على مدار السنوات الثماني الماضية، سعت الدولة المصرية إلى بناء اقتصاد وطني يتمتع بمقومات تنافسية تساهم في تعزيز مستويات النمو في مختلف القطاعات، وذلك من خال تبني حزمة من الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، وهو الأمر الذي شكل حجر الزاوية في القدرة على الصمود في مواجهة الأزمات والتحديات العالمية الراهنة، والتي أضرت بمختلف اقتصادات العالم، وعلى رأسها جائحة كورونا والأزمة الروسية-الأوكرانية.
وبالرغم من تضرر الاقتصادات العالمية جراء جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية، فقد استطاعت مصر الوقوف بثبات وتحقيق معدل نمو إيجابي في ظل أزمة جائحة كورونا، وما صاحبها من تداعيات سلبية على المؤشرات الاقتصادية العالمية.
وحقق الاقتصاد المصري أعلى معدل نمو منذ 14 عامًا؛ حيث فاق معدل النمو الاقتصادي لمصر معدل النمو العالمي المتوقع أن يبلغ 3.2 % عام 2022 ، ليحقق %6.6 في عام 2021 / 2022 -بالرغم من صعوبة الربع الأخير من هذا العام بسبب الأزمة الأوكرانية- مقارنة ب 2.9 % عام 2013 / 2014 .
كما زاد الناتج المحلي الإجمالي وفق الأسعار الجارية بأكثر من 3 أضعاف، ليبلغ 7.9 تريليونات جنيه عام 2021 / 2022 ، مقابل 2.2 تريليون جنيه عام 2013 / 2014 .
وقد اختارت مجلة فوربس الشرق الأوسط ، الاقتصاد المصري كأكبر ثالث اقتصاد في المنطقة العربية لعام 2021 ، بعد كلٍّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد اعتمد هذا التصنيف على الناتج المحلي لكل دولة؛ حيث احتفظت السعودية بالمركز الأول لقائمة أكبر الاقتصادات العربية لعام 2021 ، بناتج محلي إجمالي يقدر بنحو 804.9 مليارات دولار عام 2021 ، وجاءت الإمارات في المركز الثاني عربيًّا مع تسجيل ناتجها المحلي الإجمالي 401.5مليار دولار في 2021 ، ثم جاءت مصر في المركز الثالث بناتج محلي إجمالي قدره 394.3 مليار دولار في 2021 ، تلاها العراق بناتج محلي إجمالي قدره 190.7 مليار دولار، وجاءت قطر في المركز الخامس بناتج محلي إجمالي 166 مليار دولار.
معدلات التضخم العالمية
وتهدف الورقة الحالية إلى تحليل الأبعاد المختلفة للتضخم، وتأثير كلٍّ من جائحة كوفيد- 19 والأزمة الروسية الأوكرانية على معدلات التضخم العالمية والمصرية، كذلك ستناقش الورقة تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي، من خال تحليل هيكل صادرات كلٍّ من روسيا وأوكرانيا للسلع الغذائية الاستراتيجية.
وعليه تنقسم الورقة الحالية إلى خمسة أقسام رئيسة، تناول القسم الأول تأثير كلٍّ من جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية على معدلات التضخم العالمية، وتطرق القسم الثاني لعرض تأثير التضخم على الأمن الغذائي العالمي، في حين خُصِّص القسم الثالث لعرض تأثير الجائحة والأزمة الروسية الأوكرانية على التضخم في مصر، وتناول القسم الرابع أبرز الجهود الحكومية للحد من آثار التضخم، وختامًا خُصِّص القسم الخامس لعرض أفضل الممارسات الدولية لاستهداف التضخم.
