واصل مجمع اللغة العربية بالقاهرة برئاسة الدكتور صلاح فضل عطاءه العلمي واللغوي والأدبي؛ حيث أصدر المجمع "موسوعة المصطلحات الزراعية المصوَّرة-الطبعة الأولى-2022م".
يقول الدكتور صلاح فضل (رئيس المجمع) في تصديره لهذه الموسوعة العلمية القيمة: "يمكن القول إن عناية العرب بوصف العشب، والشجر، والبقل، والكرم، والنخيل، ونحو ذلك من النباتات وتدوين أسمائها بدأ في مرحلة باكرة من تاريخ اللغة العربية الممتد، ولعل البداية التاريخية لهذا التدوين والتسجيل صاحبت عملية جمع اللغة نفسها، وتقييد شواردها، وضبط أوابدها؛ ولعل هذا يعود إلى طبيعة الحياة البدوية التي عاشها العرب متنقلين بين البقاع المختلفة؛ بحثًا عن الكلأ والماء، فكانت لهم التهائم وأنجاد الأرض، والبقاع، والقيعان، والوهاد، وغيرها من المواضع المعروفة لهم؛ لذلك كان وصفهم لما تقع عليه أعينهم من سماء، وأنواء، ونجوم، ودارات، وحيوانات، ووحوش، وطير، وهوام، ورحل، ومنزل، وزرع، ونبات، وشجر … إلخ - مما يضيق عنه الحصر- وصفَ الخبير المجرب، والعليم المُتَمرِّس.
وكان للنبات والشجر من عنايتهم النَّصيب الأوفى من التعريف والتوصيف الدقيق؛ لما فيه من قوام حياتهم ورعي ماشتيهم؛ ولذا فلا عجب أن تشغل هذه النباتات بأسمائها وأصنافها حيزًا كبيرًا من لغة العرب، حيث دُوِّنَتْ مع اللغة وباتت جزءًا لا ينفصل عنها، وحُفِظَتْ في الأشعار، والأمثال، والوصايا، والخطب، وغيرها من الأجناس التي يزخر بها التراث العربي. حتى وصلت هذه العناية إلى ما دونه العرب في رحلاتهم، ووصفهم ما رأوه واختبروه، من النباتات في الأقطار التي جابوها بعيدًا عن بلادهم الأصلية، بل إن من الرَّحَّالةِ مَن صَبَّ جُلَّ تركيزه على النبات كالقزويني، وعبد اللطيف البغدادي، والوطواط وغيرهم.
ومن أشهر تلك المؤلفات التي عنيت بأسماء النباتات واستقصاء أنواعها وأصنافها، وخواص ثمارها وأوراقها كتاب "النبات والشجر" للأصمعي (ت:216ه)، ومصنفات "النبات"، و"صفة الزرع"، و"صفة النّخل" لابن الأعرابي (ت: 231ه)، وكتاب "النبات والشجر" لابن السِّكّيت (ت: 244ه)، وكتاب "الزَّرع والنبات والنخل وأنواع الشجر" للمفضل بن سلمة (ت: 290ه)، أمَّا كتاب "النبات" لأبي حنيفة الدينوريّ (ت: 282ه) فهو واسطة العقد بين هذه المؤلفات جميعها لسعة مادته، واستقصاء جمعه، ودقة وصفه، فلم يترك أبو حنيفة شيئًا من النباتات التي رآها إلا أثبتها في كتابه ووصفها، حتى فاق بهذا الكتاب من تقدمه من علماء اللغة ومدونيها والباحثين في النبات. وغيرها كثير من المؤلفات التي لا يتسع المقام لذكرها.
كما يزخر التراث العربي بالعناية بتعريف النباتات والأعشاب وتصنيفها وفقًا لاستعمالاتها الطبيَّة، يتجلى هذا في مؤلفات حنين بن إسحاق (ت: 264ه) وترجماته المختلفة، وكذا لدى أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (ت: 313ه)، وابن مسكويه (ت: 421ه)، وابن سينا (ت: 428ه) وغيرهم.
