الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قرأنا لك|سهام ذهني تكتب عن «ورثة آل الشيخ»: تكثيف الماضي في أحداث الحاضر

الكاتبة سهام ذهني
الكاتبة سهام ذهني ورواية ورثة آل الشيخ

أخذتني رواية أحمد القرملاوي "ورثة آل الشيخ" من يدي وجعلتني أذهب إلى شقة أسرتي المغلقة في الزمالك، أزحت الغبار عن مكتب أبي أفتش عن الصور القديمة، وأبعثر محتويات الأدراج العتيقة، إلى أن عثرت على أقدم ألبوم صور بالأبيض والأسود.

البحث بين طيات الماضي

انبعث من بين الصفحات وميض أيام ماما وبابا التي في القلب مازالت على الرغم من أن تلك الأيام قد انقضت وزالت.

التقيت عبر الصور من جديد بطفولة إخوتي وشباب الأعمام والأخوال ووهج الأجداد. استرجعت ملامح من مضوا، وتبينت من جديد أن لي ملامح تشبههم ينطق بها وجهي وربما روحي واهتماماتي ووجداني.

بالأبيض والأسود أطلت وجوههم السمحة باتجاه حنين عيني، وارتعاشة أهدابي، وحاجباي وهما يرتفعان بانشراح أحيانا وبدهشة أحيانا خلال التقليب من صفحة إلى صفحة.

ما فعلته في وجداني رواية "ورثة آل الشيخ" لأحمد القرملاوي هو أمر أدهشني، فهو أمر جديد جدا على علاقتي بالروايات.

البيوت العامرة

فهناك روايات تجعل القارئ يسقط مضمونها التاريخي على الحاضر، وهناك روايات تجعل القارئ يقوم بإكمال ما قرأه عبر سطورها، أما أن يصل الأمر برواية إلى أن تجعل القارئ يفتش بشكل حقيقي عن ملامح وذكريات تتعلق بكثير ممن رحلوا من أسرته هو الممتدة، فذلك ما أبهرني فيما تسببت فيه الرواية الممتعة لأحمد القرملاوي "ورثة آل الشيخ".

فهو يتحدث في الرواية عن أسرة عبر عدة أجيال، وإذا بفيضان يغمر وجداني حاملا حنينا جارفا للأجيال التي مضت من أسرتي.

وجدت نفسي نتيجة للقراءة أسترجع قصص عائلتي وأستعيد مشاهد البيوت التي كانت عامرة، بعد أن عثرت على ألبوم الصور الأبيض والأسود للعائلة. مثل بطل الرواية التي وصف المؤلف سعيه من أجل الاطلاع على صور الأهل والأجداد القديمة بأنه حسب تعبيره الدقيق: " في جيب ذاكرتي ثقب آخذ في الاتساع، ترتقه الصور القديمة". وقوله وهو ينظر لصور الأسرة القديمة: " ثمة رواية تكمن خلف الصور، تُخاتلني بوجهها الذي بلا ملامح".

بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ

رواية "ورثة آل الشيخ" لأحمد القرملاوي تأسر من يقرأها، ففيها تكثيف "يوسف إدريس" مجدول بمقدرة النفَس الطويل لـ"نجيب محفوظ"، فمن يقرأها يجد نفسه في أحضان تنوع القصص القصيرة لأبطال آل الشيخ، مع فيضان تناغم الحكي المعزوف عبر بيئة جامعة لأسرة ممتدة خلال عدة أجيال كما الحال في عدد من روايات نجيب محفوظ.

ما الذي فعلته في ذاكرتي تلك الرواية التي منذ صفحاتها الأولى  رد فيها البطل على سؤال والده حول كيفية تأليف الروايات قائلا: لا نؤلفها من العدم، بل نرويها، كأنها موجودة في الهواء الذي نتنفسه، ونقوم فقط باستنشاقها وتفريغها.

ثم تأتي على لسان البطل جملة أخرى عبقرية عن الخيال والحقيقة في الروايات حين يصرح لأبيه بأنه لم يعد بإمكانه التمييز بين الحقيقي والخيالي في الرواية التي كتبها. وهي جملة تعبر عن حقيقة يدركها من يقوم بكتابة رواية ثم يقوم الكثيرون بالربط بين أبطال فيها وبين شخصيات حقيقية، دون أن يدركوا أن هناك فرقا بين الشخص وبين الشخصية، فالشخص الحقيقي بعد أن يلهم المؤلف يتحول إلى شخصية روائية مستقلة عن الشخص الذي كان ملهما للكاتب.

