لاشك أنه ينبغي الحذر من كل فعل من الكبائر ، لأنها من المهلكات في الدنيا ومن موجبات العذاب بالآخرة ، ومن ثم فمن العقل والحكمة تجنب أي فعل من الكبائر باعتباره أحد بوابات الجحيم التي لا ينبغي الاقتراب منها حتى لا فتحها ، فالذنوب وإن لم تصل إلى درجة الكبائر هي أكبر أسباب المصائب والبلاء.
وقال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن هناك فعلاً من الكبائر الشائعة بين الناس ويستوجب أشد أنواع العقاب والعذاب، فيما يستهين به الكثيرون، منوهًا بأن هذا الفعل من الكبائر هو التلبيس.
فعل من الكبائر
وأوضح «جمعة » عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أن التلبيس صفة تعد كبيرة من الكبائر؛ لأنها تمنع أساسا من أسس الاجتماع البشري، وهو التفاهم المبني أساسا على الفهم، والفهم حتى يكون صحيحا يجب أن يكون صورة صحيحة للواقع.
وأضاف أنه إذا قام أحدهم بموجب ظاهرة صوتية يتكلم كلاما يخلط فيه الحق بالباطل، فإن هذا هو التلبيس بعينه، الذي يعطل الفهم، فيعطل التفاهم، فيعطل بعد ذلك البحث عن مشترك بين البشر، فيعطل مع هذا الاتفاق والائتلاف، ويدعو إلى النفاق والاختلاف، قال تعالى: (لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الآية 71 من سورة آل عمران.
ونبه إلى أن من مظاهر تلبيس الحق بالباطل ذكر بعض الحقائق، وحذف بعضها الآخر بما يوجب أن يصل المعنى إلى السامع أو المتلقي على غير مراد المتكلم أو الكاتب، واجتزاء قبيح، له صور مختلفة، وضربوا له أمثالا منها اقتصار بعضهم وهو يتلو القرآن على وقف قبيح، كما لو قال: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) الآية 43 من سورة النساء.
وتابع: والحقيقة أن النسبة لم تتم؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) الآيو 43 من سورة النساء أو يقول: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) الآية 4 من سورة الماعون، والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى قال: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4 ، 5].
وأشار إلى أنه في الآية الأولى اكتفى بالنسبة الظاهرية، فحول الكلام إلى نهي عن الصلاة ولم ينظر إلى النسبة الحقيقية التي تنهى المصلي أن يصلي مع غياب عقله، والتي عللت لذلك بوجود علمه بما يقول حتى تحقق الصلاة غاياتها من كونها صلة بين العبد وربه، وفي الثانية حذف الصفة التي هي قيد في المسألة، ومع كثرة القيود يقل الموجود، فالويل إنما هو لمصل خاص يستهين بالصلاة ويتركها، ويجعلها في هامش حياته، لا في أساسها ولا في برنامجه اليومي كما هو شأن المسلمين الملتزمين بالإسلام، وهذا نوع من أنواع تداعي التلبيس الذي نهينا عنه.
وبين أنه إذا صار التلبيس شهوة، وفخرا، وتفاخرا بين حملة الثقافة والكتاب دل ذلك على ظاهرة سيئة رديئة تحتاج من المفكرين جميعا أن يقفوا بإزائها، وتحتاج من مراكز البحث العلمي والاجتماعي أن يتدخل العلم بمناهجه الرصينة لدراسة هذه الظاهرة قبل أن تنتشر وتستفحل، وقبل أن تصير هي العرف السائد، والثقافة العامة؛ بحيث لا ينكر عليها منكر، بل إن من أنكر عليها فإنه يكون قد أنكر المعروف لدى هؤلاء، فيتحول المنكر في ذاته إلى معروف صوري، وسيظل ذلك أبدا منكرا عند الله وعند عقلاء البشر.
واستند لما هو منسوب إلى أبي نواس بيت من الشعر قد يكون قد حاول فيه أن يبرر لنفسه معصيته بما اشتهر عنه من مجون وحب لشرب الخمر: ما قال ربك ويل للأولى سكروا * ولكن قال ويل للمصلين، منوهًا بأن وهذا نوع من أنواع تداعي التلبيس الذي نهينا عنه، فظاهرة التلبيس تختلف عن ظاهرة الكذب؛ لأنها دائما تذكر حقيقة أو حقائق تغلفها بأكاذيب.