ولم يقتصر العرب في معرفتهم بالنباتات على ما لاحظوه في بيئتهم فحسب، بل إنهم نقلوا كذلك أصناف النباتات وخواصها عن الأمم الأخرى المحيطة بهم والمجاورة لهم، واشتغلوا كذلك بالنبات من حيث زرعه، ونموه، وتسميده، وحصاده، وأوقات ذلك كله، وهو ما يسمى بالفلاحة، ومن الأمم التي أخذوا عنها الفلاحة ونقلوها إلى العربية: الروم، والنبط، والفرس. ومن أمثلة ذلك كتاب "الفلاحة النبطية"، لأبي بكر بن وحشية، وكتاب "الدر الملتقط في علم فلاحتي الروم والنبط"، لمحمد بن أبي بكر بن أبي طالب الأنصاري المعروف بشيخ حطين. وفي الأندلس اشتهر كتاب "الفلاحة" لابن العوام الأشبيلي، الذي نقل فيه طرق الزراعة عند اليونان والرومان والنبط وغيرهم.
تنوع خلاق
وعلى الرغم من كل هذا الثراء والتنوع الخلاق ما بين التأليف والترجمة والوصف، فإننا بحاجة إلى موسوعة علمية حديثة في علوم الزراعة تواكب التطورات الهائلة لهذه العلوم الحيوية، وما استجد في مجالات الزراعة من تقنيات حديثة؛ لتكون مرجعًا علميًّا موثوقًا للدارسين والباحثين في العلوم الزراعية، ومصدرًا ثقافيًّا واضح العبارة شائق العرض، للقارئ العام. وقد وجد مجمع اللغة العربية بغيته هذه في "موسوعة المصطلحات الزراعية المصورة" التي أعدها أستاذان جليلان يجمعان بين التخصص في العلوم الزراعية، والوعي العميق بالعربية وطرائقها التعبيرية، وهما: الأستاذ الدكتور/ عبد الوهاب عبد الحافظ عضو المجمع، والأستاذ الدكتور/ محمد علي أحمد الخبير بالمجمع.
وتضم هذه الموسوعة زهاء خمسة آلاف مصطلح، وأكثر من ثلاثة آلاف صورة توضيحيّة تفسر المصطلح وتزيده وضوحًا، وتقدم وصفًا مجسدًا لكثير من أنواع النباتات والحشرات، والطيور، والثمار، وغير ذلك. وقد اختيرت المصطلحات بعناية ودقة فائقة، استقاها المؤلفان من المجلات العلمية المعنية بالعلوم الزراعية، والأبحاث والمؤلفات الأجنبية والعربية، ومن ثم فقد عَرَّبا كثيرا من المصطلحات في مجال أمراض النبات، والمحاصيل، والفاكهة، والاقتصاد الزراعي، والتشريعات الزراعية، والإدارة البيئية، والثروة الحيوانيّة، والأغذية...إلخ وهو جهد علمي ولغوي يستحق الإشادة، ولاسيما في هذا الوقت الذي يصف فيه بعض الباحثين تعريب العلوم بأنه ضرورة حضاريَّة، وحتميّة قومية.
ولعل من أهم أسباب اختيار المجمع هذه الموسوعة لتنشر تحت مظلته، استيعابها لعديد من القواميس والمعاجم الخاصة بالمصطلحات الزراعية السابقة عليها، وإضافتها للأحدث من المصطلحات والمفاهيم، مع سلامة العبارة، ووضوح الشرح، وبيان المقصد، ودقة التعريف، فضلا عن محاولة هذه الموسوعة إبراز دور حضارات المشرق القديم، وعلى رأسها الحضارة الفرعونية والسومرية والعربية في تطوير مجالات الزراعة المختلفة، وهي نقطة جديرة بالبحث.
ولقد كان لمجمع اللغة العربية سهمة في هذا الميدان، إذ كان للجنة علوم الأحياء والزراعة – وهي من اللجان الحيوية بالمجمع - قصب السبق في إصدار معجم لعلوم الأحياء والزراعة تحت عنوان: "معجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة" في جزأين يضمان أكثر من عشرة آلاف مصطلح مزودًا بتعريفات مختصرة إلى حد ما. ولا تزال هذه اللجنة التي تضم ثلة من العلماء المتخصصين في الفروع العلمية المختلفة تواصل عملها؛ لإيجاد المصطلح العربي الملائم للمستحدث من مصطلحات هذه العلوم.
وليس من شك أن تأليف مثل هذه الموسوعات الحديثة بالعربية من شأنه أن يطور لغتنا، وينمي حصيلتها في المجالات العلمية المختلفة، ويقوي من اتصالها الحضاري مع العالم المتقدم، وهو من صميم رسالة المجمع، التي آمل أن تتحقق حتى تتبوأ لغتنا مكانتها الحضارية التي تستحقها بتاريخها الممتد الضارب في جذور الزمن".