“كلّ لغة هي حمّالة لرؤية متفرّدة للعالم”، ذلك ما تقوله الفيلسوفة الفرنسية باربرا كاسين التي تعرّف التّرجمة على أنّها مهارة فنية ودراية في التعامل مع الاختلافات.
تعد باربرا كاسين أحد أبرز علماء فقه اللغة الفرنسية والهيلينستية وهي فيلسوفة، متخصصة في الفلاسفة اليونانيين وخطاب الحداثة، وهي متخصصة في العهد الهيليني، وعضو الأكاديمية الفرنسية، والمبادرة بإنشاء الشبكة الدولية للنساء الفيلسوفات التي ترعاها اليونسكو. لها عديد المؤلّفات نذكر منها "تقريظ التّرجمة Éloge de la traduction" الذي نُشِر في عام 2016. كما أشرفت على وضع "معجم الألفاظ غير القابلة للترجمة Le Dictionnaire des intraduisibles" الذي نُشِر في عام 2004.
وفي حوار أجرته معها منظمة اليونسكو تحدثت باربرا كاسين عن فلسفتها ووجهة نظرها حول اللغات؛ لذلك يعرض"صدى البلد" نص الحوار.
أودّ أن نستهلّ الحوار بسؤال تعريفي: ما معنى أن نُترجِمَ؟
أن نترجم يعني أن نعبّر وأن ننقل أو نسافر من لغة إلى أخرى. لقد اِفْتُتِحَ المعرض، الذي أقمتُه في عام 2016 في متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية في مرسيليا تحت عنوان "التّرجمة بعد بابل"، بعرض لمختلف الصّياغات التي تعبّر عن فعل "ترجم traduire" الفرنسي والمتأتي من اللفظ اللاتيني traducere وليس من اليونانية القديمة التي لم تحتوِ على رديف لهذا الفعل، فهذه الأخيرة تلجأ إلى كلمة أخرى هي hermêneuein والتي تفيد معنى "التّفسير" و"التّأويل". وفي اللغة العربية يحيل لفظ "ترجمة" على معنى التفسير أيضا. في حين يُشار إلى التّرجمة، في النصوص الصينية القديمة، على أنّها حركة قلب قطعة من الحرير المطرّز بحيث يكون وجهها غير مماثل لقفاها رغم أنها تظلّ ذات القطعة في كلا الوجهين. وهي استعارة لا تخلو من الرّوعة. فالتّرجمة هي إدغام شيء ما في شيء آخر، والشيئان شديدا التّقارب إلى درجة أنّ الأصل هو الذي يحاول أن يكون شبيها بالتّرجمة كما يقول الكاتب الأرجنتيني، خورخي لويس بورخيس.
إنّ لكل لغة قوّتها واتّساقها، وهو ما يُعرف أحيانا بعبقريّة هذه اللغة أو تلك. ويجب أن ندرك أنّ هذه العملية ليست مجرّد تغيير في اللّباس، بل هي تغيير في الشّخصية ذاتها خلافا إلى ما ذهب إليه أفلاطون في محاورة كراتيليوس. لذا فالتّرجمة تعني إقحام الغريب أو الدّخيل في الأصليّ وتعديل كليهما. إنّها "الخان الذي يأوي الغريب" l’auberge du lointain حسب العبارة الرائعة للتروبادور الأوكسيتاني، جوفري روديل (القرن الثاني عشر).
هل نستطيع التفكير بعدّة لغات؟
عندما نفكّر بلغة معيّنة فإنّنا نفكّر، بالضّرورة، بعدّة لغات أي مقارنة بلغات أخرى. ففي اليونان القديم لم تُطرح التّرجمة أصلا كمسألة في حدّ ذاتها إذ كان اليونانيون يعتبرون أنّه لا وجود سوى للغة واحدة. فاللّوغوس هو العقل واللّسان (يترجمهما اللاتينيون بـ ratio وoratio) وهو اللغة في الآن ذاته أي اللغة اليونانية. وهم يرون أنّ اللّوغوس كونيّ وشامل باعتباره يحدّد ماهيّة الإنسان. أمّا أولئك الذين لا يتكلّمون اليونانية فهم "البرابرة"، وهي كلمة تحاكي صوتا ما غير مفهوم (أي لغوا لا معنى له blablabla) في إشارة إلى الشخص الذي لا يُفْهَمُ حديثه لكونه لا يتحدّث مثلنا، وقد لا يكون ندّا بشريّا لنا...