كما أن مصدر إلهام الكاتب لشخصية روائية معينة من الوارد أن يكون عدة أشخاص حقيقيين في الحياة وليس شخصا واحدا.

بين الماضي والحاضر

ولأن الرواية ممتدة ما بين ملامح الماضي ومشاهد الحاضر فقد كانت موحية جدا تلك الجملة التي جاءت على لسان البطل عند اعتقال صديقه ضمن المعتقلين بعد ثورة 25 يناير بينما هو يقيم مع زوجته في فيللا والدها لواء الشرطة التي انتقلوا إليها لدواعي رعايتها عقب إصابتها بالسرطان. حيث نقرأ على لسان البطل: القمامة ترتفع كأنها علامات الطريق. لا أعرف شيئا يربطني بهذا العالم الممسوخ، إلا حاجتي للكتابة عنه. هل ثمة رابط آخر لا أدركه؟ يمكن، ولا سبيل أمامي لاكتشافه غير الكتابة.

ثم ينتقل المؤلف بالبطل من فيللا حماه اللواء إلى سيرة الحكمدار صدقي في شجرة عائلته مؤكدا أنه قد توفي صدفة برصاص الإنجليز خلال ثورة 1919 ، وأنه كان ضد الثورة، ولم يمت شهيدا مثلما اعتقد بعض أفراد العائلة بأنه قد استشهد.

في الرواية شروق وغروب. صعود وتدحرج. أمل وإحباط. فيها جسارة صدقي بيك الحكمدار، وزهوه الذي بلا حدود بمكانته الأمنية مهما كان يستمدها من أصدقائه الإنجليز، وفيها ذبوله وانكساره حين خذله الإنجليز وقاموا بتعيين إنجليزي بدلا منه في الحكمدارية ودحرجته من مكانته المرموقة إلى مأمور للأزبكية، ثم رحيله المفاجئ، أثناء ثورة 1919 وإذا بالبعض يتحدث عنه باعتباره من شهداء الثورة بينما هو كان رافضا للثورة ومعتبرا المشاركين فيها مشاغبين، وأن ما يقومون به هو نوع من الجنون.

وكل ما في الأمر أنه كان في طريق عودته بعد شراء مستلزمات تموينية. وكما جاء بالنص في الرواية حول وصف ظروف ومشهد رحيله: "ولما رأى الشباب قد أقاموا المتاريس صرخ فيهم أفسحوا طريقا للعبور. من سمح لكم بعمل المتاريس؟ صرخة، فأُخرى، فصوت طلق ناري يشق الهواء، فصمت أبدي".    

قضايا متجددة

الرواية تغوص في قضايا مضت لكنها تشبه قضايا تتجدد، منها العقيدة القتالية.حيث الاشتراك في حرب دون انشغال بقضيتها أو بهوية من يقاتل، نواجهها مع "الأميرالاي نشأت"، وأمه التركية التي بعد أن كانت قد فرحت بأول ولد تفوز بتسميته باسم تُركي خالص على عكس إرادة زوجها الشيخ، ثم تفرح بالتحاق ابنها بالجيش مثل أجدادها الأتراك، إذا بالزمن يفاجئها بأن ابنها حين صار قادرا على القتال إذا بأمور تتغير وأحداث تستجد، فإذا به مقاتلا في صفوف المحتل الإنجليزي ضد أهلها الأتراك في الحرب العالمية، ليس هذا فقط بل يعود من الحرب بعاهة مستديمة.

في الرواية تفاصيل من الحياة اليومية بمفردات ذلك الزمان حين يتحدث عن الذهاب إلى مكتب التلغراف لإرسال برقية إلى "نعمات" في البلد. ثم نرى وصول البرقية لها عبر مراسل من مكتب التلغراف بالبلدة يقف على باب بيتها بعد أن ينزل من فوق حماره، وسيلة مواصلاته.

ثم عند الانتقال إلى فصول أخرى تدور أحداثها حاليا، نجد البطل يفتح "جوجل مابس" ليحدد موقعه على الخريطة، ونجد الزوجة تستخدم "الواتس آب" لتخبر والدها بأمر ما يدور بينها وبين زوجها خلال مشاجرة معه ضد قراره بالهجرة، كي يتدخل والدها اللواء.

