قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، إن فطرة الإنسان تتوافقمع الدين، وتصبوا إليه، وتسعد بالطاعة، وتشقى بالمعصية، وإن كانت لاهية ومشغولة بها وقت وقوعها فيها، لكنها تكتئب بعد ذلك وتعود إلى النفس اللوامة، وهذا ما يوضحه ربنا في مطلع سورة الحجر حيث يقرر تلك الحقيقة التي تبين نفس المسلم، والفرق بينها وبين نفس الكافر. فتتفتح السورة بحروف مقطعة كما افتتحت غيرها من السور، وهذه الحروف تثبت أن القرآن أكبر من الناس، وأنه لا يزال غضا طريا وكأنه نزل اليوم، وأنه يحتاج إلى تدبر وتأمل ويحتاج إلى علم في قراءته، وأنه لا يغلق معانيه عمن استهدى بالله، وأنه هدى للمتقين، وعمى على الكافرين.
وأضاف علي جمعة عبر صفحته الرسمية على فيس بوك أن تلك الحروف التي لو جمعت لكونت جملة تصف معناه وتمدحه، وهي : "نص حكيم قاطع له سر". فهو نص حكيم، وحكيم على وزن فعيل، وصيغة فعيل تأتي للدلالة على اسم الفاعل واسم المفعول، فهو حكيم في نفسه، ومحكم كذلك قال تعالى : ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. وهو قاطع في هدايته، وقاطع في ثبوته، وقاطع في كونه كتاب حياة. وهو له سر، ومن أسراره تلك الحروف التي ذهب المفسرون كل مذهب في تفسيرها، ولا يزال الإنسان وهو يقرؤها يشعر بصغره من بعد تحصيله علوما شتى أمام كلام الله سبحانه وتعالى، والكلام واضح لا خفاء فيه، والعلو واضح والفخامة واضحة، والعظمة بادية على كتاب الله سبحانه وتعالى من أول حرف تقرأه.
تبدأ سورة الحجر بقوله تعالى : ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر :1 : 15].
نوه علي جمعة إلى أن قوله تعالى : ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فرب للتقليل كما أن «كم» للتكثير، وكأن المعنى أن قلة من الكافرين يتمنون بقلوبهم أن يكونوا مسلمين، وذلك يعني أن هناك حجابا كثيفا بين الكافرين وبين المؤمنين المسلمين يحول عن إسلامهم وعن تمنيهم الإسلام.
وأوضح علي جمعة أن بعض المفسرين حمل هذه الآية على التكثير، وبعضهم حملها على تكثير ذلك يوم القيامة، وهم يرون عصاة المؤمنين يخرجون من النار، فيود الكافرون لو أنهم كانوا مسلمين في الدنيا فيخرجون كما خرجوا.
ولأن القرآن كتاب هداية نسق مفتوح نرى أن هذه الآية وكأنها تنطبق على واقعنا الذي نحياه، فبعض الناس ينكرون ما أنزل الله، ويدعون الإسلام، وفي نفس الوقت هم ينادون بالرذيلة والفاحشة والكفر، فهم يودون أن يكونوا مسلمين لا من أجل إيمان في القلوب، بل من أجل إفساد في الأرض، وتشويش على المسلمين وعلى عقائدهم الثابتة وأحكامهم المنقولة.
فهؤلاء يحلو لهم الدعوة إلى التغريب، ونحن لا نعرف ماذا يريدون ؟ فإن المفكرين الغربيين الذين أثروا وغيروا في مجتمعاتهم أعلنوا عن أنفسهم صراحة، فمن أراد منهم أن يكفر أعلن أنه كافر، ومن أراد منهم أن ألا يكون كذلك أعلن عن نفسه كما هو، ولكننا نرى الآن أن الكافر يكفر بما عليه الإلحاد الأسود في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ثم يريد أن يسمي نفسه مؤمنا، ولا يستطيع ولا يريد أن يسمي نفسه كما هو، فإذا ما وصفه أحدهم بأنه كافر عد هذا من باب الإرهاب الفكري والتحريض عليه، في حين أن الآخرين أعلنوها صراحة وتحملوا تبعتها، لكن هؤلاء يريدون المواربة والتدليس واللف والدوران، ولذلك لا يكون لهم أي أثر فيمن حولهم.
فالجهل العلمي، والجبن الفكري، والضجيج المستمر، وحب الظهور، يخالف تماما الصفات التي يمكن بها التغيير، أي تغيير للخير أو للشر.
وقد يفهم بعضهم مني الرضا بالعلمانيين وأنني أرسم لهم الطريق الصحيح لما أعده فسادا في ذاته، والأمر ليس كذلك، بل إنني أحاول أن أكشفهم أمام أنفسهم، وأمام الناس، وأن أضع النقاط فوق الحروف وتحتها، وأن ألفت النظر إلى التجربة المصرية التي وضعت أسس للتعايش بين سائر الأفكار المختلفة حتى التي في نهاية التطرف العلماني أو التغريبي ووضعت أسسا للحضارة التي تنتمي إليها وهي حضارة الإسلام وكيفية مشاركتها في الحضارة العالمية، وأن يكون لها موطئ قدم في الحضارة الإنسانية.
