الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أنور إبراهيم: إرث دوستويفسكي سيستمر طويلًا

صدى البلد

منذ أيام مرّت الذكرى الـ٢٠٠ لميلاد الروائي والكاتب الروسي الأشهر دوستويفسكي، والذي يعد أحد أبرز الكتاب الروس الكلاسيكيين عبر التاريخ، إذ ترك لنا أعمال خالدة منها "الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف" لذلك أجرينا هذا الحوار التالي مع المترجم والدكتور أنور إبراهيم، والذي ترجم الكثير من الأعمال الأدبية عن الروسية، ليجيبنا عن العديد من الأسئلة التي دائمًا ما تشغل بال المثقفين والقراء حول الأدب الروسي تحديدا وبخاصة دوستويفسكي.

 

 مرّت الذكرى الـ٢٠٠ لميلاد الكاتب الروسي دوستويفسكي منذ أيام قليلة ، كيف استقبل الروس الأمر؟

الاحتفالات بمرور مائتي عام على ذكرى ميلاد دوستويفسكي داخل روسيا كانت منوعة، إذ افتتحت  معارض في بعض المدن التي عاش فيها بشكل عابر أو لسنوات طويل فمثلا دوستويفسكي نفي في مدينة أومسك، فبعد الاعتقال كان يحظر على من حبسوا أن يعيشوا في المدن الكبرى مثل موسكو أو سان بطرسبرج، لذلك عندما ذهب إلى "أومسك" عاش هناك لفترة من الوقت، فقد افتتح مؤخرا هناك بيت لمتحف دوستويفسكي، وهناك أشكال أخرى من الاحتفال به منها؛ بعض التحقيقات الصحفية التي أجريت هناك بالإضافة إلى الحوارات التي تجري مع كبار الكتاب والتي يكشفوا من خلالها علاقتهم الإبداعية بـ"دوستويفسكي وتأثرهم به سواء سلبا أو إيجابا. 
وبالإضافة إلى ذلك فقد احتفت القنوات الروسية بالأديب الروسي، إذ عرضت أفلام جديدة عن حياته وأخرى عن مؤلفاته، فقد أعيد تمثيل وإخراج أفلام مأخوذة عن روايته الكبرى، ولازلت حتى الآن وبشكل يومي أجد مقالات وأخبار تحتفي بهذه المناسبة.

مثل أعلى

 

إذًا هل تتوقع أن يظل إرث دوستويفسكي مستمرا لقرون قادمة؟

أظن أن إرث دوستويفسكي سيستمر لسنوات طويلة، "من منظوري الشخصي"، فإذا لم تحدث تغيرات كبيرة في نمط الحياة في العالم، فأعتقد أنه سيبقى بالتأكيد، وذلك لأن القضايا التي عالجها في روايته لا تزال حية حتى الآن؛ والتي تتلخص في روح الإنسان وصراعه، وتأرجحه بين الخير والشر، إذ إنه اعتبر أن قلب الإنسان هو ساحة هذا الصراع، ولأن الخير والشر موجودين إلى الأبد، فهم يتخذوا الكثير من الأشياء؛ سواء كانت مبررة أو غير مبررة، فكل إنسان يرتكب جريمة أو خطأ، وداخل أعمال دوستويفسكي ستجد الجريمة في روايته الكبرى، هي عنصر فاعل ومهم وأساسي في الرواية، وبالرغم من ذلك فهو لم يكن من كتاب الجريمة أصلا مثل أجاثا كريستي، وغيرها من الذين كتبوا روايات عن الجريمة بشكل متخصص، فهو يعتبر أن الجريمة هي قمة انهيار المجتمعات، لذلك يرى أن من يرتكب جريمة من الجرائم يكون وراءه دافع من الدوافع، فروايته هي دراسة لدوافع ارتكاب الجرائم، خلافا للروايات البوليسية، أو لروايات الجريمة التقليدية التي عادة ما يخفي الكاتب القاتل وتكون الرواية في النهاية هي عبارة عن رحلة للبحث عن القاتل، مثل روايات أجاثا كريستي كما ذكرت وتحديدا رواية "قطار الشرق السريع" وغيرها من الروايات التي تهدف للبحث عن القاتل، لكننا نحن عند دوستويفسكي نعرف القاتل من أول دقيقة، ويظل البحث عن دوافع هذه الجريمة هو سبب كتابة الرواية؛ سواء كانت دوافع اجتماعية أو سياسية أو فلسفية مثل رواية "الجريمة والعقاب" وبطلها راسكولينكوف، والذي اضطر للقتل لهدف فلسفي اجتماعي للتخلص من الأشخاص الذين رأى أنه يجب أن يتخلص منهم لأنهم آفات تمتص دم المجتمع، لذلك فهذه الروايات ستظل موجودة لمائة عام أو أكثر من ذلك، فهذه الإشكاليات ستظل موجودة، ومنها إشكاليات الحب غير المتحقق، وإشكاليات البحث عن المثل الأعلى، إذ دائما ما كان يحاول أن يرسم صورة شخص مثالي مثل المسيح باعتبار أنه يرى أن المسيح هو الشخصية المتألقة في الحياة، لذلك فهو يأتي بأحد الأفراد، الذين يحملون صفات حميدة، ليلعبوا دور المسيح في القرن الـ19 والذي كتب فيه رواياته، ليجيب عن سؤال واحد مفاده: "كيف سيستقبل المجتمع شخص ينادي بالحب مثلما جاء المسيح؟" لذلك فهو أراد كشف الشخصيات المناوءة  للمثل الأعلى. فهو يرى مثلا أن رواية "دون كيخوتي" هي مثل أعلى له وأن هذه الرواية هي أهم كتاب بعد الكتاب المقدس.