الرواية فيها تعدد الزوجات زمان، وفيها الزواج والطلاق. فيها قصص للحب المتوهج التي في نهايتها لا يتزوج الأبطال سواء بسبب ان الحب من طرف واحد مثل محمد وزبيدة ابنة العم التي لا تشعر به، أو الأميرالاي نشأت والأرمينية "ليليت" التي تحول الظروف السياسية دون ارتباطهما. القصتان مطرزتان بتفاصيل دقيقة كثيرة لها قدرة على أن يلتهمها القارئ بسهولة ذوبان غزل البنات في الفم.

حديث الأماكن

هي رواية تتحدث فيها الأماكن، البيوت، الشوارع فتجعلنا نعود إلى زمن مضى دون أن يرحل من الذاكرة، مثلا نجد البطل وهو في شارع المعز مصطحبا أمه وصديقتها يتساءل مع نفسه: "كم من جدودي وقف هنا في شبابه؟ هذا موطئ أقدامهم، هنا عاشوا زمنا ثم ذهبوا، هنا تصايحوا، فوق هذه الأحجار تردَّد صياحهم، تحت هذه السماء طيَّروا طيارات ورقية، أيذهبون، أم يبقى منهم  شيء من آثارهم، من تراب أقدامهم. أنا من بين آثارهم تلك، عليّ أن أترك أثرا ما قبل الذهاب، لكي يعبروا من خًلاله".

وحين يدخل للصلاة في جامع الأقمر نقرأ: "مسندا ظهري لعمود من الرخام عمره ألف عام؛ أكبر من أجدادي وجداتي الذين ذهبوا. أتناول هاتفي، أفتح جوجل ماپس. على الجهة المقابلة للجامع شارع الخرنفش، لا بد أنهم كانوا يصلون الجمعة هنا، كان جدي محمد يسند ظهره فوق هذا العامود، ليستريح بعد الصلاة.

عبر الرواية نركب قطار حلوان أيام أن كان قطارا عتيقا فنرى عبر الطريق المعادي في بداياتها الرشيقة، ثم حلوان في بداياتها الأنيقة.

أما المحمل ومشهده وكسوة الكعبة في طريقها من مصر إلى الأراضي المقدسة بمكة مع موسم الحج فوصف المشهد السنوي في ذلك الوقت يوقظ الحنين ويدق على أبواب الأنين.

وصف الأماكن يبعث في الوجدان الشعور بالفقد تجاه معالم كنا قد شاهدنا نحن أيضا سطوعها وتألقها، ثم مرت السنين وشهدنا مصرعها أو على الأقل أفولها.

فوصف المؤلف بجدارة للأماكن التي دارت فيها الرواية زمان، أيقظ في سمعي وبصري أماكن أخرى أحببتها أنا وشهدت حلاوتها زمان، ثم رأيت كيف جارت عليها الأيام واغتصبت بكارتها السنين.

أتذكر شارع الزمالك الرئيسي قبل أن يعلوه كوبري 15 مايو.أتذكر شارع يحيى إبراهيم الذي عشت فيه خلال زمان كانت العمارة التي نقيم فيها تطل على فيللات تسيجها الأشجار، وتطل الزهور من بين الأسوار، قبل أن ترتفع مكانها عمارات مرتفعة بدون جراجات، وقبل أن يترتب على ذلك ازدحام الشارع بالسيارات.

البحث عن العائلة

أما ألبوم الصور الذي عثرت عليه في شقة الأسرة بالزمالك فقد جعلني وجها لوجه أمام وجه شقيقتي الراحلة سعاد في طفولتها بعينيها المغموسة في الأمل المتردد، فأسترجع رحيلها المفاجئ عن دنيانا بينما كانت تقضى فصل الصيف على شاطئ البحر في الساحل الشمالي، كما نبهني ألبوم الصور إلى أن شقيقتي الراحلة سهير كانت ابتسامتها عادة مرتعشة في الصور، كأن تلك الإبتسامة قد توقعت أنها وهي التي كان معروفا عنها حب الضحك وخفة الدم  سوف يمر الوقت فيدوس الزمان على ضحكتها، وأن السرطان في يوم ما سوف ينهش جسدها وابتسامتها حيث رقدت ورحلت في غضون شهر أو أقل.

