ألقى الدكتور محمود السيّد، رئيس مجمع اللغة العربية السوري، اليوم الإثنين الموافق 15 مايو 2023، كلمته أثناء انعقاد الدورة التاسعة والثمانين للمؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية في القاهرة، تحت عنوان «اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة».
نص كلمة الدكتور محمود السيّد
أهنئ الدكتور عبد الوهاب عبد الحافظ أولاً برئاسته لمجمع اللغة العربية في القاهرة خلفاً للأستاذ الدكتور صلاح فضل رحمه الله الرحمة الواسعة، وأتمنى له النجاح والتوفيق في أداء مهامه العالية ورسالته السامية، كما أهنئ ثانياً الأمين العام للمجمع الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور وجميع العاملين في المجمع على عقد هذا المؤتمر في هذه الظروف الصعبة والقاسية التي تمر بها أمتنا، وأقدّر عالياً الجهود الكبيرة التي بذلوها، والمعاناة المرة التي كابدوها حتى جرى لهم عقد المؤتمر، كما أثمن الجهود الطيبة والكبيرة التي قام بها أعضاء لجان المجمع وخبراؤه في وضع المصطلحات العربية مقابل المصطلحات الأجنبية في مختلف ميادين المعرفة، وأكبر كلّ الإكبار الاختيار الموفق جداً لعنوان المؤتمر «اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة» وهو موضوع الساعة، ومن الأهمية بمكان على الصعيد العربي بغية تسليط الأضواء على الجانب المظلم من العولمة الذي يهدّد هويتنا القومية وذاتيتنا الثقافية، إذ إن للعولمة جانبين أحدهما مضيء يتمثل في انفتاح الثقافات بعضها على بعض، وتقريب المسافات بين الأصقاع، وتحويل العالم إلى قرية كونية، ولكم تمنينا أن يتحلى عالمنا بأخلاق القرية وقيمها، فأهلها يعاون بعضُهم بعضَهم الآخر في جو من المحبة والتفاهم والاحترام والتآزر. أما الجانب المظلم من العولمة فيتجلى في هيمنة الأقوياء على الضعفاء وسيادة حق القوة لا قوة الحقّ، والاجتياح المادي وانحسار القيم المعنوية، وسيطرة المصالح وسيرورة قيم الاستهلاك، وإحياء كلّ ما يفرّق ويمزّق الروابط بين أبناء الأمة، ووأد كلّ ما يوحّد ويصون الذاتية الثقافية للأمم والشعوب.
هوية ثقافية
وأضاف في كلمته: لا يمكننا أن نتخيّل مجتمعاً دون هوية ثقافية تميزه، واللغة هي محور الثقافة وحاملتها والمعبرة عنها، والمحققة وحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه، إلا أن تعزيز الهوية الثقافية والمحافظة عليها وتعميق جذورها لا يتنافى مع الانفتاح على الآخر، والحوار معه، والأخذ من إيجابياته، وهذا ما انتهجته أمتنا من قبلُ، فعلى أرضها عاش أناس من جنسيات مختلفة وديانات متعددة عيشاً مشتركاً متفاهمين ومتآزرين ومتجانسين ينشدون المثل العليا، ومعيار المفاضلة بينهم عمل الخير ومنفعة الناس. وفي أجواء الأمان أسهمت الأمة في مسيرة الحضارة البشرية، وذلك عندما غدت لغتها العربية لغة عالمية إبان ألق الحضارة العربية الإسلامية، وعندما احترم العرب آنذاك الثقافات الأخرى ولغاتها، ولم يعملوا على إقصائها كما تعمل عالمية اللغة الإنجليزية في وقتنا الراهن، وإنما ترجموا عن الفارسية والهندية واليونانية، واحتفظوا بعلوم اليونان والرومان والفرس والهنود والأنباط في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها، وبعد أن اطلعوا على تجارب الآخرين طبعوا تجربتهم بالطابع العربي وابتكروا وأبدعوا، وقدّموا خلاصة تجربتهم الغنية في ميادين العلوم والمعارف إلى أوربا، فكان ما أنتج في عصر النهضة في أوربا يرجع إلى نتيجة التثاقف بين العرب والأوربيين، وما تزال كلمة جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية من قبلُ، التي ألقاها في مؤتمر المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2001 ماثلة في ذهني عندما قال : «ما الهندسة المعمارية والشعر والرياضيات والفلك والطب وغيرها لولا الثقافة العربية التي ورثت أيضاً المعارف القديمة، وجابت أصقاعها بعيداً عن جذورها في الوقت الذي كانت فيه أوربا منغلقة على نفسها».
