الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أرواح خلدها رمضان|بُوصلة الصائمين.. الشيخ محمد رفعت

الكاتب الصحفي محمد
الكاتب الصحفي محمد الغريب

"هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية".. ربما لن تجد كلمات أبلغ في وصف القارئ الراحل الشيخ محمد رفعت مما قاله شيخ الأزهر الراحل مصطفى المراغي، فهو بحق منحة إلهية لا يضاهيها منح، واصطفاء رباني قلما يتكرر، فلله جل وعلا في خلقه شئون وفي عطائه حكم وفنون.

قيثارة السماء

هذه المنحة العظيمة التي تهادتها القلوب قبل أن تعتريها الآذان سمعاً وطرباً، هى بُصلة الصائمين حين تعتريهم المشقة ويتطوقون لري ظمأهم وإشباع بطونهم، يرافقهم فرحتهم الأولى التي أخبر عنها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال :"للصائم فرحتان"، فكان سبيلهم نحو الفرحة الأولى بالفطر.

ونحن إذ نتباهى على الأمم بشهر أكرمنا الله تبارك وتعالى بصيامه واصطفانا لقيامه، لا نجد ميراثاً للأجيال نتباهى به بين الأمم مثل هذه اللآلئ التي لا يزيدها الزمان إلا بريقاً وجمالاً، لا نجد ما يكافئ مدحها، بعد أن أقرنتها الأقدار بأجل الكلمات وأعظم الشهور، ولا طاقة لوصفها بعد أن صارت علامة من علامات خير النفحات، لا تجد صائماً يجلس في بيته ينتظر الأذان، أو قائماً على عمله يهم به ليلحق بخير مائدة إلا وتجده رفيقاً له ويربط على عزيمته بأن فرغ من صيامه مستبشراً بأجر عظيم.

وإذ أجد عجزاً أمام عملاق من عمالقة دولة التلاوة التي لا يمكن لعاقل أن يتصور في مُضي شهر القرآن الكريم دون الطرب بصوته، بل إن العام كله لا يتصور أن تمر السابعة صباحاً وقد خلت من صوت تفرد بكل ألوان العذوبة والجمال فكان قيثارة السماء في رواية أحدهم والصوت الملائكي في أخرى، وإذ أكتب كلماتي هذه فإني على يقين بأن الأجيال ستتعاقب وستظل هذه الهدية هي أغلى ما جاد به الزمن على مصر والعالم الإسلامي.

وبالعودة إلى سيرة القارئ الكبير محمد رفعت فإن اسمه جاء مُركباً كجده، فيما كان والده محمود رفعت مأموراً لقسم الجمالية، وقد ولد في يوم الاثنين 9 مايو عام 1882م بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، فقد بصره وهو في سن الثانية، وبدأ حفظ القرآن في سن الخامسة، ومن المتواتر أن سبب فقدان بصره أن إحدى السيدات حسدته لجماله فى طفولته قائلة: "له عيون ملوك".

التحق بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، فحفظ القرآن الكريم فى الخامسة ودرس علوم القراءات والتفسير على أيدى شيوخ عصره، درس علم القراءات والتجويد لمدة عامين على الشيخ عبد الفتاح هنيدي صاحب أعلى سند في وقته ونال إجازته، وتوفي والده وهو في التاسعة من عمره فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولاً عن أسرته المؤلفة من والدته وخالته وأخته وأخيه "محرم" وأصبح عائلها الوحيد بعد أن كانت النية متجهة إلى إلحاقه للدراسة في الأزهر، بدأ وهو في الرابعة عشر يحيي بعض الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم، وبعدها صار يدعى لترتيل القرآن في الأقاليم.

افتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934 بتلاوة أول سورة الفتح “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا”، وذلك بعد أن استفتى الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى ـ شيخ الأزهر الشريف آنذاك ـ عن جواز قراءة القرآن الكريم عبر الإذاعة فأجاز ذلك، بعد أن ذاع صوته عبر موجات الأثير طلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية تسجيل القرآن الكريم فاستفتى الشيخ المراغى فأجاز ذلك، فسجل لها سورة “مريم”. 

امتاز الراحل بصوت جميل وبصمة لا تتكرر، وأسلوبه الفريد المميز في تلاوة وحي السماء المُعجز، فكان يتلو القرآن بتدبر وخشوع يجعل من سامعه مُتدبراً ومتبحراً في معاني القرآن الكريم ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، كان يؤصل لسمو رسالة الكتاب العزيز فيؤثر بمستمعيه كيفما شاء، كان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته، فهو خفيض في بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالبًا "عالياً" لكن رشيداً يمسُّ القلبَ ويتملكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه واستشعار لآي الذكر الحكيم.

كان اهتمامه بمخارج الحروف كبيراً فكان يعطي كل حرف حقه ليس كي لا يختلف المعنى فقط، بل ليصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقاً جميلاً رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف.

 امتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات في أثناء تلاوته للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله عز وجل، فقد أوتي مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فإن صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.

وفي سنة 1943 أصيب الشيخ بمرض سرطان الحنجرة فتوقف عن القراءة، ورحل عن عالمنا في التاسع من مايو عام 1950 عن 68 عاما بالتمام والكمال، كان نعيه من الإذاعة المصرية معبراً عن مكانته كعلم من أعلام الإسلام حيث قالت: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام"، ونعاه مفتى سوريا قائلاً: “لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام.. رحم الله الشيخ محمد رفعت الذي لا تزال تلاوته تحيي القلوب”.