خلال عام ٢٠٢٠ فازت رواية "قلق الأمسيات" بجائزة البوكر العالمية للكتاب، وهي من تأليف الكاتبة الهولندية ماريكا لوكاس رينفيلد، فبعد أن حصدت الرواية الجائزة، قامت دار العربي للنشر بترجمتها لتقديمها للقارئ العربي، وقد ترجمها المترجم محمد عثمان خليفة.
وتدور أحداث الرواية حول عائلة ريفية تعيش في مزرعة ألبان بهولندا لكن بطلة العمل "الطفلة جاس"، دائمًا ما كانت تفضل البقاء وحيدة ومنزوية بسبب خجلها وفشلها في الاحتكاك بالآخرين رغم محاولاتها المستمرة إذ لم تكن قادرة من التغلب على خجلها، لكن حين باتت قادرة على التغلب على هذا الخجل ومقابلة الآخرين، طلبت من شقيقها أن يسمح لها بمرافقته في رحلته للتزلج على الجليد، ولكنه رفض، فتمنت له الموت! تقزل: "لطالما فكرت كثيرًا في حقيقة أنّني الصغرى، وكيف أن لا أحد يقول لي بأنّني سيسمح لي بفعل أي شيء عندما أصبح كبيرة كفاية... ولذلك سألت الربّ بأن يأخذ أخي ماتياس، ويترك لي أرنبي.. آمين"
واستمرارًا للدور الذي يلعبه "صدى البلد" لنشر الوعي والثقافة، ننشر فصلا من هذه الرواية وذلك بالاتفاق مع دار العربي للنشر والتوزيع.
فصل من الرواية
كنتُ في العاشرة عندما توقفت عن خلع معطفي. جمعتنا أمُّنا في ذلك الصباح، ودهنت أجسادنا الواحد تلو الآخر بالمرهم الذي تضعه على ضرع البقرة لكي تحمينا من قسوة البرد. كانت عبوته صفراء من الصفيح، وهو يُستخدم عادةً لحماية ضرع البقرة من القشِف والبثور والدمامل. غطاء العبوة زلق للغاية، فلم يُمكن فتحه إلا بقماشة جافة. رائحة المرهم مثل رائحة قطع الدسم التي أشمُّها أحيانًا في المطبخ، ممتزجة برائحة الملح والفلفل في المقلاة. ملأتني تلك الرائحة رعبًا، تمامًا كما فعل هذا المرهم الفوَّاح على جلدي. ضغطت أمي بأصابعها البضة على وجوهنا كما تفعل مع أقراص الجبن، وهي تتأكد من نضوج قشرتها. أشرقت وجناتنا بعد شحوب، تحت نور مصباح المطبخ الذي غطته طبقة من مخلفات الذباب. ظللنا ثلاث سنوات نتحدث عن تغييره بآخر له غطاء مزين برسومات أزهار، ولكنَّ أمي لم تحسم قرارها مطلقًا في كل مرة نذهب فيها إلى القرية. وفي ذلك الصباح، قبل عيد الميلاد المجيد بيومين، شعرتُ بإبهاميها الزلقين من أثر المرهم فوق مقلتيَّ. وللحظة، خشيت أن تزيد من ضغطها عليهما، فتنفلت عيناي إلى داخل جمجمتي مثل بِلْيَتَيْنِ، وعندئذ ستقول لي: "أرأيتِ؟ هذا ما يحدث عندما لا تُثبِّتينَ عينيكِ لأعلى نحو الرب مثل أي مؤمنة تقيَّة تعرف أن السماوات يمكن أن تنفتح في أي لحظة".
ولكنني أعرف أن السماوات هنا لا تنفتح إلا للعواصف الثلجية، وأن لا شيء هناك لأحدِّق إليه مثل الغبية.
