الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد السيد علي يكتب: عبد الله الشريف صائد البعر

صدى البلد

الصيد أيا كان نوعه من المهن التي تحتاج إلى الصبر والدُّربة والمران المتكرر، يحتاج إلى إعداد آلة الصيد المادية والحيوانية بالنسبة لصيد البر، كما يحتاج إلى تعلم الغوص والمبالغة في الإعماق بالنسبة لصيد البحر، فإذا لم يتسلَّح الصائد بالدربة والمران والصبر على اقتناص الفرائس لم يظفر بطائل وربما تحول في يوم ما إلى حطاب يجمع بقايا الحطب وقطع الخشب، أو قمَّام يفتش في القمامة فيضم الخرقة للمزقة وكسر الخبز لبقايا الثريد، كما هو حال صاحبنا صائد البعر، عبد الله الشريف الذي لفَّق تاريخا جديدا لم يسمع به من قبل لكي يمرر حلقة يبدو أنه  - على حد تعبير المصريين - كان "مزنوقا" فيها، وألجأته السرعة إلى التفتيش في "مقالب" جوجل و"مزابل" الانترنت فوقع على جملة من الحكايات المكذوبة، قنع بها وأذاعها على قناته بأسلوب هو أمشاج من مسحوق السخرية وعصارة التهكم وقيح السماجة، ثم أخرج لنا بكيميائه المحرَّمة مركبا صلبا فيه مَشابِه من الدُّر ولكن قيمته عند الخبير أقل من البعر.
التوظيف السياسي لقضية التصوف
كان الشريف يريد أن يوظِّف قضية التصوف في صراعه الطويل مع السلطة السياسية في مصر، ولأن كل الطرق على صفحات الانترنت تؤدي إلى المقصود وهو الربح، ولأن الانترنت أصبح الآن سوقا للكسالى والمنقطعين والسائرين في طريق أحلام الغنى السريع عن طريق الفرقعة والشو ونشر الفضائح وكل شيء يجلب مشاهدات مدفوعة، لأن الانترنت شأنه هكذا، فقد فعلها الشريف حين زج بقضية كانت ولا زالت مزلة أقدام ومقصلة أقلام ومدحضة أفهام.
لست من السادة الصوفية وهذا شرف لا أدَّعيه ولا أدافع في هذه المقالة عن الصوفية فهم أقدر على ذلك وأحق مني به، لكني ههنا أدافع عن الحقائق العلمية وعن رموز كانوا ولا يزالون أئمة هدى ودعاة إلى الخير، مَن منا لا يحب الإمام الجنيد الذي قال عنه ابن تيمية إنه "إمام هدى"، ووصفه بأنه "سيد الطائفة ومن أحسنهم تعليما وتأديبا وتقويما"، وذكر عنه تشدده في التزام الصوفي بالشرع وقوله: "علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن".
ومن منا لا يعرف الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله الولي الصالح، وإمام الحنابلة في عصره الذي يعتمد على علمه والذي وصفه ابن رجب الحنبلي بأنه "انتصر أهل السنة بظهوره، واشتهرت أحواله، وأقواله وكراماته ومكاشفاته وهابه الملوك فمن دونهم".
ومع ذلك فقد سفَّه الشريف منه وسخر من كراماته بل من سائر كرامات الأولياء، وقال بمنتهى الوقاحة "انت يعني شفت" ثم ذكر حكاية يعرفها المصريون لخصها المثل الشريف "احنا دافنينه سوى"، معمما حكم هذه الواقعة على قضية الكرامات لكي تبدو في ذهن السامع ضربا من الخرافة ونوعا من الخزعبلات.
وإني أرى في هذه السخرية اللاذعة سخرية من جهل الشريف وضحالة معرفته بأصول أهل السنة والجماعة وأنقل له قول ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة".
ابن خلدون ينسب التصوف للسلف وعبد الله الشريف يلجأ للإزاحة
يشير الشريف في مقدمة حلقته إلى أن نشأة التصوف كانت في القرن الثاني الهجري ويؤكد هذا بالنقل عن ابن خلدون من مقدمته المشهورة بأصول علم الاجتماع، ثم يدعي أن هذا العلم بهذه النشأة خارج عن سبيل أهل السنة والجماعة بوصفه نشأ متأخرا في القرن الثاني، متجاهلا خيرية هذا القرن «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، فلو كان حقا مؤمنا بخيرية السلف لما ادعى هذه الدعوى.