وأفاد بأن من المعلوم أن علم العلاقات العامة قد اهتم في دراساته لأنواع الدعاية الثلاث: الدعاية البيضاء التي لا تشتمل إلا على الحقائق، والدعاية السوداء التي تشتمل على الأباطيل بصورة خالصة، والدعاية الرمادية [إن صح التعبير] والتي تخلط بين الحقائق والأباطيل، وبالتتبع وجد أن الدعاية الرمادية أشد تأثيرا في الناس، وأن الناس أكثر استجابة لها من الدعاية البيضاء والسوداء، ولكنها بما اشتملت عليه من أباطيل تكون قد خدعت جمهورها، وإن حققت المصالح المادية من مبيعات أكثر للمنتجات.
ولفت إلى أن الدعاية الرمادية تشبه إلى حد كبير في المعنى النفاق، الذي يلبس بين الإيمان والكفر، فالمؤمن واضح في دعواه، وفي إيمانه يعلنه أمام الناس، ويصدق به أمام نفسه، والكافر كذلك يعلن عقيدته أمام الناس وأمام نفسه من غير مواربة أو خداع، في حين أن المنافق لا تعرف له أساسا، يراوغ (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) الآية 14 من سوروة البقرة، فلم يكن قاسيا ولا عنيفا أن يحذر المنافقون من أن نفاقهم يستوجب أشد أنواع العقاب والعذاب (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) الآية 145 من سورة النساء.
ما هي الكبائر في الإسلام
عرّف العلماء الكبيرة بأنها المعصية التي عليها عقوبة دنيوية: الكبيرة هي ما كانت حراماً محْضاً ورتّب عليه الشّرع عُقوبةً بنصٍّ قاطعٍ إمّا في الدُّنيا؛ كالقتل والسرقة، أو في الآخرة، وقال الإمام الماورديّ: إنّ الكبيرة هي التي توجبُ الحدّ، كما جاء عن الإمامِ أحمد أنّ الكبيرة ما أوجبت حدّاً في الدُّنيا، ومن هذه الكبائر الزّنا.
وكذلك تعد هي المعصية التي عليها وعيد في الآخرة: الكبيرة أيضاً هي الذُّنوب والمعاصي التي جاء فيها وعيدٌ في الآخِرة من عذابٍ أو غضبٍ أو لعنٍ من الله -تعالى- ورسوله لِفاعلها، وقال بعض العلماء هي ما جاء فيها الوعيد لِفاعلها بالنّار والعذاب إمّا في الكِتابِ أو السُنّة.
ويرى الغزاليّ أنّ الكبيرة هي المعصية التي يفعلُها الإنسان من غير خوفٍ، أو حذرٍ، أو ندمٍ؛ كالمتهاون بارتكابها والمُتجرِّىء عليها بعادته، وأمّا الواحديّ فذهب إلى أنَّ الكبائر ليس لها حدٌّ واضح أو معلوم، وقد أخفاها الله -تعالى- عن عباده؛ لكي لا يتجرّؤوا على معصيته، ولكي يبتعدوا عن جميع المعاصي.
عدد الكبائر
تعدّدت أقوال العُلماء في عددها، وذهب بعضهم إلى عدم حصرها بعددٍ مُعين، وضابطها ما كان يترتّب على فعلها الحدّ في الدُّنيا، والوعيد والعقاب في الآخرة، وقد ذهب ابن حجر الهيتميّ إلى حصرها بما نصّ القرآن الكريم على تحريمه بلفظ التّحريم، وهي أربعة أشياء: أكل لحم الخنزير، وأكل لحم الميْتة، وأكل مال اليتيم بالباطل، والتولّي والإدبار من الزحف؛ أي المعركة. وقيل إنّها سبعة.
وورد في قول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ)، وقيل: إنّها ثمانية بإضافة عُقوق الوالدين إلى السّبعة الواردة في الحديث السابق، وقيل إنّها تسعة، وقال ابنُ مسعود -رضيَ الله عنه- هي عشرة، وقال الإمام الزّركشيّ: أربعة عشر، وقيل أكثر من ذلك.
أسماء أخرى للكبيرة
يوجد العديد من الأسماء الأخرى للكبيرة، نوردها على النحو الآتي: إنّ من الأسماء الأُخرى للكبيرة الْحَدِّ أَوْ الْعَدِّ، وقال بذلك الإمام الزركشيّ. جاء في كلام الفُقهاء وفي الأحاديث لفظ الموبقات أو الموبقة، لِقول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ). جاءت كذلك بلفظ الفاحشة، لِقولهِ -تعالى-: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ). وقال الإمام النّوويّ إنَّ النبيّ ذكر الكبائر السّبع على سبيل المثال لا الحصر؛ وذلك لكون هذه السّبع من أفحش الكبائر التي كثُر وقوعها. وأمّا السبب في تسميتها بالكبائر؛ فقد ذهب الإمامُ القرافيّ أنّ ذلك بسبب المفسدة الحاصلة بفعلها، فالكبيرة ما كان فسادُها عظيماً.