الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: عُقدة التفوق

صدى البلد

كانوا جالسين أمامى على المقاعد الأسمنتية قريبين من البحر وأنا أشاهدهم من الشرفة ... يرددون نفس الكلام الذي رددناه، يعيشون نفس الأفكار التي عشناها، التى جمعت الكثير منا، والتي فرقت الكثير منا. الأفكار التى يمكنك أن تقول أنها خانتنا، والتى يمكنني أن أقول إننا خناها.

 

إنهم يعيشون نفس أيامنا القديمة التى عشنا نحن من أجلها والتى خابت  وشاخت، ونحن أيضًا قد شخنا . الأحلام التي فكت أزرار الثوب وعرت الروح وأظهرت الضعف وخيوط الدم و الجروح . أخشى عليهم أن يسلكوا نفس الطريق، نفس الخطأ والوقت يمضى وسيعرف كل منهم أن عليهم ألا يقول شيئا، وأنهم أكثر ميلاً إلى التخاذل والتسليم .... كنت فتاة يرانى الناس من الخارج حتى التقيت بك، وأصبحت منطلقة، الكثيرين يحسدونني على انطلاقى .. أحببتك كثيراً رغم أنك تتخطانى بخمسة عشر عاماً من التجارب والعُمر .. علمتنى كل شيء، كنت كتاب مقفول راكد على الرف، حتى جئت وفتحته وقرأت كل شئ فية وكنت سعيدة بذلك.

 

لا أنسى لقائنا الأول، عندما وصلت إلى تلك القاعة الواسعة وكنت تجلس على المقعد الرئيسي للجنة وتريح ذراعك الوحيد على الكرسى المجاور، وتطلعت لي وأنا جالسة هناك في الركن البعيد، كنت متوترة وقلقة، كنت صغيرة وبسيطة، طمأنتني بصوتك البعيد الدافئ، صوت له رنين خاص يدق فى القلب قبل الأذن، بعدها وافقت على تعيينى وبدون إجماع اللجنة ومن وقتها نصبتنى أشياء لم أكن أحلم أن أتقلدها، فموعد حضورى هو موعدك وكذلك انصرافي، تدخلت فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتك، وضعت يدى على سبل القيادة وسرت أنا الحاكم والنافذ فى غيابك وكثيرًا فى وجودك، لم أترك لخيالك فرصة القرب منك فى حضورى .. كنت معك طوال اليوم فى واقعك وخيالك، اعتصرك وتعتصرنى.

 

لا أنسى تلك الليلة التي تخليت فيها عن مسندك الخشبي وكنت أنا خير عوًض لذراعك الذى فقدته، ولم تعد فى حاجة إلى طىَ كُمً القميص الخالى فى جيبك الأيمن كما كنت تفعل بدونى ...كنا شبه مخطوبين أمام الناس، وشبه متزوجين أمام أنفسنا . نذهب إلى السينما ونقضي ساعات لم نرى الفيلم ولا نشعر بما حولنا، رأسى على صدرك و تمشط شعرى بأصابعك الطويلة النحيلة .... ولكنك تحولت فجأة دون سبب واضح ... تعذبت لشهور وأنا أفكر وأتساءل ولا أجد القدرة على التوقف عن التفكير.. كتبت لك خطاباً طويلاً  ألومك واعتب عليك وأذرف الدموع واستحلفك بأن تعود إلىّ ... ولكنك قررت أن ترانى كالَلقطَة الأبيض والأسود وكل من حولى سار بالألوان، أكثر ما كان يعذبنى هو شعورك الرافض لىّ ... وأصبحت أتعلق بأمل مهترئ...

 

عانيت من اعراض انسحابك، والأقوى من الإهانة أننى لم أنسحب فور شعوري بذلك وحاولت البقاء، فزاد تجبرك وقدرتك على الترك .. فتغير ملامح وجهك عند سماعك صوتى وعدم قبولك حرف لى أمام الجميع وتعنيفك الدائم، كان لي بمثابة وأد الحلم بيننا ... و في اللقاء الأخير والجميع قد انصرفوا قبل قليل، كنت أجلس فى نفس الركن البعيد ولكن هذه المرة تغير صوتك الدافئ إلى حارق، كنا فى وقت متأخر من الليل، وحبات قليلة من النور قد تناثرت فى القاعة العريضة، لا أنسى قولك بأن البعد ليس رديئاً ومع الأيام الأولى سوف تشعرين بغياب الجدران عن حجرتك والأرض الثابتة تحت أقدامك، سوف ترى كيف يتأرجح بك العالم مع كل خطوة، وفي الليل لن تنامى وسيُخيل إليكى أنك تريحى وجهك على سطح الماء، سوف تتقنى لغة الهواء والأعشاب والأشجار، ودبيب الزواحف الصغيرة والعصافير التي اعتادت على إيقاظك صباحاً .

 

... أيقنت أن دوري قد انتهى وغادرت المكان وأنا كالأرض المحترقة التي انسحب منها محتل ولم يترك فيها شئ ينفع لغيره وحول كل معالمها إلى ركام ... بحثت عنك ولم أجدك فى كل المحيطين، بحثت عنك وأهملت البحث عن نفسى، تكرر نجاحى وتكرر رسوبك .. حاولت أن أقدم المساعدة ولكنك رفضت، وتأكدت أن عقليتك التى حاولت جاهداً تصويرها بالتحضر وتقبل الآخر لا تختلف كثيراً عن ميراث تقليداً أعمى يقوم على أن المرأة لا يمكن أن تسبق الرجل ولا يمكن أن تكون كتاباً مفتوحاً لى كما كنت لك . تتصور دائماً أنك المتفوق بحكم كونك رجل نرجسى عاشق لنفسه  مهما تكلم عن المساواة فلا يظهر فى خلافك إلا ما ضرب جذورك منذ سنين . أدركت أنك طريق "جانبى" لا يؤدى إلى شيء، جدار متهدم، لا فائدة من الحفاظ على خطوط العودة ويتوجب علىّ أن أدير وجهىّ وارتقى بنفسى وأعود إلى الساحة الصغيرة التي خرجت منها .

 

وبعد فراق طويل ... رأيتك وكنت ساهماً وشارداً، كنت أرتدي شيئا مناسبا كنت قد اخترته ليّ، ووضعت الأصباغ الحمراء على شفتي وخدودي ورسمت الظلال السوداء فوق عينى الكبيرتين وحملت حقيبتي البيضاء - وصافحتني – ولم تعانقنى كما اعتدنا فى مثل هذة الأحوال أن نفعل، جلسنا سوياً بين الناس وروحنا نتكلم ونشرب الشاى ولكنه كان لقاءاً هشاً، نعم كنت أعرف أنك تريد قول الكثير ... وتركتك تقبض بأسنانك على بعضها، وأنا أشاهدك فى صمت وثقة .