[[system-code:ad:autoads]]
تشويه
واستطرد: ما يؤسف في أيامنا هذه أن بضاعتنا لم ترد إلينا بنزاهة، بل رافقها انتحال وتنكر وتحريف وتشويه في ضوء مشروع سياسي يهدف إلى تغييب هويتنا القومية، وإبعاد لغتنا، واللغة والهوية وجهان لعملة واحدة، ومعرفة اللغة أهم ركيزة لتحصين الهوية القومية، والذات، والشخصية، والإحساس بالانتماء القومي، ذلك لأن قلب الشعب ينبض في لغته، واللغة هي روح الأمة وحياتها، ومحور القومية وعمودها الفقري، وإن حياة الأمة تقوم قبل كل شيء على لغتها لأنها إذا نسيت تاريخها فإنها تفقد شعورها، وتستطيع أن تستعيد وعيها وشعورها بالعودة إلى تاريخها القومي، ولكنها إذا فقدت لغتها فإنها تفقد الحياة، وتغدو في عداد الأموات على حد تعبير المفكر ساطع الحصري رحمه الله.
ومن الواضح أن الأهداف البعيدة لهذه الصيحات التي تهاجم اللغة العربية، وتسعى إلى استبعادها على يد أرباب العولمة، وعلى يد نفر ممن يدور في فلكها من أبناء الأمة، إنما ترمي إلى ترسيخ التجزئة والانفصال بين أقطارها، وإبعاد ماضيها عن حاضرها كي لا يكون عاملاً إيجابياً لها للمضي في دروب التقدم.
إنّ الهوية العربية هي هوية اللغة والثقافة، إذ إن ثمة أناساً من غير العرب أصبحوا من أهل هذه اللغة وأبدعوا فيها، وطوروا نظامها اللغوي والبلاغي، وغذوا تراكمها التعبيري منذ ما يزيد على ألف عام. وتعد اللغة العربية الرمز المعبر عن الشخصية لغة وثقافة وقومية أي لساناً وعقلاً ووجداناً، وهي العروة التي جمعت الماضي بالحاضر ثقافة، والناطقين بها هوية، وبقيت الرباط الوثيق الذي يجمع بين أبناء الأمة في وحدة لغوية تملأ العربي إحساساً بالانتماء إلى كل من تكلم بها ماضياً، ومن يتكلم بها حاضراً وكل من يتكلم بها مستقبلاً، ذلك لأن الشعور بالانتماء ما هو إلا اعتزاز الفرد بروح أمته، وما كانت اللغة إلا روح الأمة وأساس قوميتها.
هوية موحدة
ويتبدى من ذلك كله أن العروبة ليست مفهوماً عرقياً أو عنصرياً بل هي هوية ثقافية موحّدة، تؤدي اللغة العربية دور الحاضن لها، والمعبر عنها، والحافظ لتراثها، وتمثل إطاراً حضارياً مشتركاَ مرتكزاً على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، ويعمق جذوره التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الأخرى دون الذوبان فيها وفقدان التميز، وإن خسارة اللغة لا تعني افتقاد التواصل والتعبير فقط، بل تعني افتقاد الانتماء إلى الهوية القومية.
وتجدر الإشارة إلى أن لغتنا العربية تواجه تحديات عدة في ظل العولمة التي يروم أصحابها إبعاد العربية واعتماد الانكليزية مكانها في العملية التعليمية التعلمية بحجة قصورها عن استيعاب النهضة العلمية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانوا يروّجون للغة العامية على أنها لغة الحياة، وليست العربية لغتها، وغني عن البيان أن الهدف من ذلك كله هو إحياء ما يفرّق بين أبناء الأمة الواحدة، والعامية تفرّق بين أقطارها حتى إنها تفرّق بين أبناء القطر الواحد، في الوقت الذي يرومون فيه وأد كل ما يوحّد بين العرب، واللغة موحِّدة وموحَّدة، ولا يتصورون أن يكون العرب في وحدة مجتمعية تقف في وجه أطماعهم ومصالحهم! فليوجهوا سهامهم إلى العروة التي تجمعهم، والرابطة التي تضمهم كافة ألا وهي اللغة العربية.