سبحان الله، إنها الدنيا التي يبدو المؤلف رافضا فيها لأي شفاعة تطالب بالتخفيف من مصائر أبطال الرواية، فنجد محمد الذي ينهار حلم اسرته بالتحاقه بالشرطة عقب إستهداف البلطجية له وإصابته بعاهة مستديمة ردا على قيامه بحرق الاستوديو الذي التقط مالكه صورا لزبيدة التي يحبها من طرف واحد ولا يتحمل إذلال مالك الأستوديو اليهودي لها.

وحسن الذي عاش بعاهة خلقية، ثم ما أن ضحكت له الدنيا ومارس هوايته المناسبة لظروفه الجسدية في التصميم والرسم بالمطبعة إذا بالشرطة تقوم بالقبض عليه بتهمة تزوير النقود.

وصديق البطل الذي شارك بحماس في ثورة 25 يناير ثم تعرض للاعتقال. وكلها حكايات نتلقاها من خلال تفاصيل غزيرة أتقن المؤلف بدأب في تطريزها والاهتمام بتوزيع الإضاءة لإظهار جوانب التفاصيل المتوارية في الأركان، مع استخدام العبارات الرشيقة التي تبدو بسيطة بينما هي في حقيقتها عميقة ودقيق.

الرحيل والعودة

فعقب ثورة يناير واعتقال صديقه ثم خروجه من السجن نجد الصديق يقول لبطل الرواية"ما تيجي نهاجر"، ويضيف المؤلف:"قالها ببساطة اقتراح خروجة مسائية"، ثم تأتي سيرة الهجرة من جديد فيحرص المؤلف على التفرقة بشاعرية بين الرحيل والعودة في تعليقه على الجزء الأول والثاني من فيلم "باب الشمس" الذي يشاهده مع صديقه العائد في أجازة من أستراليا التي يواصل الصديق تشجيع بطل الرواية على أن يلحقه بالهجرة إليها.

ثم تساؤلات البطل الموجعة ردا على تحفظ والده على قراره بالهجرة: "هل ثمة خيار يا أبتاه؟ هل سيكون بمقدوري أن أعلم أبنائي كما علمتني؟ أن أزوجهم كما زوجتني؟ أن أطمئن عليهم مثلما اطمأننت؟".

اقرأ كلمات المؤلف فأجد نفسي أتساءل: أليس مستقبل الأبناء هو ما يقلقنا عادة، بل ويوجعنا.
ثم عند الوصول إلى الخاتمة حيث البطل في مفترق طرق وهو محبوس في قسم الشرطة انتظارا للعرض على النيابة عقب مشاجرة والده مع مالك أرضهم التي يؤجرها للأغراب في غيابهم.

وبينما نحن قد عرفنا منذ بدايات هذا الفصل الأخير أن المشاجرة قد وقعت قبل موعد سفره إلى استراليا بيوم واحد، فإن المؤلف قد حرص على أن ينقل لنا ما يطل من وجدان البطل وهو في انتظار ما ستفسر عنه الأمور قرب العد التنازلي لموعد تذكرته إلى البلد البعيد الذي سبقه إليه صاحبه مهاجرا، فنجد ذاكرة بطل الرواية تطل منها صور الأهل الذين رحلوا فأجد وجداني يشارك بطل الرواية في تفهم أحواله، حيث أتذكر إلى أي مدى آنستنا عبر مفترق طرق الحياة وجوه لمن رحلوا ورموز معبرة عن تلك الوجوه.

كما يستعيد وجداني إلى أي مدى أطلت علينا ملامحهم وربتت على أكتافنا حكاياتهم، وأمدتنا سخرياتهم الضاحكة بما يهوّن علينا المجهول الذي ننتظره، ثم أعود إلى المؤلف فأجده قد اختتم تلك الصور والذكريات بصورة أجمل سيدات العائلة "زبيدة" مع زوجها "شاهر" الذي كانت قد عاشت معه أياما كالأحلام لكن اختطفه الموت منها سريعا، فإذا بهذه الصورة هي المشهد الذي أنزل من خلاله المؤلف الستار على رواية "ورثة آل الشيخ" بعد وصف إطلالتهما من وجدانه بأنهما قد ظهرا أمامه في إطار النافذة "ملونين ومبهجين كأنما خرجا توا من أفيش فيلم قديم".

كأن المؤلف يسجل في عز اللحظات الصعبة كم هو غامر الحنين تجاه الذي مضى في عز الوجع من تعقد فرص اللحاق بخطط المستقبل التي كان تحقيقها يبدو وشيكا.