في منتصف طاولة الإفطار سلة خبز حففناها بمنديل قماش مطرز بملائكة عيد الميلاد. يحمل كل ملاك آلة "ترومبيت" في يد وفي الأخرى غصنًا من الـ"هدال" ليستر به عضوه. لن يتسنى لك تمييز تلك الأعضاء، حتى ولو رفعت المنديل نحو ضوء المصباح، لذا خمنت أنها مثل شرائح لانشون ملفوفة. رتبت أمي قطع الخبز بنظام فوق المنديل: خبز أبيض، وخبز أسمر فوقه حبوب الخشخاش، ورغيف خبز بالزبيب. استعانت بغربال صغير لتنثر حبات السكر فوق الرغيف المقرمش، مثل ندف الثلج الأولى التي تتساقط فوق أظهر الأبقار في المروج، قبل أن نسارع بإدخالها الحظيرة. وفوق علبة البسكويت، ثبَّتنا المِشْجَب البلاستيكي الذي نعلق فيه كيس الخبز؛ لو لم نضعه هناك لأضعناه، كما أن أمي لا تحب أن تُعقِّد فتحة كيس الخبز.
- تناولوا لحمًا أو جبنًا في البداية، وبعدها يمكنكم تناول الخبز الحلو.
- هكذا تقول لنا دومًا. وتلك هي القاعدة التي سوف تجعلنا أكبر وأقوى، مثل "جالوت" العملاق و"شمشون" الجبار، اللذين يحكي الكتاب المقدس عنهما. كما يجب علينا في كل يوم شرب كوب حليب كبير لا يزال محتفظًا بدفء ضرع البقرة، وأحيانًا ما تعلوه طبقة دسم مصفرة، تلتصق بحلقك إن شربت الحليب ببطء لا داعي له. الأفضل هو أن تجرع الكوب بأكمله وأنت مغمض العينين، على الرغم من أن أمي تعدُّ ذلك "قلة أدب مع الرب"، مع أن الإنجيل لا يتحدث عن شرب الحليب ببطء، أو يأمرنا بأكل لحم بقرة. تناولت شريحة خبز أبيض من السلة ووضعتها مقلوبة في صحني فبدت مثل أرداف رضيع شاحبة، بل وتبدو كذلك أكثر عندما أضع فوقها الشوكولاتة، وهو ما يسليني أنا وأخواي كثيرًا. فدائمًا ما يسألانني ساخرين: "هل تلعقين الأرداف مجددًا؟".
- همست في أذن "ماتياس" قائلة:
- - إذا تركت سمكة ذهبية في غرفة مظلمة فترة طويلة للغاية، فإن لونها يصير شاحبًا للغاية.
أخبرته ذلك وأنا أضع ست شرائح من النقانق المطهوة فوق قطعة الخبز، فغطتها تمامًا. "لديكم ست بقرات، وأُكلت بقرتان منها، كم بقرة تبقت؟"، أسمع صوت المعلم داخل رأسي في كل مرة آكل فيها طعامًا. ما الذي يجمع بين مسائل الحساب الغبية هذه وأصناف الطعام؛ التفاح، والكعك، والبيتزا، والبسكويت، لم أعرف، ولكن المعلم يئس مني على أي حال، وأيقن أن كتاب مسائل الحساب خاصتي سيظل مليئًا بالخطوط التي سيكتبها قلمه الأحمر. استغرقت عامًا حتى أتقن تمييز الوقت؛ أمضى أبي ساعات معي في المطبخ، نجلس إلى المائدة وبيننا ساعة التدريب على الوقت التي أعطتني إيَّاها المدرسة، والتي كان أحيانًا ما يلقي بها أرضًا في يأس وسخط، فتضطرب الساعة ويرتفع صوت جرسها المزعج، وحتى اليوم، كلما أرمق الساعة، أجد عقاربها تتحوَّل إلى ديدان أرض مثل تلك التي نستخرجها بشوكة من تلك البقعة خلف حظيرة الأبقار، لنستخدمها طعمًا في الصيد. عندما تمسك الدودة بين سبابتك وإبهامك، تظل تتلوى ولا تهدأ حتى تربت عليها، وعندئذ تستقر في راحة يدك، وتبدو مثل حلوى هلام الفراولة التي نأتي بها من متجر "فان لوك".
قالت أختي الصغيرة "هانا":
- من قلة الأدب أن تهمسي بالكلام وكلنا موجودون.
- كانت تجلس قبالتي إلى جوار "أوبي". عندما لا يعجبها شيء، تحرِّك شفتيها من اليسار إلى اليمين. قلت لها وفمي ممتلئ بالطعام:
- - إن بعض الكلمات أكبر من أذنيكِ الصغيرتين.