ثم إنه نقل عن ابن خلدون تاريخ النشأة لكنه في الوقت نفسه أزاح تفسير ابن خلدون لميلاد هذه النزعة ووجه اختصاص قوم بهذا الاسم؛ لأنه لو لم يفعل ذلك واستلهم تفسير ابن خلدون لهدم قضيتها من رأسها وانتهت الحلقة قبل أن تبدأ والمقصود أن ابن خلدون ذكر أن هذا العلم لم يكن بدعا من العلوم ولكن "أصله أنّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها، والزّهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عامّا في الصّحابة والسّلف. فلمّا فشا الإقبال على الدّنيا في القرن الثّاني وما بعده وجنح النّاس إلى مخالطة الدّنيا اختصّ المقبلون على العبادة باسم الصّوفيّة والمتصوّفة".
وهذا النقل أو التفسير من رجل علم الاجتماع الأول كفيل بهدم نظرية الشريف، لكن الشريف وأمثاله لا يبالون كثيرا بالحقائق العلمية بقدر ما يهمهم اكتظاظ القنوات بالمشاهدين والمتابعين.
استقراء الشريف ناقص ومتهافت
مهد الشريف حلقته بتقسيم لعلوم الدين بأنها عقيدة وشريعة حصرا، ثم يبني على هذا التقسيم أن كل علم سوى هذه العلوم فهو بدعة وضلال ولا علاقة له بسلف الأمة، ولست أدري من أين جاءه دليل الحصر في هذه القسمة اللهم إلا الاستقراء، لكنه استقراء ناقص لأن علوم الإسلام اصطلاحات ورسوم، والدين في الأصل قوام متماسك ويلحمة وسدى، وأما التفرقة الاصطلاحية فهي لتحديد مناهج الاستدلال وتمييز محالَّ الاجتهاد عن محال التسليم والتفويض، بما يتفرع عن هذا من علوم وقضايا يعرفها المتخصصون.
أما استقراء الشريف فهو في الأساس استقراء ناقص بالنظر إلى الجوانب المختلفة التي يعرفها الدارسون والتي ينقسم إليها الدين الإسلامي وهي:
1 – فالدين إما ما يتعلق بأصول الاعتقاد الكبرى وذلك هو العقيدة أو الأصول أو علم الكلام
2 – وإما يتعلق بفعل المكلف في الظاهر وذلك هو الشريعة أو الأحكام العملية أو العمليات.
3 – وإما يتعلق بعمل القلب مما سوى عقد أصول الإيمان وذلك ههو الأخلاق أو السلوك أو التصوف.
ولكني لن أمضي مع عبد الله في طريق الاستقراء كدليل لهذه القسمة، وإن كنت أشك أن يكون عرف هذه القسمة الثنائية إلا مُذاعة من داعية مذهب أو مروجة من شيخ طريقة، إن هذه القسمة الثلاثية على التحقيق قد دل عليها حديث جبريل عليه السلام في السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإسلام هو الشريعة والإيمان هو العقيدة والإحسان الذي عرفه بأنه "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن: تراه، فهو يراك" هذا الثالث هو مقام التصوف والأخلاق أو السلوك.
وتناول مني هذا النص لابن رجب الحنبلي لكي تفهم المقصود بعبارة مشحونة يقول رحمه الله: "فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم علم أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وأن جميع العلماء من فرق هذه الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث، وما دل عليه مجملا ومفصلا:
[1] فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال الإسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء وكل ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثير من علم الإسلام من الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم، ولا يتكلمون على معنى الشهادتين، وهما أصل الإسلام كله.
[2] والذين يتكلمون في أصول الديانات، يتكلمون على الشهادتين، وعلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر.  
[3] والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإحسان، وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضا، كالخشية، والمحبة، والتوكل، والرضا، والصبر، ونحو ذلك فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلها إليه، ففي هذا الحديث وحده كفاية، ولله الحمد والمنة".