ولكي أفكّر بلغتي، أحتاج كذلك أن أفكّر بلغات أخرى. فعندما أقول "طاب يومكم bonjour" بالفرنسية، فإنّي لا أقول السّلام عليكم أو شالوم، إذ المقصود، عكس اللغتين العربية والعبريّة، ليس تمنّي السلام بل أن يكون يومكم سعيدًا وحسب. ولا أقصد أيضا أن تطربوا وتستمتعوا على شاكلة قدامى الإغريق عندما يبادرونك بلفظ khaîre، كما لا أعني التمنّي بموفور الصحّة كما يشير إلى ذلك اللّاتين من خلال كلمة salve، بل كل ما أقصده هو أن أستهلّ اليوم. هكذا تحمل كلّ لغة رؤيتها للعالم.
بيد أنّه يجب أن نضيف أن كلّ لغة هي، بالضرورة، مختلطة عرقيا، إذ لا وجود لصفاء عرقيّ للّغة. فالكلمات، مثلها مثل الأفكار، تعيش تطوّرا متواصلا، وهي تُستورد وتُصدّر وتُهضم. وكل لغة هي سيرورة وطاقة وليست منجزا مغلقا أو منتهيا. فاللغات في تفاعل متواصل فيما بينها.
كنتم قد أشرفتم على إعداد معجم الكلمات غير القابلة للترجمة في سنة 2004. ماذا عنيتم بالضبط بـ "ما الكلمات الغير القابلة للترجمة"؟
إنّ اهتمامي بما هو غير قابل للترجمة ناتج عن اشتغالي على ترجمة أعمال المفكّرين السّابقين لسقراط. ونظرا لأنّ بنية اللّغة الإغريقية وسيميائها ليسا هما نفسهما في الفرنسية فإنّ هناك أكثر من ترجمة ممكنة. لذلك فإنّ معجم الكلمات غير القابلة للترجمة لهو شاهد على حقيقة أننا نتحدث ونفكّر بالكلمات، أي باللّغات، بما في ذلك في مجال الفلسفة. وأنّه لا وجود لمعطى كوني فوقي. فلفظ "mind" بالإنجليزية لا يعني تماما "geist" بالألمانية أو "Esprit" بالفرنسية. وفي حال ترجمتنا لمؤلّف هيجل المعنون بالفرنسية Phénoménologie de l’Esprit وترجمة نفس المؤلّف من الإنجليزية والمعنون The Phenomenology of Mind نحصل على كتابين مختلفين تماما.
إنّ المقصود ممّا هو "غير قابل للترجمة" ليس ما هو غامض أو ملتبس. أكيد أنّ هناك في "معجم الكلمات غير القابلة للترجمة" عديد العبارات الملتبسة في لغة معيّنة مقارنة بأخرى؛ فعلى سبيل المثال، كلمة pravda باللّغة الروسية لا تحيل على معنى "الحقيقة vérité" وحسب بل تعني "العدالة" في المقام الأوّل؛ وتوجد كلمة أخرى في اللغة الروسية تعني الحقيقة بمعنى الدقّة وهي istina. فكلمة "الحقيقة vérité" ملتبسة، إذن، في اللغة الروسية. أمّا إذا انطلقنا من الفرنسية فإن لفظ pravda الروسيّ هو الذي سيكون ملتبسا. هكذا يختلف الأمر بحسب زاوية النّظر. وتعتبر الكلمات المتشابهة لفظا (الجِناس) من الصّعوبات الأكثر ثراء بالمعاني عند الاشتغال على التّرجمة.