قلَّب "أوبي" في ملل بإصبعه في كوب الحليب، ليلتقط تلك الطبقة الباردة أعلى الحليب ويسارع بمسحها في مفرش الطاولة. التصقت به مثل كتلة مخاط أبيض. منظرها بشع، وبخاصة أنني أعلم أن هناك احتمالًا لأن يكون ذلك الجزء من مفرش الطاولة عند مقعدي من الطاولة في الغد. عندئذ سأرفض أن أضع صحني على الطاولة. جميعنا يعرف أن مناشف المائدة موضوعة للزينة فحسب، وأن أمي تجمعها وتهندمها قبل أن تعيدها إلى درج المطبخ بعد الانتهاء من الإفطار. فهي ليست لأصابعنا وأفواهنا المتسخة. جزء مني يؤنبني للتفكير في تهشيم الملائكة في قبضة يدي، مثل البعوض، أو أن ألطخ شعرها الأبيض بمربى الفراولة.
همس "ماتياس" في أذني:
- عليَّ أن أقضي المزيد من الوقت خارج المنزل، لأن وجهي أصبح شاحبًا للغاية.
- ابتسم وهو يدس سكينه بكل تركيز في جزء الشوكولاتة البيضاء داخل برطمان "دو بينوتي"، محاذرًا أن ينال من نصل سكينه أي جزء من الشوكولاتة البنية. لا نتناول "دو بينوتي" إلا في أيام العطلات. لطالما اشتقنا إليها على مدى أيام، قبل أن تحل عطلة عيد الميلاد أخيرًا. أسعد لحظة هي تلك التي تجذب فيها أمي تلك الورقة الواقية لفوهة البرطمان، ثم تنظف آثار الصمغ عن حوافه قبل أن ترينا امتزاج اللونين البني والأبيض، والتي تذكرنا بالبقع التي تكون على جلد عجل وليد. أما أوَّل مَن يستخرج الشوكولاتة من البرطمان فهو صاحب أفضل درجة في المدرسة خلال ذلك الأسبوع. وهكذا، كنت دومًا آخر مَن يستمتع بالبرطمان.
- انزلقت بجسدي للخلف وللأمام على الكرسي؛ لا تزال أصابع قدمي بعيدة عن الأرض. كل ما أردته هو أن أحافظ على سلامة الجميع داخل المنزل، وأن أنشرهم في أنحاء المزرعة مثل شرائح النقانق المطهوة. في مراجعته الأسبوعية بالأمس لدرس القطب الجنوبي، قال معلمنا إن بعض طيور البطريق تذهب إلى الصيد ولا تعود أبدًا. وعلى الرغم من أننا لم نعِش في القطب الجنوبي، فإنَّ الجو بارد جدًّا هنا، بل قارس البرودة، لدرجة أن البحيرة تجمَّدت وامتلأت أحواض شرب الأبقار بالجليد.
- لكل منا كيسان من الماء الساخن لونهما أزرق سماوي يوضعان عند صحن الإفطار. رفعت كيسًا وأنا أنظر إلى أمي في تساؤل، فقالت لي بابتسامة أظهرت غمازتيها:
- حتى تضعيهما فوق الجورب ليحافظا على دفء قدميكِ ويحافظا عليهما من البلل.
وقفتْ تجهز الإفطار لأبي، والذي كان يساعد بقرة ما في أثناء ولادتها؛ وبعد كل شريحة خبز، كانت تمرر السكين بين إبهامها وسبابتها فيتجمع الزبد في طرفي إصبعيها، ثم مسحت ما تجمَّع في حد السكين الثلم. ربما كان أبي جالسًا الآن فوق كرسي الحلب قرب بقرة ليرطب ضرعها ويخفف عنها آثار لدغ النحل، ومن حوله سحابة من أنفاسه الممتزجة بدخان السجائر سرعان ما تتصاعد فوق مؤخرتها الساخنة. انتبهت إلى عدم وجود كيسي الماء الساخن إلى جوار صحنه؛ ربما لأن قدميه كبيرتان جدًّا، وبخاصة قدمه اليسرى التي شوهتها آلة حصاد وهو في العشرين من عمره تقريبًا. إلى جوار أمي، فوق الطاولة، تقبع مغرفة جبن فضية تستخدمها لتستطعم نكهة الجبن التي تصنعها في الصباح. فقبل أن تفتح قالب جبن، كانت تغرس مغرفة الجبن في قلبه عبر الطبقة البلاستيكية، وتلفها مرتين ثم تسحبها إلى الخارج ببطء. كانت تأكل قطعة من جبن الكمون بالطريقة نفسها التي تأكل بها الخبز الأبيض في أثناء القربان في الكنيسة، أي بالقدر نفسه من الاهتمام والتقوى، وبكل بطء وهي متسعة العينين. ذات مرة، قال "أوبي" مازحًا إن جسد "يسوع" مصنوع من الجبن، ولهذا السبب لا يسمحان لنا إلا بشريحتيْ جبنٍ فوق الخبز كل يوم، حتى لا نلتهم جسده بسرعة. وذات مرة، تلت أمي صلاة الصباح وشكرت الرب "على الفقر والغنى؛ وبينما يقتات كثيرون على خبز الأسى، إلا أنك أطعمتنا من جوع".
