الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الشيخ محمود الهوارى يكتب: نعمة الرِّسالة.. والشُّكر الواجب

صدى البلد

مع إطلالة شهر ربيع الأوَّل من كلِّ عامٍ هجريٍّ تتجدَّد ذكرى ميلاد سيِّدنا رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- ، ويتبارى المحبُّون والدُّعاة والكتَّاب إلى سيرته –صلَّى الله عليه وسلَّم- ليستلهموا منها ما يقدِّره الله من عطاءٍ، فيكون الكلام عن الرَّحمة والأدب والخلق وكثيرٍ من صفاته الَّتي نقلتها الكتب.

ولكنِّي أتأمَّل حال الخلق مع ربنا الحقِّ فأجد أمرًا عجيبًا!

وذلك أنَّ الله –عزَّ وجلَّ- خلق الخلق، ولم يتركهم هملًا، وإنَّما أنعم عليهم بنعمٍ لا يطيقون لها حصرًا ولا عدًّا؛ وأرسل إليهم رسله تترا، فدلُّوهم على ما ينفعهم دنيا وأخرى، وختم رسالاته إلى البشريَّة بسيِّدنا محمَّدٍ –صلَّى الله عليه وسلَّم- فكان النِّعمة الَّتي لا يجب أن تُنسى.

والقرآن الكريم يعلن أنَّ بعثة الرَّسول –صلَّى الله عليه وسلَّم- نعمةٌ، وأنَّ الوحي الَّذي نزل عليه منحةٌ، وفي الآية نفسها الَّتي يعلن الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نعمةٌ كبرى يوضِّح وظيفة هذا الرَّسول ومهامَّه، ملفتًا الأنظار إلى ما كان عليه النَّاس قبل البعثة، ليحسنوا استقبال النِّعمة بشكر الاتِّباع، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

ومع تجدُّدِ ذكرى ميلاد النِّعمة المسداة والرَّحمة المهداة -محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم- نَقِفُ وقفةَ متأمِّلٍ: 

ففي كلَّ يوم تدفع الأرحام إلى الدُّنيا آلاف الأطفال دون أن يعلم النَّاس عن كثيرين منهم شيئًا، أو يعيروهم أيَّ اهتمام، فإذا نبتوا نباتًا حسَنًا، وقدَّموا الـمَجد لأُمَمِهم ذكرتالشُّعوب بعضهم بالخير، أمَّا ميلاد نبيِّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد احتفى به الكون كلُّه، واشتهر ميلاده قبل الميلاد، وتحدَّث الكون به قبل وجوده، وسُجِّل ميلاده في كتب الـمـُـرْسَلين قبل مولده؛ فهذا عيسى - عليه السَّلام - يبشِّر به في الإنجيل، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6].

ولَم يَحْظ مولودٌ في الدُّنيا بتلك المكانة، ولَم ينَلْ وليدٌ تلك الرُّتبة مثل رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فبمولده تحدَّث الزَّمان، وما زال، وبمولده يسعد الأكوان، وما زالت.

وإذا كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- هديَّة السَّماء إلى الأرض، فما أحوجَنا -ونحن نعيش في رحاب ميلاده أن نؤكِّد أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- جاء خاتَمًا لرسالات السَّماء، متمِّمًا لِمَن سبقه من الرُّسل، وهذا ما أعلنه حين قال: «إنَّ مثَلي ومثل الأنبياء قبلي كمثَلِ رجلٍ بنَى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلَّا موضع لَبِنةٍ من زاويةٍ، فجعل النَّاس يَطُوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنة! فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتَمُ النبيِّين» [متَّفقٌ عليه].  

فالبيت في الحديث الشَّريف هو الإسلام، وبُناتههمالرُّسلوالأنبياء -عليهمالصَّلاةوالسَّلام–وعلىهذا فمهمَّة الرُّسل جميعًا واحدةٌ، وإن اختلفت أزمانُهم وشرائعهم، وهي إرشاد النَّاس إلى ربِّهم وخالقهم؛ فما أرسل الله من رسولٍ إلَّا ليبيِّن للنَّاس أنَّهم خُلِقوا ليعبدوا الله وحده لا شريك له، ولِيَشكروه على ما أولاهم من نعمة الخلافة في الأرض. 

