تختبر أوروبا أزمة عميقة، خاصة في مرحلة ما بعد جائحة كورونا، وهي أزمة متعددة الأبعاد، من الاضطراب السياسي في أهم دولها مثل المملكة المتحدة، إلى صعود اليمين القومي المتطرف الذي أصبح يحظى بشعبية متزايدة ووصل بالفعل إلى سدة الحكم في بعض الدول، بالإضافة إلى أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وتضافرت هذه المستجدات مع أوضاع سياسية متقلبة لتؤدي في النهاية إلى حالة من عدم الاستقرار والفوضى في المجتمع الأوروبي، وقد انتخبت جورجيا ميلوني ذات ال45 عاما كأول امرأة تشغل منصب رئيس الوزراء في إيطاليا، وهي معروفة بانتمائها القومي المتطرف، وبخطابها المناهض للمهاجرين وسياسات تعزيز الهوية الأوروبية.
أوروبا تعاقب نفسها لا روسيا
وحسبما ذكر موقع "مودرن دبلوماسي" الأمريكي، فإن هذه الظاهرة تتكرر في دول أوروبية أخرى كالمجر والسويد اللتين يحكمهما قادة يعتنقون مبادئ حركة النازيين الجدد، علاوة على المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية في فرنسا مارين لوبان التي جاءت في المركز الثاني في السباق الرئاسي، بحصولها على نسبة 41% من أصوات الناخبين، وهي من أشد المدافعين عن سياسات اليمين المتطرف، وتلفت هذه النسبة الأنظار إلى ارتفاع شعبية هذا الاتجاه بين الأوروبيين مؤخرا، كما تثير استقالة ليز تراس رئيسة الوزراء البريطانية من منصبها بعد ستة أسابيع فقط من توليها إياه، القلق من تفاقم اضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
وتأتي الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الوضع سوءاً على أسواق الطاقة العالمية، وكرد فعل من الدول الأوروبية على الحرب في أوكرانيا، فقد فرضت عقوبات جماعية على روسيا، لكنها تشاركت معها دفع الثمن، بل ربما كان الثمن الأفدح لهذه العقوبات من نصيب أوروبا، حيث انهارت أسواق الطاقة الأوروبية نتيجة اعتمادها الكبير على الوقود الروسي في تشغيل عجلة الصناعة، وبرغم انخفاض أسعار الغاز الطبيعي نسبيا عن مثيلتها في الصيف وتخصيص أكثر من 576 مليار يورو لتوفير الطاقة للمنازل وقطاع الأعمال منذ سبتمبر 2021، لا تلقى هذه الإجراءات قبول الشارع الأوروبي.
وأدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى حدوث تضخم في 19 دولة تستخدم عملة اليورو بنسبة 9.9% مما يصعب على المواطنين الوفاء باحتياجاتهم، واندلعت احتجاجات في عدة دول بشكل يهدد الاستقرار السياسي فيها، في تحركات شعبية للتعبير عن الاستياء من تداعيات الأزمة التي تلقي بظلالها الكثيفة على الحياة اليومية للمواطن الأوروبي.
عاصفة احتجاجات تضرب أوروبا
فقد شهدت رومانيا مظاهرات للمطالبة بتحسين ظروف المعيشة ومكافحة الغلاء المستشري في البلاد والذي دفع بملايين العمال إلى ما دون خط الفقر، واحتشد آلاف التشيكيين للاحتجاج على تعامل الحكومة مع أزمة الطاقة والمطالبة باستقالتها ومنددين بعقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا، وبينما يجرى التحضير لمزيد من الاحتجاجات في العاصمة التشيكية براج، لم يحدث أي تغيير سياسي ملحوظ في سلوك الائتلاف الحاكم الذي فاز بثلث مقاعد مجلس الشيوخ.
ودخل عمال السكك الحديدية وأطقم التمريض والمحامين في بريطانيا في إضراب عن العمل حتى رفع أجورهم لمواجهة ارتفاع الأسعار والتضخم الذي يعد الأعلى خلال أربعة عقود بنسبة 10.1%، وفي ألمانيا توقفت حركة القطارات عن العمل بالتزامن مع دخول طياري شركة طيران لوفتهانزا وعمال شركات طيران أخرى في أوروبا في إضراب مما أربك حركة الطيران عبر القارة بشكل كبير.
كما نظم الفرنسيون تظاهرات دعا إليها اتحاد عمال الوقود، للمطالبة بزيادة الأجور لمواكبة التضخم الذي بلغ 6.2% وهي النسبة الأقل في منطقة اليورو، وقد شارك فيها موظفو السكك الحديدية والمواصلات العامة والمعلمين والأطقم الطبية، وقال ريتشارد أوكيم وهو مسعف فرنسي مشارك في الاحتجاجات، إن الناس اضطروا لاتباع أسلوب الضغط من أجل رفع الرواتب.
تهديد السلم الأهلي في أوروبا
ويدعم القادة الأوروبيون أوكرانيا بقوة من خلال إمدادها بالأسلحة الدفاعية، والالتزام بإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي الرخيص، لكنه ليس بالأمر السهل حيث يهدد بتراجع التأييد الشعبي لهم، ويرى الخبراء بمؤسسة "فيرسك مابليكروفت لاستشارات المخاطر، إن الحرب تهدد السلم الأهلي في أوروبا.
وقال توبجورن سولتفيدت وهو أحد المحللين بالمؤسسة إنه لا يوجد حل سريع لأزمة الطاقة، متوقعا تفاقمها العام القادم، مع تقلص هامش المناورة أمام القادة الأوروبيين، بسبب نقص إمدادات الغاز الذي ينذر بشتاء صعب ومزيد من الاضطرابات الشعبية وعدم الاستقرار السياسي.
ومن غير المرجح أن يتحرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنقاذ أوروبا، إلا في حالة رفعها العقوبات عن بلاده والتوقف عن دعم أوكرانيا في الحرب الممتدة لأكثر من ثمانية أشهر، وقد ساهمت التداعيات الاقتصادية في تزايد الدعم الشعبي لليمين المتطرف، حيث صبت الشعوب الأوروبية جام غضبها على السياسين الليبراليين والجمهوريين العاجزين عن إنقاذهم من تردي أوضاعهم المعيشية.
ويكمن حل المعضلة المتفشية في القارة الأوروبية على نطاق واسع، في تحسين الظروف الاقتصادية كسبيل وحيد لوقف الصعود المتسارع لليمين المتطرف، لكن هذا يتطلب إرادة سياسية، وأول مظاهر توفرها هو تكثيف المسئولين الأوروبيين للنشاط الدبلوماسي لاقناع بوتين بالجلوس إلى مائدة المفاوضات لإنهاء الحرب الكارثية على أوكرانيا ومن ثم رفع العقوبات، وأن تكف الولايات المتحدة عن التدخل السافر في الشئون الأوروبية، وثانيا فإنه من الضروري أن يجتمع القادة الأوروبيين للتوصل إلى حلول للأزمة بما يحفظ القيم الليبرالية والديمقراطية ويؤمن مستقبل شعوبهم، وأخيرا وليس آخرا يجب مراجعة السياسات الاقتصادية للتغلب على تحديات العولمة.