دفع "ماتياس" كرسيه للوراء، وعلَّق حذاء التزلج الجلدي الأسود حول رقبته، ثم دسَّ بطاقات عيد الميلاد في جيبه، لأن أمي طلبت منه أن يضعها في صناديق بريد بعض جيراننا. كان سيتوجه إلى البحيرة ليشارك في مسابقة التزلج المحلية مع صديقين له. مسافة السباق عشرين ميلًا، ومَن يفوز يحصل على صحن من حساء ضرع البقر بالخضروات والمستردة، ومعه ميدالية ذهبية منقوش عليها العام 2000. تمنيت لو وضعت كيس ماء ساخن فوق رأسه، حتى يبقى دافئًا فترة طويلة، وأن تكون سدادتها مغلقة حول عنقه. مرر يده على شعري للحظات. سارعت بإعادة خصلات شعري إلى مكانها، ثم نفضت بقايا طعام عن أعلى منامتي.
اعتاد "ماتياس" أن يفرق شعره من المنتصف، وأن يضع مُثبِّت الشعر على الخصلات النافرة على جبهته. كانت أشبه بقطعتيْ زبد مبشورتين في طبق. اعتادت أمي إعداد هذا الطبق مع حلول عيد الميلاد؛ فهي لا تجد في طبق الزبد التقليدي أي مظهر للاحتفال. فهذا الشكل للأيام العادية، وعيد ميلاد "يسوع" ليس باليوم العادي، حتى وهو يتكرر كل عام، كما لو أنه يموت لتطهيرنا من الخطايا كل عام، وأنا أستغرب ذلك. كنت أقول لنفسي: "هذا المسكين ميت منذ زمن بعيد، ولا بدَّ أنهم الآن قد نسوه". ولكنني فضلت ألا أذكر ذلك، وإلا توقفوا عن إعداد البسكويت المزين بحبات السكر، ولن يحكي أحد حكاية "الملوك الثلاثة" و"نجم الشرق" في عيد الميلاد.
ذهب "ماتياس" إلى الردهة ليتأكد من أناقة شعره، على الرغم من أن خصلاته ستتجمد! في الجو المتجمد بالخارج، سوف تلتصق الخصلتان بجبهته.
- هل يمكن أن آتِيَ معك؟
- كان أبي قد أخرج زلاجتي الخشبية من السندرة وربطها بحذائي بأربطتها البنية الجلدية. وظللتُ أيامًا أمشي في أرجاء المزرعة وأنا أرتديها، ويداي خلف ظهري والواقيان على نصليها حتى لا تترك أثرًا في أرضية المنزل. كانت سمانتا ساقيَّ قويتين. لقد تدربت بما يكفي لأن أخرج إلى مساحات الجليد دون أن أتعثر في أي شيء.
- - كلا، لا يمكنكِ هذا. لأننا سنذهب إلى البر الثاني.
- وأنا أيضًا أريد الذهاب إلى البر الثاني.
- - سوف آخذكِ معي حينما تكبرين.
ارتدى القبعة الصوفية وابتسم. لمحت مقوم أسنانه بأربطته المتعرجة الزرقاء المرنة. نادى أمي:
- سأعود قبل حلول الظلام.
- دار على عقبيه مجددًا عند الباب ليلوح إليَّ مودعًا، في مشهد سأظل أستعيده وأسترجعه في عقلي إلى أن تعجز ذراعه عن الحركة، وإلى أن أشك فيما إذا كنا قد ودعنا بعضنا بعضًا من الأساس.