أولًًا: تأثير كل من جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية على معدلات التضخم العالمية لقد شهد العالم أجمع خال العامين الماضيين كارثتين متتاليتين: جائحة كورونا، والأزمة الروسية الأوكرانية، وقد تسببتا في اضطراب الاقتصاد العالمي، وانخفاض معدلات النمو والتجارة الدولية، وانهيار العديد من المؤشرات الاقتصادية في الدول، وقد كان أهم تداعيات الأزمتين هو ارتفاع معدلات التضخم وأسعار العديد من السلع؛ فقد ارتفعت معدلات التضخم العالمية بنسبة 78.2 %خلال عام 2021 .
وفي هذا الإطار، فقد وصل معدل التضخم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 14.8 % خال عام 2021 ، مرتفعًا بدرجة كبيرة عن المتوسط البالغ 7.3 % خال الفترة 2000 - 2018، وذلك وفقًا لما أظهرته تقارير صندوق النقد الدولي الصادرة في عام 2022 ، كما تشهد بعض بلدان المنطقة معدلات تضخم مرتفعة بدرجة تثير القلق، مثل: إيران %43 ، ولبنان 154 %، واليمن 30 %.
بدايةً أثَّرت جائحة كورونا على تغيير هيكل الطلب والعرض العالمي من السلع؛ حيث أدت إجراءات الإغاق وتعطل سلاسل التوريد أثناء الجائحة إلى ارتفاع أسعار بعض السلع وخاصة أسعار الغذاء العالمية التي ارتفعت بنسبة 14 % خال عام 2020 ، وذلك وفقًا لما أظهره مؤشر أسعار الغذاء الذي يصدره البنك الدولي. ومع ظهور علامات على حدوث انتعاش اقتصادي خال عام 2021 ، واجه الاقتصاد العالمي ارتفاع التضخم العالمي؛ حيث أدى الإنفاق التحفيزي المرتبط بالجائحة في الاقتصادات الكبرى إلى جانب الطلب المكبوت إلى تعزيز الإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي دفع التضخم العالمي إلى أعلى معدلاته في العديد من الاقتصادات المتقدمة والناشئة.
وفي الوقت الذي كان العالم في طريقه للتعافيمن آثار الجائحة التي كان لها تداعيات حادة على جميع دول العالم، جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية لتضيف تداعيات عالمية مقلقة أخرى، تَمثَّل أبرزها في تقلبات أسعار الطاقة العالمية، خاصة أسعار النفط والغاز الطبيعي، كما تمثل أحد أشد هذه الآثار في أزمة أسعار الغذاء وخاصة القمح؛ مما زاد من احتمالية خلق أزمة غذائية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والنقص في العديد من الدول التي تعتمد على الصادرات من روسيا أو أوكرانيا.
تعتمد بعض دول العالم، وخاصة النامية، بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا في الحصول على السلع الغذائية؛ فأكثر من 75 % من القمح الذي يستورده العديد من الاقتصادات في أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا يأتي من روسيا وأوكرانيا؛ مما جعل هذه الاقتصادات معرضة بشكل خاص لحدوث اضطراب في إنتاج أو نقل الحبوب والبذور من روسيا وأوكرانيا.
وبالنسبة للدول منخفضة الدخل، فيمكن أن يؤدي انقطاع الإمدادات وكذلك ارتفاع الأسعار إلى تهديد الأمن الغذائي بها؛ حيث تشكل كل من روسيا وأوكرانيا نسبة كبيرة من حجم الصادرات العالمية للعديد من السلع الاستراتيجية، كالنفط والغاز والسلع الغذائية الأساسية وغيرها؛إذ تمثل روسيا نحو 25 % من صادرات الغاز الطبيعي العالمي، و 18 % من صادرات الفحم الحجري، و 23 % من صادرات البلاديوم، و 11.4 % من صادرات النفط الخام العالمي. ونتيجة للأزمة، ارتفعت معدلات التضخم في العديد من دول العالم، حيث ارتفع مؤشر أسعار السلع الأساسية الصادر عن صندوق النقد الدولي IMF بنسبة تُقدر ب 24.9 %.
