقد الملكة في مثواها الأخير إلى جانب السابقين من أفراد العائلة الملكية.
وقالت صحيفة "الجارديان" البريطانية إنه لا شك أن وفاة الملكة إليزابيث الثانية تحولت إلى حدث جماعي هائل في طول المملكة المتحدة وعرضها، ومع ذلك فلا يجب السقوط في فخ إساءة تفسير هذا الاجتماع النادر لشعب، أو بتعبير أدق "شعوب" المملكة المتحدة.
هل تتحول المملكة المتحدة إلى جمهورية؟
وأوضحت الصحيفة أنه حتى قبل وفاة الملكة إليزابيث الثانية، كان جدل خافت يدور على استحياء حول ما إذا كانت الملكة أو الملكية نفسها كفكرة قوة توحيد لبريطانيا الحديثة، ومما له دلالة في هذا الصدد أن استطلاعات رأي أجريت العام الماضي كشفت أن نحو ربع البريطانيين وثلث الاسكتلنديين يرغبون في التحول إلى النظام الجمهوري بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية.
وربما تراجع هذا الزخم الجمهوري أمام طوفان العواطف الحزينة الذي خلفته وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ولكن ما إن تنحسر الأحزان الشعبية على وفاة الملكة حتى يعود الجدل حول مصير المملكة المتحدة والملكية ليطل برأسه من جديد وقد اكتسب هذه المرة زخمًا أكبر بعد رحيل الرمز الأقوى لوحدة المملكة.
ولا شك أن رغبة الملك تشارلز الثالث في أن يكون قوة توحيد للملكة المتحدة لا تقل قوة عن رغبة والدته الراحلة في ذلك، لكن هذا في حد ذاته لا يكفي لتوحيد المملكة بالفعل، فالمهم هنا هو وجود الإرادة المشتركة للوحدة بين أبناء شعب أو شعوب المملكة، ولئن أوحت مشاهد الحشود الجماهيرية الضخمة حول نعش الملكة إليزابيث والقصور الملكية بوحدة قوية تجمع شعوب المملكة معًا، فإن هذا المشهد المؤثر لن يدوم طويلًا.
الملكية لم تعد ضمانًا للوحدة
وتابعت الصحيفة أن النظام الملكي لم يعد قادرًا وحده على ضمان وحدة المملكة المتحدة على المدى البعيد، والمطلوب الآن هو شيء أكثر قوة من الملكية للحفاظ على المملكة المتحدة ككيان واحد، إذا ما كانت هناك رغبة في ذلك أساسًا.
ومما يلفت أنظر أن وفاة الملكة إليزابيث بينما كانت تقيم في قلعة بالمورال في اسكتلندا قد دفعت بالأخيرة إلى دائرة الضوء على نحو لم يكن ليحدث لو كانت قد توفيت في العاصمة لندن أو قلعة وندسور في مقاطعة بيركشاير جنوبي إنجلترا، حيث تعود جذور عائلتها، إذ لو ذلك ما حدث لكانت التغطية الإعلامية مركزة بقوة على مكان وفاتها، مع إهمال تغطية أصداء وفاة الملكة في أجزاء المملكة المتحدة الأخرى؛ اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية.
وأوضحت الصحيفة أن وفاة الملكة إليزابيث في بالمورال تحولت إلى درس مكثف لسكان إنجلترا، الذين لا يكاد معظمهم يعرف شيئًا عن اسكتلندا ومؤسساتها، وفرصة نادرة لرؤية بريطانيا كدولة أكثر تعقيدًا وتركيبًا من فكرة معظم مواطنيها عنها تحت هيمنة لندن ومركزيتها الثقافية.
والأدهى من جهل عموم البريطانيين بأقاليم المملكة المتحدة جهل السياسيين البريطانيين بها أيضًا، فمعظمهم لا يذهب إلى اسكتلندا أو ويلز أو أيرلندا الشمالية إلا للضرورة، وسواء عن قصد أو غير قصد، فقد تشرب السياسيون البريطانيون عادة نسيان الأقاليم، وساهموا بذلك في الاتجاه إلى التفكك بدلًا من الوحدة.