نعى الناقد الأدبي الدكتور حسين حمودة أستاذه الدكتور شمس الدين الحجاجي الذي توفي اليوم عن عمر ناهز 89 عامًا. وكتب حسين حمودة على صفحته الشخصية «فيسبوك»: منشورًا بعنوان «رحيل الأب المعلم».
وجاء فيه: ها هو يستريح بعد التعب.. رحل أستاذي الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، وهذا ما كنت قد كتبته عنه، في شهادة لـ"الثقافة الجديدة"، إذ تمنيت أن تبقى معنا ضحكته الصافية، وها هي الآن باقية في الذاكرة فحسب.
عن الأستاذ الأب المعلّم.. وضحكته الصافية
الأستاذ الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي مثال للأستاذ الأب المعلّم الذي تتسم علاقته بطلابه وطالباته بملامح إنسانية لا تتحقق عند كثيرين من الأساتذة. من جهة، هو الحازم الحاسم فيما يتصل بالمواد التي يقوم بتدريسها، أو فيما يتعلق بالرسائل التي يشرف عليها. ومن جهة ثانية، هو المدافع الأبديّ عن طلابه الذين يدرّس لهم أو يشرف على رسائلهم، أو يشارك في مناقشتها. ومن جهة ثالثة، هو الأب الذي يحرص دائما على السؤال عن هؤلاء الطلاب، وعن أهلهم، ويقدم لهم النصح على سبيل حل مشاكلهم إذا أحس بأنهم يواجهون مشاكل، ومن جهة خارج الترتيب: هو صاحب الضحكة المنطلقة الصافية التي تصدر من القلب وتصل إلى القلب.
قيم شمس الدين الحجاجي الإنسانية
والأستاذ الدكتور أحمد شمس الحجاجي، خارج التدريس، مثال ناصع على الاستمساك بقيم إنسانية عظيمة، يدافع عما يدافع عنه بنزاهة وتجرد، خارج كل حسابات شخصية، ويحرص على أن يعود المرضى، وأن يقوم بواجب العزاء، مع كل من يعرف من قريب أو من بعيد، بالقدر نفسه من الحرص على التواصل مع البسطاء من الناس الذين يشعر دوما بأنه ينتمي إليهم وينتمون إليه. وهو، بهذا الاستمساك بهذه القيم، وبغيرها مما يجاورها، يلوح ريفيا أصيلا يسعى في المدينة، مناوئا إرادتها العمياء التي تنهض على تمزيق الصلات بين الناس، وعلى تكريس الانفصال والتباعد، وعلى الزج بالانشغالات التي تعزل الإنسان عن الآخرين، وتعزله أحيانا عن نفسه.
ملاحظات مضيئة
وأضاف حسين حمودة: عرفته واقتربت منه، أول ما عرفته واقتربت منه، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما تولى الإشراف على رسالتي عن أعمال يحيى الطاهر عبدالله (بلدياته.. من الأقصر) بعد رحيل أستاذي الذي كان مشرفا على الرسالة، الدكتور عبدالمحسن طه بدر. سلمته الرسالة، وقرأها وناقشني فيما كتبته، وقدم لي ملاحظاته المضيئة وكان بعضها مخالفا لما تصورته. لكنه لم يجبرني على القيام بأي تغيير لم أقتنع به. وعند مناقشة الرسالة دافع عني رغم اختلافه مع بعض ما كتبت (وسوف يتكرر هذا المشهد؛ دفاعه الذي لا يكلّ عن طلابه، في كل مناقشات الرسائل التي يشرف عليها، وقد أصبحت فيما بعد أشارك في مناقشة بعضها). وبعد مناقشة رسالتي اقترح عليّ أن أبدأ العمل برسالتي التالية في موضوع "الرواية والمدينة"، وقال لي إنه اختار لي هذا الموضوع لأنه يدرك أنني سوف أعمل على استكشافه رغم تشعبه.
في تلك الفترة كنت أعمل بالصحافة الأدبية، وقد شجعني أساتذتي على أن أتقدم للعمل بالجامعة. وبعد أن بدأت العمل بها قابلته في قسم اللغة العربية بكلية الآداب.. أمسك بيدي وأخذني معه للمدرج الذي سوف يلقي فيه محاضرته، وفاجأني بأن طلب منّي الدخول معه والوقوف مكانه وإلقاء المحاضرة. وبعد انتهاء المحاضرة قدم لي ملاحظاته حول أدائي، ولعلها كانت إيجابية. كان حريصا على أن يدرّبنى، دون سابق تنبيه، على أن أكون محاضرا جيدا.
حكى لي كثيرا، بتنويعات متعددة، عن أسفاره وعن التجارب المؤلمة في حياته، وكلها تجارب زادته معرفة وبأسا وتفاؤلا (وأضيف: ولم تستطع أبدا أن تحول دون ضحكته الصافية). وحكى لي أيضا، بطرائق مختلفة، عن عالم غني كتب عن بعضه في روايته (سيرة الشيخ نور الدين)، ولعل ما لم يكتبه في هذه الرواية، من هذا العالم الغني، يستحق كتابات أخرى آمل أن يكتبها. وخلال تأملي الآن لما حكاه، ولما كتبه، ولما شهدته معه من مشاهد، أراه قد عاش الإبداع وظل يعايشه في حياته كلها، سواء كتب هذا الإبداع أو لم يكتبه.
ضحكة شمس الدين الحجاجي
شاركته وشاركني المحبة الغامرة لعالم نجيب محفوظ، وأسعدني بمشاركاته في "دورية نجيب محفوظ" التي كنت أعمل بها. ومع كل مقالة كان يسلمها لي كنا نتحدث ونتناقش، وكنت أشعر أن المقالة التي كتبها لم تقف عند حدود ما كتبه في سطورها، وإنما تمتد معه في تأملاته لأبعادها، إلى آفاق لا نهائية.
هو من القلائل الذين تلتقيهم، وتسلم عليهم، وتنظر في أعينهم، فتشعر أن الدنيا بخير.
خلال السنتين الماضيتين تزايدت متاعبه الصحية، وربما حددت حركته قليلا، وهو المجبول على الحركة المتصلة. أتمنى له الصحة والعمر المديد، ودوام القدرة على أن يدافع عن طلابه، وعن قيمه وأفكاره.. وأتمنى أن يحتفظ، كما احتفظ دائما، بضحكته المنطلقة الصافية.