ما الذي ميز دوستويفسكي عن بقية الكتاب الكلاسيكيين من رواد عصره، أعتقد أنه تفوق حتى عن تولستوي في الانتشار والشهرة العالمية..

هذا طرح مهم، فالسبب الأصلي والأساسي هو شهرته في أوروبا، فقد نال شهرة كبيرة جدا بسبب ما كان يتناوله في موضوعاته، والتي كانت موضوعات أكثر أوروربية مما يكتبه الأوروبيين أنفسهم، فهو تناول مشاكلهم حتى إن عدد من الفلاسفة كان يرجع نظرياته الفلسفية إلى روايات دوستويفسكي، كالوجودية ومساءل القدر وغيرها من الأشياء الأخرى، فحتى علم النفس الذي أنشيء في أوروبا اتخذ من أعمال دوستويفسكي وكان النواه الأولى لهذا العلم، ففرويد نفسه يقول أنه تعلم علم النفس من دوستويفسكي، وكذلك أينشتاين نفسه يقول أن دوستويفسكي أهم عنده من "غاوس" والذي يعد أحد أهم علماء الطبيعة، فقد تناول الكثير من القضايا الكونية في سياق روايته، وكذلك قضايا الوجود التي تتلخص في مسائل الدين، ومسائل الالحاد، والعالم الآخر وفكرة الخلق، والخلاص فجميع تلك الأمور ناقشها دوستويفسكي، وقد ساهمت في أنه دائما ما كان متأرجحا بين الإيمان والإلحاد، فهو يقول أنه وصل للإيمان عبر "بوتقة" الشك الأعظم.
أيضا فقد ناقش الكثير من القضايا السياسية الكبرى والهامة، منها قضية روسيا وأوروبا وهي معضلة لا تزال موجودة حتى الآن، وهو سؤال مطروح دائما "هل روسيا دولة أوروبية أم أسيوية؟" وهل لها علاقة بأوروبا أم لا، فقد طرح جميع تلك القضايا في أعماله، لذلك شعر الفلاسفة والكتاب في أوروبا أنه كاتب أوروربي مثلهم لأنهم تكلم عن مجتمعاتهم.

وماذا عنا في العالم العربي.. لماذا حدث هذا التأثر عندنا بدوستويفسكي؟

نحن كعالم عربي كانت ثقافتنا هي ثقافة أوروبية في الأساس، بسبب "المركزية" فجميع مبعوثينا في الخارج وكتابنا، والنخبة عندنا كانت مطلعة بصورة كبيرة على الأدب الأوروبي؛ ومن هنا قمنا بترجمة الأدب الروسي عن طريق اللغات الإنجليزية والفرنسية مثلما فعل سامي الدروبي، والذي نقل لنا دوستويفسكي عن الفرنسية، وبالتالي فهذه البذور الروائية دخلت عندنا بقضياها عن طريق الترجمات من اللغات الأوروبية الأساسية، لذلك عندما نشاهد الأحاديث التي أجريت مع كتاب مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، فقد تم طرح اسألة مباشرة عليهم حول ما إذا كانوا قد تأثروا بالأدب الروسي، فجميعهم تحدثوا وقتها عن تأثرهم بالأدب الروسي وخاصة يوسف إدريس، الذي كان دائما ما يضعوه مع الكاتب الروسي أنطون تشيخوف أستاذ القصة القصيرة، لذلك فحتى الآن هناك كتاب معاصرين، مثل بهاء طاهر والمخزنجي، وإبراهيم أصلان، وجميعهم فد تأثروا بالأدب الروسي، وخاصة دوستويفسكي، والذي كان بمثابة عنصر فعال للتأثر به وبمدرسته.

لننتقل لجزئية أخيرة.. كيف ترى الترجمات الوسيطة والترجمة من لغة غير أصلية؟

في رأيي أنه إذا كانت الترجمة عن النص الأصلي، فهنا يصبح الأمر أفضل، لأن الترجمة عن لغة وسيطة يؤدي إلى سقوط بعض الأمور الخاصة باللغة التي ترجمت عنها، فالمترجم الفرنساوي الذي ترجم دوستويفسكي كان يترجم وقتها وفقا للذائقة الفرنسية، وبخواص اللغة الفرنسية، لذلك فالنص عند الدروبي كان مبتثرا، فهناك أجزاء بعينها غير موجودة في النص الروسي الأصلي، وهذا سببه، أن المترجم الفرنسي وجد أن هذه العبارات بها نوع من القسوة أو الاشمئزاز، والتي قد تزعج القاريء الفرنسي، لذلك فالدروبي عندما نقل عن الفرنسية وقع في هذا الأمر، فهو لم يكن معه النص الروسي الأصلي.
لكني على أية حال أرى أننا كي نتمكن من الانفتاح على العالم فهناك لغات لا نملك الكثير من المترجمين للترجمة عنها، وإن كان أحد يعرف هذه اللغات فهو ليس بالضرورة مترجما، فضلا عن تكوينه الثقافي، فهل هو قادر على أن يكون مترجم جيد أم لا، وبالتالي فنحن نخسر كثيرا في عندما لا نتعرف على مثل هذه الأعمال، لذلك لا أجد أي مانع من ترجمة تلك اللغات عن لغات وسيطة، كي نتمكن من الاطلاع على تلك الثقافات، إلى أن يظهر عندنا مترجمين لترجمة هذا الأدب بصورة مباشرة.