صدر للكاتب والروائي المصري صبحي موسى، عن دائرة الثقافة بالشارقة، رواية "وجوه طنجة.. رحلة البحث عن الموريسكيين"، والتي تعد بمثابة الجزء الثاني من رواية "الموريسكي الأخير" والصادرة عام 2015 عن الدار المصرية اللبنانية.
تدور أحداث الرواية عن الفترة التي قضاها المؤلف في مدينة طنجة أثناء إعداده الجزء الأول "الموريسكي الأخير"، حيث التقي بأصدقائه الشاعر إدريس علوش، والشاعر محمد أحمد بنيس، والناقد الأكاديمي د. يوسف نوري، وهم الذين أهدى إليهم العمل، انطلاقا من كون هذه الرواية تمزج ما بين العمل التاريخي وأدب الرحلة.
وتمزج "وجوه طنجة" بين تاريخ المدن الموريسكية في المغرب مثل أصيلا والعرائش وشفشاون وتطوان والقصر الكبير وغيرها، وبين تاريخ طنجة ويومياتها، والتاريخ الشخصي للكتاب الذين افتتنوا بهذه المدينة، و أتوا إليها من أقاصي الأرضي ليقيموا فيها وتصبح موطنهم ومقر إقامتهم، وجميعهم كتب عنها في أعماله التي صارت عالمية، كما مزج الكاتب كل ذلك بتاريخ طنجة الضارب في القدم منذ حطت سفينة النبي نوح على قمة جبال أطلس التل، وصولا إلى تاريخها كمدينة دولية تعايشت فيها كل الأمم والشعوب.
كان من بين المفارقات التي رصدتها الرواية أن السارد أو المؤلف نزل في الفندق الذي نزل به الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، واتخذه مقرا لإقامته حتى مماته، ومن ثم استلهم الكاتب سيرة شكري واجواء رواياته، وأصدقائه الفرنسيين والأمريكان الذين تعلم الكتابة على أيديهم، وسعي من خلالها لرصد تاريخ المغرب القديم والحديث، مقارنة بالتاريخ المصري، فقد قامت الرواية على المزاوجة بين العالمين، وما فيهما من حكايات وأساطير وفنون.
لكن علاقة السارد أو الروائي بأصدقائه والحبكة الدرامية التي صاغ بها عمله، جعلت النص عملا روائيا بامتياز، إذ خلق الكاتب لعمله شخوصا متخيلين إلى جانب شخوصه الحقيقيين، وأضاف أحداثا ساعدت على بناء حبكة روائية تمتعت بالملغز تارة، والمشوق تارة أخرى، والغرائبي تارة ثالثة. لنجد أنفسنا أمام عمل مركب ومتعدد الطبقات، وبقدر ما هو نص ممتع بقدر ما هو نص معرفي، مما يجعله واحد من الاضافات الروائية المهمة في تقنية وطريقة سرد الكاتب.
يذكر أن صبحي موسى صدرت له من شهرين روايته التاسعة "كلاب تنبح خارج النافذة"، والتي أتت بعد مسيرة روائية ضمت أعماله: "أساطير رجل الثلاثاء"، "صلاة خاصة"، "نادي المحبين"، "صمت الكهنة"، "المؤلف"، "حمامة بيضاء"، "نقطة نظام". وتعد هذه الرواية بمثابة الجزء الثاني ل "الموريسكي الأخير"، وهي العمل الروائي العاشر في مسيرة صبحي موسى.
ومن أجواء الرواية الجديدة:
كان الوقت قد تجاوز الثامنة مساءً، وبدأت العاملات في المكان يطرقن باب مديرهن قاطعات رغبته في الحديث، وشعرت أنهن عُذبن بسببي، فلا بدَّ أنهن يرغبن في الذهاب إلى بيوتهن منذ وقت طويل، فشكرته واعتذرت له ولهن عن التأخير، وخرجت لا أعرف أين ستأخذني قدماي، ركبت تاكسي مع سائق عجوز شره التدخين، حين سألني أين أريد أن أذهب، كنت سأخبره أن يذهب بي إلى موقف السيارات، لكنني في لحظة جنون طلبت منه أن يدور بي قليلًا في المدينة، فأنا أريد أن أتعرَّف عليها، نظر نحوي قائلًا:
- أنت مصري؟
أجبت: نعم.
قال: أنا أمازيغي.
لم أعرف إن كان يقصد أنه منفصل عن المغرب أم أنه معتز بهويته الريفية والأمازيغية، سألته:
- لماذا أمازيغي؟
ضحك قائلًا:
- ربنا خلقني كدا.