وعلى هذا النحو، فقد قُدّرت الخسائر العالمية جراء الأزمة بنحو 12 تريليون دولار في الناتج الإجمالي العالمي، وهو ما يُمثل 5 أضعاف الناتج المحلي لقارة إفريقيا بأسرها للعام الماضي، كما يُعادل الناتج المحلي الإجمالي لأكبر أربع دول في قارة أوروبا، وهي: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، فضاً عن أن هذه الخسائر تُعادل الناتج المحلي الإجمالي ل 6 دول من النمور الآسيوية والمتقدمة في قارة آسيا، ووصلت معدلات التضخم العالمي في يوليو 2022 إلى 7.7 ٪ على أساس سنوي، بانخفاض من 8.0 ٪ في يونيو 2022، وتظل قراءات التضخم أعلى بكثير من أهداف البنوك المركزية في اقتصادات 24 دولة على مستوى العالم.
تأثير الجائحة والأزمة الروسية الأوكرانية على معدل التضخم في مصر
تأثرت مصر كباقي دول العالم بالأزمتين، نظرًا لاضطراب سلاسل الإمداد على خلفية انتشار جائحة كورونا، ثم الأزمة الروسية الأوكرانية؛ فعلي الرغم من الاتجاه التنازلي لمعدلات التضخم المصرية منذ 2019 ، إلا أنها بدأت في الارتفاع نتيجة تفشى الجائحة، ليرتفع معدل التضخم في مصر بنسبة 28.2 % في ابريل 2020 مقارنة بشهر مارس لنفس العام، وبنسبة 20 % في يونية مقارنة بشهر مايو من نفس العام، وبعد أن بدأ في الاستقرار النسبي، جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية لتُفاقم ارتفاع الأسعار بنسبة 40.3 % في شهر مارس 2022 مقارنة بشهر فبراير 2022 .
وقد جاء هذا الارتفاع مدفوعًا بارتفاع معظم أسعار السلع الغذائية الأساسية، خاصة القمح ومشتقاته بعد الأزمة؛ حيث تمثل أسعار المواد الغذائية النسبة الكبرى من مؤشر التضخم في مصر؛ لذلك فإن التغيير في أسعار المواد الغذائية يؤثر بشكل كبير جدًّا على معدل التضخم ككل. وفي هذا الصدد، ارتفعت أسعار الفاكهة بمعدل بلغ 2.3 %، وارتفعت أسعار الدواجن واللحوم الحمراء بنسبة 8.4 % و 4.8 % على التوالي، كذلك ارتفعت أسعار الأرز بنسبة 14 % خال شهر مارس 2022 مقارنة بشهر فبراير 2022 . وقد استمرت الأسعار في الارتفاع خال شهر أبريل 2022 ؛ حيث ارتفعت أسعار الفاكهة بنسبة 35 % وأسعار الخضراوات بنسبة 13.6 %، كذلك ارتفعت أسعار كل من الدواجن واللحوم الحمراء بنسب 8.4 % و 2% على التوالي خال شهر أبريل 2022 مقارنة بشهر مارس 2022 .
كذلك ارتفع المعدل السنوي للتضخم في الحضر من 8.8 % في فبراير 2022 )قبل الأزمة الأوكرانية( ليصل إلى %10.5 في مارس 2022 ، وواصل الارتفاع ليصل إلى 13.1 % خال أبريل 2022 . وارتفع معدل التضخم السنوي في الريف من 11.3 % في فبراير 2022 )قبل الأزمة الأوكرانية( ليصل إلى 13.7 % خال مارس 2022 ، و 16.8 % خال أبريل من العام نفسه وواصل المعدل الأرتفاع حتى وصل في الحضر إلى ١٤ .٦ ، وفي الريف ١٦ خلال شهر أغسطس ٢٠٢٢.
جدير بالذكر أن النشاط الاقتصادي في مصر كان يتعافى بقوة قبل الأزمات الخارجية، وذلك على الرغم من أن معدلات التضخم والضغوط على حسابات المعامات الخارجية كانت آخذة في الازدياد؛ حيث ارتفع معدل النمو بقوة ليصل إلى 9% خال النصف الأول من السنة المالية 2021 / 2022 مقارنة بمعدل بلغ 1.4 % قبل عام واحد. وقد كان للجهود التي قامت بها الحكومة المصرية لتخفيف أثر التضخم فضل كبير في ذلك.