ابن تيمية يؤلف في التصوف ويمدح أئمة الصوفية:
ولعلك تمتعض فقط من تسمية النوع الثالث تصوفا!، فلا عليك فلتسمه سلوكا أو تزكية أو أعمال القلوب، فلا مشاحة في الاصطلاح ولا عِراك في التسمية، إنما الشأن لمضمون الاصطلاح ومسمى الاسم، وقد سلمت به فلتلزم أحكامه.
لكن الشيخ ابن تيمية لا يستحي أن يطلق على هذه العلوم التصوف، بل يؤلف كتابا أطلق عليه "قاعدة في التصوف"، وإن كنت لا تجدها في بعض طبعات الكتاب حياء من بعض المتحفظين، لكنه نشرت بعنوان "التحفة العراقية في الأعمال القلبية" وكتب في المقدمة: "فهذه كلمات مختصرة في أعمال القلوب التي تسمى المقامات والأحوال وهي من أصول الايمان وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك ... فأقول هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق أئمة الدين".
الفرق بين التصوف والصوفية
والقصد أن التصوف من حيث هو علم يختص بالمعاملة القلبية طريق معنوي من الاجتهاد في العبادة، يمضي السالك فيه على منازل مختلفة يبدأها بالتوبة ثم ينتقل إلى ما شاء الله أن ينقله من منازل الزهد والورع والرضا والشكر والمحبة، وفي مدارج هذا السلم ومنازل هذا الطريق تهب على السالك نفحات الأنس وعبير القرب ومواطأ الرضوان، أو عكسها من لفحات الوحشة ودخان البعد وخشونة النفور، إلى غير ذلك.
وقد يخطئ السالك الصراطَ فيضل، وقد يتنكبه فيزل، وقد يعود فيرضى أو يتمادى فيشقى، هذه هي القاعدة: الطريق يختلف عن السالك فالطريق ممهَّد مرسوم عليه من أعلام الشريعة ومنارات الهدى ما يكفي لبلوغ الغاية لمن استعد بالزاد وصمم العزم للمعاد، لكن بعض السالكين تقصر همته فيحبو على هذا الطريق أو يتوقف في بعض المراحل مكتفيا بالدون من الغاية، وبعضهم يجد في السير ولا يحصل منزلة حتى يرتقي لأعلى فيصل إلى غايته القصوى، وبعضهم يحيد عن الطريق إلى سبل وشعاب يفتن بها، فينصب عليها أعلاما تشبه أعلام الشريعة، ويزخرف لهم معاني تشبه معاني الحق، ويدعو إليها السالكين إضلالا منه وإغواء، فهذا ما نرميه بسهام النقد ونطعنه برماح النقض، وما أحسن تقسيم ابن تيمية للصوفية حيث حكم فيهم بحكم الله في قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]
فيقول ابن تيمية: "و"الصواب" أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا".
ثم يذكر أن هذا الوصف يطلق على ثلاثة أصناف:
1 - الصوفي المتحقق وهو السالك على الحقيقة، وهو الذي ينقسم إلى الأقسام السابقة.
2 - الصوفي على الإطلاق في ألفاظ الواقفين واشترط في صحة الوقف عليه العدالة والأدب والفقر على الحقيقة.
3 - الصوفي رسما، وهو الذي يتزيا بزيهم وينتسب إليهم محبة أو تقليدا ثم هو لا يتحقق بأدب ولا ينخرط في طريق.
وهذا بلغة عصرنا أشبه بالمريدين الذين يتحلَّقون في الموالد السنوية والأعياد الصوفية والمحافل الاجتماعية للطرق دون أن ينقطع لعبادة أو لآداب الطريق، إنهم طائفة من الأدعياء الذين مني التصوف بهم في كل قرن وعهد أو على حد تعبير الإمام الغزالي " اعلم أن سالك سبيل الله قليل والمدعي فيه قليل".
ومع الأسف الشديد اختزل الشريف التصوف بأكمله في هؤلاء العوام فحكم على التصوف بأنه طبل وزمر ورقص وتمايل وأفعال غريبة على الذوق بعيدة عن اللياقة.
وفي موضع آخر يتعرض ابن تيمية لبعض التجارب الفاسدة فيذكر "الذين جمعوا الآراء الفلسفية الفاسدة والخيالات الصوفية الكاسدة كابن عربي وأمثاله؛ فهم من أضل أهل الأرض" ويضع في مقابلتهم الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة إمام الهدى الذي كان قد عرف ما يعرض لبعض السالكين فلما سئل عن التوحيد قال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم".