ومن محاولاتهم في هذا المسار الرامي إلى طمس الهوية العربية الترويج لمشروع الشرق الأوسط الجديد واستبعاد مصطلح العروبة والعربية والوطن العربي والأمة العربية، والسعي إلى استبعاد اللغة العربية من بين اللغات المعتمدة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. والتعتيم على الحضارة العربية الإسلامية وتشويه التاريخ العربي وتزويره ووصم الإسلام بالإرهاب والتطرف....الخ.
تدريس اللغات
وفي ظل العولمة انتشرت الجامعات الأجنبية في البلاد العربية من المغرب إلى الخليج حتى بات لا يخلو قطر عربي من عدد من الجامعات الأجنبية أمريكية أو فرنسية، ولقد تفاقمت حدة هذا الانتشار في السنوات الأخيرة وسيكون له آثاره البعيدة على أمتنا القومي والديني والوطني ، واستقدام الأجانب تحت مظلة جنسية الجامعة.
وجنحت الجامعات في دول المغرب العربي إلى التدريس باللغة الفرنسية في الأعم الأغلب، ويشرف على التعليم العالي أساتذة وإداريون في المغرب والجزائر متحيزون إلى الفرنسية، وينظرون نظرة فوقية إلى المؤهلين بالعربية، ويصفونهم بالتخلف على حد تعبير الأستاذ الدكتور الجزائري عمار الطالبي في بحث له كان قد ألقاه في مجمع القاهرة من قبلُ.
وإذا كانت الجامعات في دول المغرب العربي تمارس التدريس بالفرنسية في جامعاتها فإن الجامعات في دول الخليج العربي تمارس التدريس بالانكليزية في الأعم الأغلب، ولم يقتصر الأمر على التدريس في الجامعات، وإنما شقّ طريقه إلى التعليم العام والمدارس الخاصة ، حتى إن العلوم والرياضيات تدرس بالإنجليزية في بعض دول الخليج من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر.
وأكمل: من الاختراقات التي حدثت في ظل العولمة أيضاً عقد مؤتمرات علمية على الأرض العربية اعتمدت فيها اللغة الأجنبية في منأى عن استخدام العربية حتى لو كانت الموضوعات المطروحة عربية، ولا ضيرَ من اعتماد اللغتين الإنجليزية والعربية إذا كان ثمة أجانب يحضرون فيها.
ومن الأمور المقلقة جداً سيرورة الهجين اللغوي واللهجات العامية في الإعلانات واللافتات وعلى واجهات المحال التجارية والخدمية والسياحية، وعلى المنتجات الوطنية، وفي الشركات والمعامل والمطاعم والفنادق والمقاهي والمطويات والمصارف والبنوك، وفي القنوات الإعلامية وعبر الكلمة المسموعة والمرئية... الخ.
ومن الملاحظ أيضاً أنه في المسابقات والتعيينات ينص على النجاح في اللغة الأجنبية، ولا ينص على النجاح بالعربية ولا يلتفت إليها، وهذا ما أدى إلى النفور منها، وعدم الإقبال على الاهتمام بها وتعلمها مادام سوق العمل جاذباً للمؤهلين بالأجنبية.
حماية الأمن اللغوي
وأنهي حديثه وقال: إن مؤتمرنا يتوجه إلى مؤتمر القمة العربي القادم طالباً إليه العمل على توفير الأمن اللغوي، وإصدار قوانين لحماية اللغة العربية، وتعزيز استعمال العربية السليمة في جميع مجالات الحياة في التعليم بمراحله كافة، وفي الإعلام والإعلان بكل أشكاله، وفي المواقع العربية على الشابكة، وإصدار قرارات سياسية حاسمة في موضوع التعريب ... الخ.
وإذا كان إصدار التشريعات والقوانين لحماية الأمن اللغوي من الأهمية بمكان فإن لنشر الوعي اللغوي في عقول أبناء الأمة أهمية لا تقل عن الأولى على أن يكون رؤساء الدول العربية وحكامها قدوة ومثالاً في الحرص على استعمال لغتهم العربية في جميع المجالات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.