هذا هو الإسلام الذي وَضَعَ كلُّ رسولٍ في بناءِ صرحِه الخالد لبنةً، وأخذ البناءُ يكتمل شيئًا فشيئًا حتَّى جاء لبنة التَّمام ومسك الختام إمامُ المرسلين وخاتم النبيِّين محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم –فأتَمَّالله به.

ومن هذا نفهم أنَّ دين الله واحدٌ لَم يتغيَّر ولم يتبدَّل، جاء به كلُّ نبيٍّ، قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]؛ فالدِّين المتَّفَق عليه بين رسالات الأنبياء يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصَّالِح، والخلُق الكريم، وإعمار الكون لا تخريبه، والسَّعي في أمن الناس لا إرهابهم. 

ولَم يأت رسولٌ من رسل الله لِيَدعو إلى قتل الأبرياء ونَهْب حقوق الآخَرين، وتدنيس المقدَّسات، وإنَّما جاءوا جميعًا لِنَشر الحُبِّ والوئام؛ والأمن والسَّلام، لأنَّهم جميعًا دُعاة السَّلام وحُماة القِيَم والفَضائل.  

ولقد شاءتْ إرادة الله تعالى أن تكون رسالةُ محمَّد –صلَّى الله عليه وسلَّم- وسطيَّة في عقيدتها وشريعتها؛ فقد أرسله الله تعالى بالحنيفيَّة السَّمحة الَّتي يَحيا النَّاس بها في كرامةٍ، بل ويصل بها المجتمع إلى أعلى درجات الرُّقي والكمال، وروى الإمام مسلم في صحيحه أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «أحَبُّ الدِّين إلى الله الحنيفيَّة السَّمحة»؛ فليس في شريعة الإسلام ما يصعب اعتقاده على النَّاس، أو يشقُّ عليهم العملُ به؛ فلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وهذا الفضل يشمل البشريَّة كلَّها، دون تفريقٍ بين مسلمٍ وغير مسلمٍ، فليست رسالةُ صاحبِ الذِّكرى الطيِّبة سيِّدنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - محدَّدةً بقومٍ دون قومٍ، أو بوطنٍ دون وطنٍ، وإنَّما هي رسالةٌ عالَمِيَّة للبشريَّة جَمعاء؛ جاءت بما يُسْعِد الإنسانيَّة كلَّها إلى يوم الدِّين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]. 

وانطلاقًا من هذه المبادئ الرَّاقية لا يقبل من الأمَّة أن تتفرَّق وقد أرادها ربُّها أمَّةً واحدةً.

ولا يقبل من الأمَّة أن تتعصَّب، وقد نهاها نبيُّها عن التَّعصُّب لأيِّ رايةٍ.

ولا يقبل من الأمَّة أن تكون ضعيفةً، وقد أرادها شرعها قويَّةً.

ولا يقبل من الأمَّة أن تكون في ذيل الأمم وقد أخرجها ربُّها للنَّاس تهديهم.

ولا يقبل من الأمَّة أن ينتشر بين أبنائها البغضاء، وهي أمَّة المحبَّة والسَّلام.

يا أمَّة محمَّد، إنَّنا في ذكرى مولد الهادي لا بد أن نذكر رسالته الَّتي جاء بها؛ لنكون على هديه: فالإسلام - الَّذي جاء به خيرُ الأنام، والَّذي يكفل حِفْظَ النَّفس، والعقل، والمال، والنَّسَب، والنَّسْل، والعِرض - يُسايِر العقول، ويُجاري التَّطوُّر، ويَصلُح لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، بل لا يصلح الزَّمان ولا المكان إلا به، وهو الدِّين الَّذي يزكِّـى النُّفوس، ويدعم الرَّوابط الإنسانيَّة، ويقيمها على أساس المَحبَّة والعدل، والإخاء والمساواة، والحريَّة المسؤولة الَّتي لا تَعرف الفوضى، ولقد كانت سيرة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- تطبيقًا عمليًّا لهذا الدِّين الحقِّ. 

ما أحوجَنا في هذه الأيام من تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة إلى التَّمسُّك بما جاء به رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قولاً وعملاً! ما أحوجَنا إلى الدِّراسة الواعية لسيرة الرَّحمة المُهداة؛ لنأخذ منها العبرة لأنفسنا ولأمَّتنا!  قالتعالى: ﴿ لَقَدْكَانَلَكُمْفِيرَسُولِاللَّهِأُسْوَةٌحَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21].