شعرت أنه يكرر إفيه نجيب الريحاني (أنا كدا، خِلقتي كدا).
سألني عن وجهتي، فقلت أماكن الموريسكيين، نظر نحوي قائلًا:
- موريسكيز؟
ضحكت مستبشرًا، وسألته هل تعرف الإسبانية، قال: قليلًا، لكن الفرنسية أفضل. قلت له: أريد رؤية المعالم المهمة في تطوان. قال: فلنبدأ بسور المدينة. قلت: وما سور المدينة؟ قال: إنه سور قديم بني على مدار ثلاثة قرون، من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، بُني على مراحل بطول 5 كليو مترات، وارتفاع 7 أمتار، وعرض أكبر من المتر. حين وصلنا إلى السور رأيت به أبراجًا يقف بها الجنود للمراقبة، وكان السور يرتفع في مناطق وينخفض في أخرى، يضاء في مناطق ويظلم في أخرى، ذكرني بسور مجرى العيون في القاهرة، وهو السور الذي بناه الوزير بدر الجمالي في عصر المستنصر بالله، وضم بين جنباته عدة مدن سابقة عليه، كالفسطاط التي بناها عمرو بن العاص، والقطائع التي بناها أحمد بن طولون، فضلًا عن قاهرة جوهر الصقلي التي بناها لسيده المعز لدين الله الفاطمي.
شردت بخيالي بعيدًا عن السائق والطريق المزدحم الذي أتاح لنا فرصة الوقوف وتأمل السور، وتركني السائق لخيالي كي أستلهم ما أستطيع، لكنني لم أشعر أن هذا السور يخصني، لم أجد فيه الموريسكيين ولا رائحتهم، ربما لأنهم أناس عزل تركوا أوطانهم مرغمين، فأنَّى لهم أن يبنوا القلاع والأسوار؟ وأدركت أن علي المنظري لم يكن موريسكيًّا، فهو لم يجبر على التنصير، ولم يقع تحت طائلة محاكم التفتيش، ولم توضع في يده الأغلال ولم ينتزع من بيته ليسير في طرق جبلية أربعة أو خمسة أيام كي يصل إلى الجزيرة الخضراء، ومنها يحمل على مركب متهالك ليعبر البحر في رحلة لا يعرف إن كان سينجو منها أم سيصبح طعامًا للسمك.
سألني السائق هل تريد الذهاب إلى قصبة سيدي المنظري؟ قلت وما قصبة المنظري؟ قال إنها بيت الحُكم، بناها في الزاوية الغربية للمدينة في أوائل القرن السادس عشر، يقولون إن بناءها استغرق 20 عامًا. حين وصلنا إليها وجدت قلعة قديمة لها برج مراقبة يتطلع للقادمين من خارج المدينة، ولها سور على مسافة سبعين مترًا، ارتفاعه 7 أمتار، به برجان مربعا الشكل، فضلًا عن برج صغير متعدد الأضلاع، قال السائق إن بين الأبراج ممرًّا يربطهم معًا، وددت لو أنزل فأرى ذلك بنفسي، لكنه قال إن الوقت قد تأخر، ولن يسمحوا لنا بالدخول، قال أيضًا إن في القصبة مسجدًا وإسطبل خيول ودارًا لسكن الجنود.
سألته إن كان يعرف من الذي بنى المسجد، وهل ما زال موجودًا أم لا؟ أشعل سيجارة من أخرى، وقال بلهجة مرشد سياحي إنه ما زال موجودًا، وأن البعض يصلُّون فيه، وأن الذي بناه هو علي المنظري نفسه، وأن به ثلاثة أبواب تجاه الجنوب والشمال والغرب، وله أعمدة تعلوها أقواس مكسورة، ومغطى بسقوف مائلة من الخشب ومغطاة بالقرميد، وبه صومعة مربعة ارتفاعها 15 مترًا.
سألني هل تريد رؤية حصن الاستقالة؟ لكن نفسي كانت قد تشبعت من الأسوار والحصون، فطلبت منه أن يبحث لنا عن شيء فيه روح، فضحك قائلًا:
- ضريح سيدي عبد القادر.
قلت وما ضريح سيدي عبد القادر؟ انفرجت أساريره موقنًا أن الجولة ممتدة، وأنني طالما ظل مزاجي رائقًا فسوف أكون كريمًا معه، قال إنه قبر يضم رفات عبد القادر التابين المتوفَّى عام 1170م، وإليه ينسب بناء مدينة تطوان في عصر الموحدين. لكنني رفضت، فسألني:
- ما رأيك في مدرسة جامع لوكش؟
- قلت وما مدرسة جامع لوكش؟
قال هي مدرسة بناها القائد عمر لوكش عام 1758، مكونة من طابقين، وبها 20 غرفة للطلاب.