إنّ الذي يثير اهتمامي هو عدم التطابق بين اللغات، وأعني بذلك عدم قابليتها للتّراكب السيميائي وكذلك البنيوي والنحويّ. وما هو غير قابل للتّرجمة ليس هو ما لا نقدم على ترجمته -إذ يمكننا ترجمة كل شيء- بل هو ما لا نكفّ (أو نكفّ) عن ترجمته. يقول الفيلسوف فيلهلم فون هومبولت أنّه لم يسبق له أن واجه لغة وإنّما قد واجه "ألسنة" فقط؛ أي "بانثيون" [متعدّد الآلهة] ، وليس كنيسة [بإله واحد] ..
أن تترجم يعني أن تنتقي. فنحن نُترجم نصوصا دون أخرى، وننقل إلى لغات معيّنة دون غيرها. فهل التّرجمة انعكاس، هي الأخرى، لعلاقات الهيمنة؟
اللغة رهان سياسيّ بامتياز، ولطالما كان الأمر كذلك. والطريقة التي فكّر بها الإغريق في اللّوغوس كانت، بالطبع، سياسية أيضًا. وقد صُمّم "معجم الكلمات غير القابلة للترجمة" كآلة حربيّة موجّهة ضدّ خطرين محدقين بأوروبا؛ أوّلهما "القوميّة" اللّغوية التي تؤسّس لتراتبيّة هرميّة للّغات مع المحافظة على اللغتين اليونانية والألمانية في أعلى الهرم باعتبارهما لغات "أصليّة". وثانيهما اللغة الإنجليزية المعولمة Globish التي يُفْتَرَضُ أن تكون لغة الجميع. لكنّ التخاطب لا يُختزل في التّواصل، والإنجليزية المعولمة من أفقر اللّغات إذ هي لغة الكشوفات والخبرات والملفّات التي حوّلت لغات الثقافة (بما في ذلك اللغة الإنجليزية)، التي نطق بها الكتّاب وأُنتجت بها الأعمال المكتوبة والشفوية، إلى وضعية اللّهجات المتداولة محليا.
لذا وجب مقاومة هذه العولمة المسطّحة للّغات. عندما كنت أعمل بالمركز الوطني للبحث العلمي، كنت أرفض أن يكتب الباحثون الذي أشرف عليهم باللغة الإنجليزية مباشرة فأطلب منهم أن يكتبوا أعمالهم باللغة الفرنسية وأن يترجمونها إلى لغة إنجليزية سليمة.
لا شكّ في أن تنوّع اللّغات ثروة ثمينة، لكن كيف السبيل إلى نسج المشترك بناءً على هذا التنوّع؟
لبلوغ ذلك، يجب علينا أن نفكّر في الاختلافات، وأن نتيح لأنفسنا فرصة فهم حقيقة أنّنا لا نفهم. ذلك هو أحد الأسباب وراء تأسيس منظّمة "بيوت الحكمة ـ ترجمة Maisons de la sagesse-traduire" التي ترمي إلى وضع مسارد للإدارة الفرنسية بغاية مساعدة كلّ من الوافدين على الأراضي الفرنسية وجهة الاستقبال. إذ ليس أبسط من أن تُدليَ باسمك الشخصي واسم عائلتك وتاريخ ميلادك. لكن عندما يحمل مواطن ماليٌّ، مثلا، اسم محارب أو صيّاد لا يُخوَّلُ لزوجته أن تحمل اسمه، وهو ما يطرح مشاكل إدارية جمّة. وكيف يمكن تحديد تاريخ ولادة شخص قادم من بلد لا يعتمد نفس التّقويم؟ مثل هذه الإشكالات التي يواجهها الوافدون الجدد هي وليدة تراكمات مئات السنين من تاريخ الإدارة الفرنسية. ونحن نحاول شرح ذلك في هذه المسارد حيث نقدّم ومضات ثقافية متبادلة. وإذا كانت التّرجمة على هذه الدّرجة من الأهمية، فلأنّها مهارة ودراية في التّعامل مع الاختلافات.