بذلة عسكرية تزين أكتافها النجوم والدبابير كانت هي الحلم الذي يراود الرئيس الراحل "محمد نجيب" في يقظته قبل نومه، أميال وكيلومترات تبعده عن حلمه وكذلك سنتمتر واحد في قامته، رغم المفارقات التي تتغلغل إلى طموحه ولكنه لم يستسلم .
يحكي الرئيس المصري الراحل "محمد نجيب" والذي يحل اليوم ذكرى وفاته في مذكراته "كنت رئيسًا" عن رحلته الطويلة والمحفوفة بالمشقة والمخاطر من السودان حيث شب وكبر وحتى انضمامه إلى المدرسة الحربية.
فتحت أعين محمد نجيب على الدنيا لأول مرة في السودان حيث كان يعمل والده ضابطًا بالكتيبة السودانية، كان ينصرف عن دراسته من أجل هوايته الحربية كـ تفجير البارود في حوش البيت وحفر الخنادق وتقليد الجنود والضباط، وأن يلبس ملابس والده العسكرية ويصف أخواته أمامه لتعليمهم الضبط والربط.
من كلية غوردن بالسودان إلى معهد الأبحاث الاستوائية تمهيدًا للعمل كـ مترجم وبعد تعيينه بـ 3 جنيهات، لم يرضى بما قسم له من تلك الوظيفة المتواضعة حينها، وحول دفة القدر نحو دراسة الطب أو الهندسة ولكن الظروف المادية القاسية التي تمر بها أسرته باعدت بينه وبين تلك الكليات.
لمعت المدرسة الحربية في عينه مرة أخرى، وعاد إلى وجدانه ولعه بـ خاله "عبد الوهاب" وقصة هروبه من السودان إلى القاهرة سيرًا على الأقدام لدخوله المدرسة الحربية، وحلم كثيرًا كما لو كان بمقدوره في سنه الصغير أن يهرب مثله.
حانت اللحظة التي قرر فيها السير على خطى خاله، فيقول :"كنت استعد للسفر إلى القاهرة ولكن شعرت بالخوف، ليس بسبب الطريق ولكن بسبب قصر قامتي عن الطول المطلوب بالمدرسة الحربية".
حاول أن يتغلب على مشكلة الـ سنتيمتر الواحد، "فعلت المستحيل بممارسة الألعاب الرياضية، لكي أنمي طولي وأصبح لائق.. ولكن فشلت"، لتظهر مشكلة أخرى إلى جوار تلك المشكلة وهي كيف سيصل من الخرطوم إلى القاهرة.
بـ 3 جنيهات مدخرة من العمل كـ مترجم قرر محمد نجيب أن يهزم تردده ومخاوفه" قررت المغامرة، وفي 5 يناير 1917 هرب من المنزل دون أن يقول لأحد، متجهًا صوب القاهرة، مرتديًا الزي الوطني السوداني وركبت القطار درجة رابعة لأنها الأرخص ومخصصة للسودانين فقط، وبعد 6 أيام من القطار إلى الباخرة إلى القطار، وصلت القاهرة بعد رحلة من العذاب".
ولكن الرحلة الأولى إلى المدرسة الحربية لم تؤتي ثمارها، فقد فاته الاختبارات وبدأت الدفعة الدراسة بالفعل فقد وصل متأخرًا 11 يوم، ولكنه لم يستسلم وظل يحاول:" اتصلت بالسلطان حسين كامل، ثم قابلت سردار الجيش الإنجليزي سيروينجت، وعرفته بأبي وخالي، وقدمت له طلب التحاق بالمدرسة الحربية، كنت قد كتبته على الآلة الكاتبة".
أنبهر سردار الجيش بأسلوب كتابة محمد نجيب للحوار، وطلب من رئيس أركانه أن يكتب خطاب للمدرسة الحربية لينضم نجيب إلى الدفعة التالية، بالفعل حصل على الجواب فيقول:"حملت الخطاب في صدري ولم أصبر حتى أصل إلى المدرسة الحربية لقراءة ما فيه، وفتحته في السكة كان مضمونه اقبلوا الطالب المذكور إذا كان لائقًا".
وصل إلى المدرسة محملًا بالجواب والأمل وهناك طالبوه بالعودة إلى السودان حتى يحين موعد التقدم في الدفعة الجديدة، واعطوه تذكرة للعودة إلى الخرطوم وتذكرة أخرى الذهاب والعودة حتى يأتي إلى موعد التقدم مرة أخرى.
عاد إلى الخرطوم بعد شهر من الإقامة في القاهرة على الفول والطعمية والسلطة الخضراء، وهناك زفته أعين ونبرات الشامتين له، ولكنها لم تستمر طويلًا ففي مارس 1917 جاء إله الجواب المنتظر بالكشف.
"نجحت في الكشف الطبي في الاختبارات الأولية البسيطة كالتمارين الرياضية وقواعد الحساب وقطعة من الإملاء، وطلعت الأول"، ورغم النجاح إلا أن الخوف من السنتيمتر الواحد لاحقه.
عاد إلى السودان حتى يأتي موعد كشف الهيئة أو بمعنى أدق الكشف عن قصر قامته، وعند رجوعه إلى القاهرة مرة أخرى كانت رحلة عصيبة كان يسير فيها على أعصابه، ووقعت العديد من الحوادث فالسفينة غرزت في الطين وتعطلت القطارات، وظل يراسل المدرسة ببرقيات اعتذار عن تأخره.
استقر القطار أخيرًا في محطة مصر، هرع نجيب للحاق بالمدرسة والاختبار:"كانت أعداد غير الموفقين في كشف الهيئة تسد الأبواب فقفزت على أكتافهم وعلى السور وأخذت أنادي انا الطالب اللي جاي من السودان حتى دخلت".
أجري الاختبار وهناك علموا بقصر قامته ولكنه نجته ذكرى والده من الرفض :" قالوا لي أنت قصير .. فقولت لهم أنا ايضًا صغير في السن وأمامي فرصة للنمو وأبي كان قصير مثلي ومرة واحدة انفرد، كان يحضر الأمر معلم أبي، وبالفعل قابلوا دخولي إلى المدرسة الحربية"،