الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

"فقاعة عقارات" تربك الاقتصاد الروسي وسط خلافات بين "المركزي" والكرملين

صوره ارشيفيه
صوره ارشيفيه

منحت روسيا مليارات الدولارات من القروض الرخيصة لمواطنيها لشراء منازل جديدة، واليوم تتسبب هذه الأموال في خلق صداع اقتصادي لم يتوقعه إلا قليلون والمتمثل في فقاعة بناء الإسكان.

 

كشف ارتفاع أسعار المساكن الناجم عن الديون، إلى جانب التضخم السريع الارتفاع، عن انقسامات صارخة في روسيا حتى مع احتدام المعركة في أوكرانيا، فمن ناحية، يوجد البنك المركزي المتواضع، والمكلف بالحفاظ على الاستقرار المالي، وعلى الجانب الآخر، هناك الكرملين، الذي يحاول حشد الدعم الشعبي قبل الانتخابات الرئاسية في عام 2024.

 

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي إنه يخطط لتمديد برنامج الرهن العقاري الشعبي، الذي يقدم أسعاراً مخفضة للعائلات التي لديها أطفال، حتى نهاية العام المقبل.

 

في هذه الأثناء، دعت حاكمة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا إلى تقليص أجزاء من برامج الرهن العقاري المدعومة، وحذرت من أنها تقوض جهود البنك المركزي لتهدئة الطلب والتضخم. ورفع البنك المركزي الأسبوع الماضي سعر الفائدة الرئيس إلى 16 في المئة، أي أكثر من ضعف ما كان عليه في يونيو (حزيران) الماضي.

وقالت نابيولينا "إذا لم تجعل الحكومة برامج الرهن العقاري المدعوم محدودة ومستهدفة، فإن تأثير سعر الفائدة الرئيس على الاقتصاد سيضعف بشكل ملحوظ، ومن ثم قد نحتاج إلى الحفاظ على سعر الفائدة أعلى لفترة أطول".

 

ولم يستجب البنك المركزي ووزارة المالية لطلبات التعليق من صحيفة "وول ستريت جورنال" بخصوص الخلاف الذي بدأ يظهر للعيان بين الكرملين والبنك المركزي بخصوص الرهون العقارية الرخيصة.

 

"عبودية الدين"

 

وكان الروس منذ فترة طويلة متشككين في الرهن العقاري، والذي يشار إليه بالعامية الروسية باسم "عبودية الدين"، ويفضلون التملك الكامل، لكن ذلك بدأ ذلك يتغير في عام 2020، عندما عرضت الحكومة قروضاً عقارية مدعومة لشراء منازل مبنية حديثاً كإجراء لدعم الوباء.

 

تزايد الاهتمام بالبرنامج منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعد الانهيار الأولي في الإقراض العقاري في أعقاب الحرب، ومن ثم بدأت البنوك في تخفيف معايير الإقراض، وكثفت الحكومة المدفوعات للمواطنين، وتركت العقوبات للروس الأثرياء أماكن قليلة لوضع أموالهم.

وارتفعت أحجام الرهن العقاري الروسي بنسبة 72 في المئة هذا العام إلى ما يقارب 70 مليار دولار، وسجلت بالفعل رقماً قياسياً سنوياً جديداً، وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي حتى أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتم عرض غالبية تلك القروض بأسعار فائدة أقل بكثير من أسعار السوق بفضل الدعم الحكومي.

 

وساعدت شعبية القروض العقارية الرخيصة الأسر على الانتقال إلى مساكن أكبر وأكثر حداثة، وساعد البناء الناتج من ذلك في تعزيز النشاط الاقتصادي.

 

وتمكنت روسيا من الصمود أمام العقوبات بشكل أفضل مما تصوره كثر في الغرب، مع التوقعات بنمو اقتصادها هذا العام وحفاظها على النشاط الاقتصادي في ظل استمرار إيرادات مبيعات النفط القوية، وزيادة هائلة في الإنفاق العسكري، وتقديم المنح للمواطنين العاديين في شكل معاشات تقاعدية معززة وقروض رخيصة، ويشكل برنامج الرهن العقاري جزءاً رئيساً من هذا الدعم.

 

الإنفاق والإقراض... والإنهاك

 

مع ذلك، يحذر الاقتصاديون من أن الإنفاق والإقراض القويين أديا إلى ظهور علامات مثيرة للقلق من الإنهاك، إذ قال كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في "كابيتال إيكونوميكس"، ليام بيتش، للصحيفة "بالنسبة إلى جزء كبير من السكان الروس، كان الرهن العقاري بعيد المنال، لذا فإن الحكومة تحب أن تتباهى به، لكنه يبقي الاقتصاد ساخناً للغاية، إنه يزيد من أخطار الاستقرار".

 

وتواجه الحكومة أيضاً ارتفاع كلفة برنامج الدعم، وتعوض الحكومة البنوك الفارق بين سعر السوق للرهن العقاري ــ الذي يبدأ بنسبة 16 في المئة في أكبر بنك في روسيا، "سبيربنك" ــ والسعر التفضيلي البالغ ستة أو ثمانية في المئة.

 

وتتوقع الحكومة أن تتضاعف كلفة برنامج الرهن العقاري أربع مرات تقريباً في العام المقبل، لتصل إلى 454 مليار روبل (4.9 مليار دولار)، وفقاً لصحيفة "فيدوموستي الروسية".

واعترافاً بالأخطار التي خلقها البرنامج، زادت الحكومة الأسبوع الماضي الدفعة الأولى الإلزامية إلى ما يصل إلى 30 في المئة من 20 في المئة.