فالناس في التصوف فرق منهم أصحاب التصوف الخالص ومنهم أصحاب النظريات المجتلبة على التصوف، وكيفيما كان الرأي في هؤلاء فلا يصح البتة اختزال التصوف في مشربهم، كما لا يصح اختزاله في تصرفات عامة الناس من المنتسبين للصوفية.
ويقول ابن تيمية أيضا في موضع آخر "وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي". 
افتراء عبد الله الشريف على عبد القادر الجيلاني
وعلى ذكر الشيخ الجيلاني الذي غمزه الشريف في خاصرة اعتقاده وقلب إيمانه وتوصل إلى ذلك بعقد لقاء خيالي بينه وبين ابن تيمية مع أن الجيلاني توفي سنة 561 وابن تيمية ولد سنة 661 أي أن بين ولادة وفاة الجيلاني وولادة ابن تيمية 100 سنة ومع ذلك رأى ابن تيمية ودار بينهما حوار زعم فيه الجيلاني أن الله قد أسقط عنه التكاليف لماذا؟ لأنه تعالى قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أما وقد وصل الجيلاني لليقين فليكف عن العبادة!
ما أوسع خيالك يا شريف، بل ما أبلد عقلك حتى تَحيك هذه المقابلة التي لا يمكن أن تجري إلا بافتراض كرامة لابن تيمية يخاطب فيها الشيخ الجيلاني كفاحا في عالم المُثُل.
إن هذه الحكاية الملفقة لا يمكن أن تكون صحيحة حتى لو فُرض أن ابن تيمية التقى بالجيلاني، وأخذ عنه الطريقة القادرية كما يذكر الروداني في صلة الخلف بموصول السلف (ص: 460).

كما أن لابن تيمية رأيا حسنا في الجيلاني وتأكيد على اتباعه الشرع في تصوفه، وعنه يروي القصة التالية التي يحكيها ابن تيمية نفسه في مناقب الشيخ الجيلاني:
قصة الشيطان مع الجيلاني:
يروي ابن تيمية عن الشيخ الجيلاني : كنت مرة في العبادة فرأيت عرشا عظيما وعليه نور فقال لي: يا عبد القادر أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك. قال: فقلت له أنت الله الذي لا إله إلا هو اخسأ يا عدو الله. قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة وقال يا عبد القادر نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلا. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال بقوله لي " حللت لك ما حرمت على غيرك " وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل ولأنه قال أنا ربك ولم يقدر أن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا.
لا نحتاج مع هذه الاستحالة التاريخية أن نبرئ ساحة الجيلاني الذي اتَّفق القاصي والداني على إمامته وعلى ولايته، والذي بلغت كراماته مبلغا لم يجتمع لغيره وهي من كثرتها وكثرة الناقلين لها بلغت مبلغ التواتر، فيقول ابن قدامة الحنبلي: "لم أسمع عن أحد يحكي عنه من الكرامات أكثر مما يحكي عن الشيخ عبد القادر، ولا رأيت أحدا يعظم من أجل الدين أكثر منه".
ويقول سلطان العلماء العز ابن عبد السلام: "أنه لم تتواتر كرامات أحد من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر، فإن كراماته نقلت بالتواتر".
فرحمة الله على الشيخ الجيلاني، وعلى سائر الأولياء.
التصوف والجهاد في سبيل الله
لا يمكن دمغ التصوف بأنه انبطاح وانسحاق أمام مُلمات الحياة ومآزق الأمة، وإن دعوى أن الصوفية أهل تفريط في الجهاد، وأنهم ساهموا في ركوب المستعمر على أكتاف الأمة – تتضمن قدرا هائلا من المجازفة وتجانب الحقائق التاريخية في الوقت ذاته، فللصوفية نضال وجهاد شأنهم شأن غيرهم من طوائف الأمة، فالجهاد فرض على الأمة بمجموعها يقوم عنها من يتطوع لذلك أو يرتبه الحاكم لأداء هذا الغرض، بل إن مشاركة الصوفية في الجهاد تدل على الجانب الفاعل في التصوف، وتشير إلى البعد الإيجابي الذي طالما أغفله كثيرون في دراسة التصوف بوصفه نزوعا عن المشاركة في الحياة الاجتماعية، والأصل أن "الصوفي متمذهب بمذهب القرآن" –على حد تعبير الإمام عبد الحليم محمود- وأن التصوف في الأصل صراع في الحياة نحو الكمال، وهو لا يتفق إلا مع التزام النوافل وتقلد الكمالات فكيف يتفق مع ترك الفرائض كما يشير الإمام الغزالي.