فنرى الشذوذ الجنسي يشيع بإلحاح غبي في أيامنا هذه، وهو أمر تأباه النفس ويرفضه العقلاء، نرى بعضهم ينشرون بلا حياء أن الشذوذ من الدين !! هل نرد عليهم ؟ هل هذا يحتاج إلى رد ؟ هل نتركهم يضلون الشباب ؟ إنه فتنة لا يزال الحليم فيها حيران إذا تكلمنا يقال يتكلمون فيما لا يعنينا ولا يخطر ببالنا من فساد قبيح تأباه الفطرة، وتعافه النفس، وإن سكتنا يقولوا أين علماء الدين من توضيح الأمور ؟ ذلك بالرغم من أنه من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.
وأنا أتساءل : من أين سرت لحقوق الإنسان قضية الشذوذ الجنسي ؟ من الذي جعل الشذوذ المقرف المخالف لكل دين على وجه الأرض عرفته البشرية، ذلك الشذوذ المسبب لدخول الإنسان في حياته حجيما لا يستطيع الفكاك منه، ونارا لا يستطيع أن يخرج منها، فيصاب بالاكتئاب والأمراض ؟ من الذي دسه وسط حقوق الإنسان ؟ ما نظريته أو فلسفته ؟ إنها محض غوغائية وصوت عال متشنج يقول (اتركوا الإنسان في حياته الشخصية هو حر فيها) وهل هو حر في الانتحار ؟ وهل هو حر في ممارسة الخيانة العظمى ضد دولته ووطنه ومجتمعه ؟ وهل هو حر في تناول المخدرات وممارسة الدعارة والقتل للملل والقتل للمرض والقتل بالاتفاق ؟ إلى آخر هذه القائمة التي أباحها بعضهم في مجتمعاتهم. فهل إباحة بعض الناس لهذا الهراء يدخله في حقوق الإنسان التي يجب عليه أن يلتزم بها العالم كله ؟ إن أول شروط حقوق الإنسان أن يكون متفقًا عليها.
فماذا يريد هؤلاء المنافقين، لماذا يظهرون الإسلام ويحتمون به، ويبطنون الكفر ويفرحون به ؟ ويسلي قلوبنا قوله تعالى : ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر :3].
آية تحدد صفات ثلاث؛ أولها : الأكل، والأكل يحدث من المؤمن والكافر، إلا أنه يكون من الكافر مع اللهو وبغير التزام الآداب، وبغير شكر ولذا قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد :12].
والصفة الثانية : التمتع، والتمتع يحدث كذلك من المؤمن والكافر، ولكنه يكون من الكافر بانفتاح على شهوات دون الالتفات إلى أي ضوابط أو شرائع، ويكون للكافر مؤقتا بالحياة الدنيا، وفي الآخرة ينتظره الوعيد، كما قال تعالى للذين عقروا الناقة : ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود :65]. والمتعة في هذا متعددة بحسب الحال، فهي جامعة تشمل متع الجنس، ومتع الجاه، ومتع المال، إلا أنها متعلقة كلها بالدنيا وبالشهوات.
والصفة الثالثة : يليهم الأمل، فهم موهمون يأملون بأن تمتد بهم الحياة، ولا يسوء بهم الحال، فلا يتصورون لحظة أنهم قد يتغير حالهم، ولا يتخيلون أن الحياة تنقضي ويلاقوا يومهم الذي كانوا يوعدون. وطول الأمل يتسلل لقلوب الناس كما في قوله ﷺ: «يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان الأمل وحب المال» [البخاري ومسلم]. وطول الأمل من المهالك التي يهلك بها آخر هذه الأمة، يقول النبي ﷺ: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» [أحمد في الزهد، والطبراني في الأوسط]. فهم يأملون في هذه الحياة الدنيا، ولا ترى واحدا منهم يذكر الموت، وتراه يأباه ويكرهه، ويكره لقاء الله، فكره الله لقاءهم.
ثم تختم الآية بوعيد يفتح لهم آفاق التخيل لما يمكن أن يخبأه الله لهم من العذاب، فيقول سبحانه ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ يقول ابن كثير في هذه الآية : «وقوله : ذرهم يأكلوا، ويتمتعوا، تهديد شديد لهم، ووعيد أكيد، كقوله تعالى : ﴿قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار﴾ وقوله : ﴿كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون﴾؛ ولهذا قال : ﴿ويلههم الأمل﴾ أي عن التوبة والإنابة ﴿فسوف يعلمون﴾ أي عاقبة أمرهم. [ابن كثير].
ثم يخاطب الله المؤمنين بأن لا يعجلوا على هؤلاء، ويدعوهم إلى معرفة سنته في مثلهم، فيعرفهم الحقيقة الثابتة والتي تتمثل في قوله تعالى : ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾. لذا قال تعالى : ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾. وربنا يخبرنا بأن إهلاك القرى الظالمة كان في وقت قد وقته لهم لم يقدم هذا الوقت من أجل أحد، ولم يؤخر من أجل أحد كذلك.
فالأمر بيد الله، وما علينا إلا الإنكار على أمثال هؤلاء في عصرنا، والاجتهاد في تربية أولادنا على الصالحات، والتحذير من هذا البلاء، وعلينا أن نقوم بعبادة الله، وعمارة الأرض، وتزكية النفس.