 

وبالنسبة إلى عديد من الروس يعد الاستثمار في العقارات أحد الأماكن القليلة التي يمكن من خلالها وضع أموال فائضة وتوفير الحماية من التضخم المرتفع، الذي عانته روسيا بشكل متقطع لعقود من الزمن، فيما أدت العقوبات إلى خنق سوق الأوراق المالية وتشديد القيود المفروضة على العملة، إضافة إلى أن العقوبات الغربية تجعل من الصعب نقل الأموال إلى الخارج.

 

وأدت شروط التمويل السهلة إلى تضخم كلفة المساكن الجديدة، إذ إن متوسط سعر الشقة المبنية حديثاً في روسيا أعلى بنسبة 40 في المئة من سعر الشقق التي يعاد بيعها، وكانت هذه الفجوة أقل من 10 في المئة قبل بدء البرنامج، ويعني هذا الاختلاف أن الأشخاص الذين اشتروا شققاً جديدة قد يخسرون المال إذا حاولوا إعادة بيعها.

 

الضغوط المالية تختمر تحت السطح

 

وقالت الاقتصادية في وكالة "موديز أناليتيكس"، أولغا بيتشكوفا "إن مدخرات الناس من خلال معدلات الرهن العقاري المدعومة يقضي عليها".

 

وحتى الآن، لا تزال حالات التخلف عن السداد منخفضة، مع تأخر سداد المدفوعات بنسبة 0.4 في المئة فقط، وفقاً لبيانات البنك المركزي، لكن الاقتصاديين يخشون أن الضغوط المالية تختمر تحت السطح. وينفق نحو نصف المقترضين الجدد 80 في المئة من دخلهم أو أكثر على خدمة الديون، وهو ما يقارب ضعف المستوى مقارنة بالعامين السابقين، وفقاً لبيتشكوفا.

وقالت المسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي، التي تعمل الآن باحثة غير مقيمة في مركز "كارنيغي روسيا أوراسيا" ومقره برلين، ألكسندرا بروكوبينكو، إن إحدى المجموعات الرئيسة المشاركة في الطفرة هم عائلات الجنود القتلى والجرحى، إذ يمكن لعائلات الجنود الذين لقوا حتفهم في أوكرانيا أن تحصل على خمسة ملايين روبل (54.2 ألف دولار)، من الحكومة وملايين أخرى كدعم من السلطات الإقليمية ومعاشات التقاعد ومدفوعات التأمين، وكثير منهم استخدموا ذلك لشراء العقارات.

 

وقالت بروكوبينكو "يشعر الناس بأنهم أكثر ثراءً، هذا عامل سياسي مهم للغاية، وهو أن يكون لدى الناس علامات واضحة على أنهم يعيشون بشكل أفضل".

 

وأضافت أن أزمة ملكية يمكن أن تنشأ إذا أوقفت الحكومة أو قلصت دعمها السخي للأسر، وهذا من شأنه أن يدفع الأسر إلى التخلف عن سداد قروضها العقارية، وإثقال كاهل البنوك بالديون المعدومة.

 

وتابعت "هذه المدفوعات من الحكومة ليست دائمة... هذا خطر كبير أيضاً من غير الواضح كيف سيتعامل الناس مع هذه القروض خلال ثلاثة أو خمسة أعوام".

 

"منزلك في القطب الشمالي"

 

وتستخدم روسيا أيضاً برامج الرهن العقاري الرخيصة كحافز للانضمام إلى الجيش والعمل في صناعات معينة مثل تكنولوجيا المعلومات، أو للانتقال إلى المناطق التي ترغب في تطويرها، مثل أقصى شرق البلاد النائي والقطب الشمالي، وغالباً ما يتم استكمال هذه البرامج بالنقود.

 

وتمنح مبادرة "منزلك في القطب الشمالي" الحكومية لمشتري المنازل في المناطق الشمالية ما يصل إلى 1.5 مليون روبل (16.2 ألف دولار)، وحصلت إيفغينيا، وهي محاسبة تبلغ من العمر 43 سنة وتعيش في كولا في منطقة مورمانسك الشمالية المتاخمة لفنلندا، على مليون روبل (10.8 ألف دولار) مع زوجها لبناء منزل، وهذا يعني أنه عند إضافة مدخراتهما الخاصة لم يضطرا إلى الحصول على رهن عقاري.

وكان القدر الأعظم من نمو الرهن العقاري مدفوعاً بالمدن الكبرى مثل موسكو وسانت بطرسبورغ، لكن مناطق أخرى تشهد نشاطاً محموماً أيضاً.

 

وشهدت شبه الجزيرة الأوكرانية التي ضمتها روسيا في عام 2014 والتي أصبحت الآن محور الضربات المضادة لأوكرانيا، تضاعف أحجام الرهن العقاري هذا العام، وفقاً لبيانات البنك المركزي حتى أكتوبر الماضي، وشهدت توفا، وهي منطقة معزولة في سيبيريا، زيادة في الأحجام بنسبة 233 في المئة.

 

ومع اقتراب الانتخابات في مارس (آذار) المقبل - إذ أكد بوتين في وقت سابق من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أنه سيرشح نفسه - لا يتوقع الاقتصاديون أن تقوم الحكومة بتشديد الخناق قريباً.

 

وقال الاقتصادي في معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية، فاسيلي أستروف، إن إعانات الرهن العقاري لا تزال "تحظى بشعبية كبيرة، لذا لا أتوقع أي تحركات كبيرة في هذا الشأن قبل الانتخابات، حتى مع الآثار الجانبية غير المرغوب فيها".