ويذكر في طليعة المجاهدين من الصوفية شقيق البلخي (194ه) وحاتم الأصم (237ه) وأبو الحسن الشاذلي (656ه)، ذلك الشيخ الكفيف الذي لم يرفع عين قلبه عن جهاد المصريين ضد الصليبين في موقعة المنصورة، فشارك فيها بقدر استطاعته ثم ظل يبتهل إلى الله بالدعاء حتى جاءه الرسول في منامه مبشرا إياه بالنصر والظفر وقد كان، وإذا قفزنا في ساحة التاريخ وصلنا إلى الأمير عبد القادر الجزائري (1300ه) الذي ناهض الاستعمار الفرنسي للجزائر مدة خمسة عشر عاما إلى أن وقع في الأسر، وفي حذائه الحركة السنوسية المباركة التي ناهضت الاستعمار على شمال إفريقيا، ردحا طويلا من الزمان وسجل لنا التاريخ فيما سجل من بطولاتها: نضال المجاهد الكبير عمر المختار (ت 1350).
وأختم هذه الفكرة بذكر واقعة للإمام النووي تبين إلى أي مدى يصح تعميم الحكم بأن التصوف يربي شيوخا خانعين للسلطان لا يجاوزن أمره ونهيه أصاب أم أخطأ  
روى السيوطي أن السلطان بيبرس حينما أراد أن يفرض ضريبة استثنائية على أموال الشعب لمواجهة غزو التتار جاءه النووي رحمه الله فقال له: "أنا أعرف أنك كنت فى الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم من الله عليك وجعلك ملكا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حق من الحلى، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبنود والصوف بدلا من الحوائص، وبقيت الجوارى دون الحلى، أفتيتك بأخذ المال من الرعية، فغضب الظاهر من كلامه، وقال: اخرج من بلدي -يعني دمشق- فقال: السمع والطاعة! وخرج إلى نوى، فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه. فامتنع الشيخ، وقال: لا أدخلها والظاهر بها. فمات الظاهر بعد شهر.
وحدث ذلك مع الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيح الديروطي الشافعي مع السلطان قانصوه الغوري، ونقل في قصته ما هو أشد مما اتفق للنووي رحمه الله.
فهل نرى من هذه الواقعة وأضرابها ما يشير إلى صحة تعميم الحكم بأن التصوف يخرج مسوخا تأنف من قول الحق وتخشى من الأمر بالمعروف، وقصارى القول: إن من بين المتصوفة من يقع في هذا الفخ لسبب ما يتفق له في شخصيته أو لظروف موضوعية تمنعه من المشاركة الفاعلة، والحكم على الشخص بالإصابة أو بالخطأ لا يصح أن يكون بمنأى من هذه الظروف التي تقرر إلى أي مدى وُفِّق صاحبها إلى الصواب.
وبعد فلعلنا نستفيد من هذه الواقعة المؤسفة عدة دروس أهمها: التثبت في تحمل العلوم، وعدم الثقة فيمن لا يحمل إجازة في علوم الشريعة مهما كان مظهره ومهما كانت شهرته، لاسيما إذا كان ناقل هذا العلم ذا أيديولوجية سياسية أو عقدية؛ لأنه لا يؤمن والحال هذا على سلامة العلم وعلى صحته وعلى نقله نقلا أمينا، وقد شاهدنا صاحبنا المقصود بالمقالة يزيف التاريخ ويلفق منه وقائع وهمية ليمرر شبهة أو ليدعم رأيا يخصه فيبيع المسلمين البعر ليلتقط من وراء هذه المعاملات وابل الدولارات الذي شق له قناة ليجري فيها هذا الوابل بأمره.