قلت له:
- بما أن الوقت تأخر، ولن يُسمح لنا بدخول أي من هذه الأماكن، فاذهب بنا إلى الجامع الكبير.
قال ضاحكًا:
- وما الجامع الكبير؟
في الطريق علمت منه أنه جامع حديث، ليس في قدم ضريح عبد القادر ولا قصبة المنظري، بناه السلطان سليمان عام 1808م. تركنا السيارة بالخارج ونزلنا نتطلع إليه، سلَّم على خادم المسجد وهمس في أذنه ببضع كلمات، فتركنا ندخل للصلاة، لم نكن سنصلي، ولم يكن هناك سوانا في المكان، فرحنا ننظر إلى الأعمدة والمنبر الخشبي المزخرف بالصدف، والمحراب الكبير المجاور له، والأبواب الثلاث المؤدية إليه، والمئذنة التي قال الخادم إنها الأعلى في المدينة كلها، وأن مساحة الموقع نحو 1500 متر، مقسمة على جزأين، الأول خارجي، وهو صحن مكشوف به نافورة، والثاني هو المسجد نفسه.
حين عدنا إلى التاكسي سألني السائق إن كنت أريد الذهاب إلى مكان آخر، قلت وما الأماكن الباقية؟ قال السقايات، فتطوان بها 20 سقاية لتزويد السكان بالماء، أجملها سقاية باب العقلة، بناها عمر لوكش في القرن 18. فقلت له دعك من ذلك، فمصر بها العديد من الأسبلة، أشهرها سبيل أم عباس، فضحك سائلًا عن عملي، قلت له صحفي، ثم سألته عن عمله، فضحك قائلًا:
- مدرس تاريخ.
شعرت أنه يكذب مثلي، فأردت اختباره، سائلًا عن اسم تطوان، فابتسم قائلًا:
- هي أكثر من تِطْوان: فهي بتاء مكسورة وطاء ساكنة وواو وألف ونون، كانت مستعملة في القرن الثامن عشر، وجاء ذكرها في كتاب القرطاس المكتوب عام 1723، وهي تطّاون، بتاء وطاء مشدَّدة وألف وواو ونون، وتلك هي الصيغة التي ينطقها بها جميع أهل المدينة وأغلب أهل المغرب في كلامهم العادي، وردت في كتاب "نزهة المشتاق" للشريف الإدريسي، وهي تطاوِين، بواو مكسورة وياء ونون، وهي في أغلب الوثائق والرسوم العدلية القديمة، كتب عنها العلامة أبو علي اليوسفي معترضًا على الذين يسمونها تطوِان، ناعتًا إياهم بالمتصفِّحين. وهي تيطاوين، هكذا وردت في كتاب "تاريخ ابن خلدون"، وأيضًا "تطاوان"، هكذا ذكرها أبو عبيد البكري الأندلسي في كتابه "المسالك والممالك"، وهي تيطاوان حسبما وردت في كتاب البكري، وأيضًا في كتاب "الاستبصار" وكتاب "النفحة المسكية"، وهي تيطاون حسبما ذكرها عذاري المراكشي في حوادث سنة 347 في كتابه "البيان المغرب في أخبار المغرب"، وفي كتاب "لقطة الفرائد" لابن القاضي، وكتاب "النفحة المسكية".
كنت أنصت إليه مبتسمًا ومندهشًا ليس من كونه ضليعًا في قواعد اللغة والإرشاد السياحي، ولكن لكونه منحة السماء التي نزلت لي من حيث لا أدري، فقد أمضيت اليوم كله في انتظار مدير مركز الدراسات الأندلسية، ولم أعرف منه الكثير، لكني على يد هذا المدهش درت المدينة كلها، وعلمت منه ما كنت سأعود جاهلًا به، وضعت يدي في جيبي وأخرجت الجزء الذي حملته من الدولارات، ومنحته له عن طيب خاطر، حين رأى المبلغ الذي سقط في يده قال إنه كثير، قلت إنه يستحق أكثر، لكنه ليس مدرس تاريخ. قال إنه يعمل في هذه المهنة منذ كان صبيًّا، وأن التعليم قديمًا كان مفيدًا، والعمل مع الناس أفاده أكثر. شكرته على ما بذله من جهد معي، فضحك قائلًا لا تثق في مرشد سياحي، وتذكر أن تطوان وأسماءها من صنع الأمازيغ.