الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: عُقد الجدة

صدى البلد

فى حجرتها الدافئة المزدحمة تجلس على السرير وهى تدارى ساقيها بطرف الجلباب . كانت أكبر سنًا من أى سيدة أخرى صادفتها فى حياتى ولكن لم أر فيها عجزًا أو انحناءً برغم شعرها الناعم الذي بقًعة البياض ، فهي ناعمة – حمراء الوجه – صيفًا وشتاءً. تبدو ضحكتها نقية ومعبرة خالية من المجاملة، فيضًا من الحنان ، طفلة في عقدها السابع أينما حلّت فهي نافعة ، كانت تتحدث عن الماضى وكأنها ترى المستقبل ، كان حديثى معها خير زاد لروحى وخيالى ، كانت بارعه فى كل ما تحاول فعله ، كنت أشتم رائحة طعامها من على بعد مسافاتٍ ، وأجد نفسى أمام طهي ليس لهُ مثيل بين كل من جلست على مائدة طعامهم . فجدتي سيدة ماهرة و طاهية متميزة . راقبتها في كل صغيرة وكبيرة فهى تختلف عن الجميع فى كل شئ .. ولو سألتها كيف حالك؟ قالت: الحمد لله في خير نعمة، والشافي هو الله ، أتخافين من الموت ؟... ترد قائلة ومن يرفض لقاء الله ... 

ثمة رائحة طيبة لا يخطئها القلب أبدا، رائحة تزرع البركة والطمأنينة فى الجدران والأبواب والنفوس ، كانت بالأمس تمطر مطرًا كثيرًا وظلت الشمس طوال النهار غائبة تعافر كى تطلع ، حتى جاء المساء مبكرًا وتذكرت تلك الليلة مع جدتى ، وقتها أمطرت السماء وراحت القطرات الأولى تحدث صوتًا منتظمًا خارج المنزل . حتى توقفت وبدأت هى فى قص حكايتها الدافئة التى أشعلت النار فى كل مخاوفى . حتى عاد الصباح ، و كان شيش النافذة مغلق بإحكام يتسلل منه ضوء النهار فى مشهد تتطاير فيه غبار الحجرة العتيقة مع شعاع الشمس الدافئ . كنت أفكر وأنا أحاول أن أكون حذرًا فى تساؤلاتى ... سألتها عن تلك العُقد الذى استعارته نصف بنات العائلة لتتزوج وسيدات الحى لتنجب الولد ، ولما رفضت أن تدخل الخالة ميرفت المقابر والنبش فى عظام الأموات كى تنجب الولد ، وكيف ساعدت الدكتورة فاطمة فى الاستغناء عن عادة أمها القديمة بالاستحمام بليف وصابونة الميت كى تتزوج ... فما كان عليهن إلا ارتداء تلك العُقد السحرى كى يمددهم بالأموال والبنين . ابتسمت وكانت تتمايل مع حركة المسبحة بين أصابعها المستقرة على ركبتها المثنية تحت الأخرى ، وقالت : دا من عند حضرة النبى ودى بركة حبيبك صلى عليه ... وأوصت أن أرث تلك العُقد ، بعد أن أفنت حياتها فى رص لبنات البيت القديم ، ومازالت صورتها المبتسمة مطبوعة فى ذهنى .

صوبت وجهي شطر خزانتي لأخرج العقد ولأطمئن عليه وفتحت علبته وقد تحوَّلت حبَّاته اللؤلؤية البيضاء إلى حبَّات فاحمة السواد . تناولته لأقبله ولكن تناثرت حباته على أرض الحجرة بعد أن تقافزت بصورة أثارت دهشتي فأسرعت بجمع الحبات المتناثرة ونظمتها رغم أنَّ في داخلي غصة مؤلمة كأنها ترانى أعبث بعقدها ولا أحافظ علية ... ولكن للأسف تكرر السقوط وانفرط العُقد مرارًا وذهبت بركاته.