قبيل انطلاق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، تحتل قضايا الاقتصاد صدارة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية، وعلى رأسها تسريح العاملين في شركات التكنولوجيا العملاقة مثل تويتر، وتقلبات الأسواق المالية وإجراءات الاحتياطي الفيدرالي (البنك لامركزي الأمريكي) الموجعة لمواجهة التضخم، قضايا تثير تساؤلا هاما عن مدى تحسن الاقتصاد الأمريكي من عدمه.
وعلى صعيد الوظائف فهناك أنباء عظيمة تنتظر من يبحث عن عمل، حيث نجح اقتصاد الولايات المتحدة في خلق 261 ألف وظيفة في أكتوبر الماضي، وهو أكثر مما توقعه خبراء الاقتصاد بـ 60 ألف وظيفة، بالإضافة إلى انخفاض نسبة البطالة إلى مستوى تاريخي عند 3.7%، مع وجود فرصتي عمل في المتوسط لكل باحث عن عمل.
وحسبما ذكر تقرير لقناة سي إن إن الأمريكية، فإن قيود سوق العمل تمثل معضلة بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، حيث تثير مخاوفه من الارتباط الطردي بين قدرة الموظفين على الضغط من أجل تحسين الأجور وبين استمرار ارتفاع الأسعار الذي يضرب البلاد منذ أكثر من عام، والذي دفعه لرفع معدل الفوائد البنكية أكثر من مرة، في محاولة منه لإبطاء حركة سوق العمل وتقليص وفرة الوظائف وبالتالي تقليص الأجور، حتى وإن أدى ذلك إلى تسريح بعض الشركات لعدد من موظفيها.
وعلى الرغم من اتخاذ الاحتياطي الفيدرالي لهذه الإجراءات الهادفة لكبح التضخم، فإنها لم تأت بالنتائج المنتظرة منها حتى الآن، بل فاقمت معاناة الأمريكيين من أزمة مالية طاحنة، حيث لم يعد باستطاعتهم الاقتراض أو سداد الأموال التي حصلوا عليها عن طريق مزايا بطاقات الائتمان والمشتروات التي تطرحها البنوك بفعل ارتفاع أسعار الفائدة على الإقراض، وبالتالي تحولت إلى ديون متراكمة تثقل كاهل المواطن الأمريكي.
وارتفعت أسعار الفائدة على الرهن العقاري في الولايات المتحدة إلى 7% خلال الأسبوع الماضي للمرة الأولى منذ 20 عاما، متأثرة بقرارات الاحتياطي الفيدرالي بشكل غير مباشر، وقد انخفض متوسط هذه الفائدة (المحتسبة على أساس ثابت خلال 30 عاما) بشكل طفيف هذا الأسبوع إلى 6.95 %، لكنه يظل أكبر من ضعف مثيله منذ عام، كما يتعدى تأثير هذه القرارات حدود الولايات المتحدة إلى بقية العالم، ملحقا الضرر بأسعار صرف العملات المحلية مقابل الدولار، وهو عملة التداول الرئيسية في معاملات التجارة الدولية.
وقد ألقت هذه السياسات بظلال قاتمة على كل من بائعي المنازل والراغبين في شرائها وفي الانتقال إلى مناطق سكن جديدة تناسب ميزانيتهم، وخاصة الشباب الذين لا يمتلكون فائض مدخرات يمكنهم من شراء المنازل، التي قل المعروض منها وارتفعت أسعارها، فأصبحوا يلجأون إلى الاستئجار الذي ارتفعت أسعاره بالتبعية نتيجة زيادة الطلب عليه.
ويعاني عمال وشركات قطاع التكنولوجيا في وادي السيليكون على حد سواء من أزمة تسريح العمالة وتجميد التوظيف، وهو ما ينذر بحالة ركود تلوح في الأفق، ومن الجدير بالذكر أن الملياردير ورجل الأعمال الأمريكي الكندي إيلون ماسك، الذي أنهى صفقة استحواذ على موقع التدوينات القصيرة "تويتر" منذ أيام قليلة، أصدر الخميس الماضي قرارا بتسريح 13% من العاملين بالشركة، كما أوقفت كل من شركة مايكروسوفت للبرمجيات وشركة التسوق الأولى عالميا أمازون عروض التوظيف بهما.
لكن خبراء الاقتصاد لا يعتبرون سياسات شركات التكنولوجيا مؤشرا دقيقا على أوضاع سوق العمل بشكل عام، حيث تسارع نمو بعضها خلال جائحة كورونا التي تسببت في ركود اقتصادي على مستوى العالم، ويرجع انكماشها الاقتصادي في الوقت الحالي إلى تباطؤ تدفق الإعلانات واتجاه المعلنين إلى تخفيف نشاطهم عليها، ورغم هذه الصورة يرى بليدي تاسكا كبير الخبراء الاقتصاديين في منصة "لايتكاست" لتحليل أداء أسواق العمل، أن قطاع التكنولوجيا لا يزال متواجدا بقوة ويوفر بعض الوظائف.
وتعود أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية إلى آثار جائحة كورونا المدمرة على الاقتصاد العالمي، حيث أجبرت الحكومات على اتخاذ قرارات الإغلاق العام التي لا يزال يعاني منها منذ أكثر من عامين ونصف العام.
كما يرتفع الطلب على البضائع في وقت تتعثر فيه سلاسل الإمداد على كافة المستويات، من المناديل الورقية وحتى شرائح الحواسيب الآلية، وأدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار بشكل مؤلم، مما دفع المستهلكين للجوء إلى المعونات الحكومية ليتمكنوا من توفير احياجاتهم اليومية، وهو ما أدى بدوره تفاقم أزمة التضخم، وعلى الجانب الآخر زادت الحرب الروسية الأوكرانية الأمر سوءا، حيث تسببت في نقص حاد في إمدادات الطاقة والغذاء حول العالم.
وكانت سياسات الاحتياطي الفيدرالي قد تركزت خلال العام الماضي على الاستثمار في السندات الحكومية بهدف حماية الأسواق المالية من الانهيار، كما أبقى على معدلات فوائد بنكية تقترب من الصفر لأطول وقت ممكن، مهونًا من شأن مخاطر أزمة التضخم، ومؤكدا أنها أزمة مؤقتة وستُحل من تلقاء نفسها، لكن الواقع أثبت خطأ تلك التوقعات، مما دفع الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ إجراءات انكماشية توصف بالعنيفة للسيطرة على ارتفاع الأسعار والتضخم.
ورغم هذا الوضع المتأزم لا يزال هناك بعض الأمل في حدوث تحسن طفيف، فمؤشر أسعار المستهلك الذي كان قد ارتفع إلى 9.1% في يونيو الماضي، عاد إلى الانخفاض مرة أخرى إلى 8.2%، وإن كان هذا يظل أعلى بكثير من معدل التضخم المقبول عند نسبة 2% الذي يستهدفه الاحتياطي الفيدرالي، إلا أن الأسعار لا تنخفض بشكل كبير بين عشية وضحاها.