أبرز الجهود الحكومية للحد من آثار التضخم
قامت الحكومة المصرية منذ تفشي جائحة كورونا باتخاذ العديد من الإجراءات للتصدي لتأثير ارتفاع معدلات التضخم العالمية، وتمثلت أبرز هذه الجهود فيما يلي:
- رفع معدلات الفائدة: شهدت أسعار الفائدة على الإيداع لليوم الواحد ارتفاعًا؛ بهدف احتواء معدل التضخم بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، لتسجل 11.25 % في 18 أغسطس 2022 ، مقابل 9.25 % في 17 يوليو 2014 .
- إتاحة التمويل الازم لاستيراد السلع الاستراتيجية: حيث قام البنك المركزي المصري بإتاحة الحدود الائتمانية اللازمة لاستيعاب تمويل العمليات الاستيرادية للسلع الأساسية والاستراتيجية، وعلى وجه الخصوص السلع الغذائية لتغطية احتياجات السوق المحلية.
- زيادة منافذ بيع السلع بأسعار مخفضة: فقد أطلقت وزارة الداخلية مراحل مختلفة من مبادرة » كلنا واحد » منذ أبريل 2020 ، لتوفير السلع الغذائية وغير الغذائية للمواطنين بأسعار مخفضة، بالتنسيق مع الموردين من أصحاب الشركات التجارية المتخصصة في مجال السلع الاستراتيجية واللحوم والدواجن والألبان ومشتملاتها بجودة عالية وأسعار مخفضة عن مثيلاتها بالأسواق بنسبة تصل إلى 30 %، كذلك شاركت منظومة «أمان » التابعة لوزارة الداخلية في المبادرة؛ للمساهمة في تلبية احتياجات المواطنين، حيث تضطلع المنظومة بتجهيز العديد من المنافذ الثابتة والمتحركة لطرح السلع الغذائية بأسعار مخفضة بالأماكن النائية والقرى بالمحافظات كافة، بالتنسيق مع مديريات الأمن؛ لتخفيف العبء عن كاهل المواطنين، بما يُعد ترجمة واقعية لاهتمام الدولة بتلبية الاحتياجات المجتمعية للمواطنين.
- زيادة مخصصات الدعم في الموازنة العامة للدولة: قامت الحكومة بزيادة مخصصات الدعم منذ منتصف عام 2022 لتخفيف أثر التضخم على المواطنين؛ فقد شهدت الفترة )يوليو - أكتوبر 2020 ( زيادة فاتورة باب الأجور وتعويضات العاملين بنحو 8.2 % مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019 ، كما ارتفعت مخصصات باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بنحو 56 % خال الأشهر الأربعة الأولى من العام المالي 2020 / 2021 . كذلك رصدت الحكومة في موازنة العام الحالي 2022 / 2023 نحو 130 مليار جنيه؛ وذلك لمواجهة التأثيرات المباشرة والخاصة بزيادة أسعار السلع الاستراتيجية كالقمح والبترول، فضاً عن تخصيص 335 مليار جنيه أخرى لمواجهة التأثيرات غير المباشرة للأزمة؛ وذلك بهدف امتصاص جزء من الأعباء المعيشية على المواطن المصري؛ انطلاقًا من إدراك الدولة بأن مستوى دخل الفرد في مصر يختلف عن باقي الدول؛ حيث إنه من الوارد أن يسمح راتب المواطن في الدول التي حدث فيها تضخم عالٍ، لا سيما الدول المتقدمة، بتحمله جزءًا من هذا الغاء، ومع ذلك فإن هناك دولًًا متقدمة يشكو فيها المواطنون من عدم كفاية رواتبهم لتحمل تكاليف المعيشة.