أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس استقالتها من رئاسة الحكومة وتنحيها عن زعامة حزب المحافظين، بعد نحو 6 أسابيع فقط على توليها المنصبين، وسط استياء عام حيال خطط طرحتها لتحسين الوضع الاقتصادي ثم تراجعت عنها، فلم تسفر إلا عن مزيد من الارتباك للأسواق.
وعلى الرغم من صدور بعض الإشارات الدالة على ارتياح أسواق المال في بريطانيا بعد استقالة تراس، فإن الأهم الآن أن يجد حزب المحافظين المنقسم على نفسه زعيمًا يحظى بتوافق أجنحته المتناحرة.
استقالة ليز تراس.. الأسباب والتفاصيل
وأعلنت تراس في خطاب استقالتها أنها ستبقى في منصبها حتى ينتخب حزب المحافظين زعيمًا جديدًا يخلفها في رئاسة الحكومة أيضًا، وبدوره أعلن حزب المحافظين أنه سينتخب زعيمه الجديد بحلول نهاية الأسبوع المقبل، وإن كانت تلك فترة أقصر من اللازم لاختيار قائد جديد لأحد أكبر اقتصادات العالم.
أما المرشحون الأوفر حظًا لخلافة تراس في زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، فهم وزير المالية السابق ريشي سوناك، ورئيسة مجلس العموم بيني موردونت ورئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، الذي ترك منصبه في أغسطس الماضي على خلفية فضائح مخالفات بروتوكولية وأخلاقية لعدد من مسئولي حكومته.
وذكرت وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية أن خطة تراس لإنعاش الاقتصاد البريطاني، والتي اعتمدت بالأساس على خفض الضرائب مع الوعد بعدم تقليص الإنفاق العام بينما معدل التضخم مرتفع للغاية، ضمنت لها الفوز في انتخابات حزب المحافظين لاختيار زعيم بديل لجونسون، وإن أثارت استياءً في أوساط الرأي العام، كونها تقدم إعفاءات ضريبية للشركات وتسمح لها بزيادة أرباحها في وقت تضغط فيه الأسعار المرتفعة على مستويات معيشة البريطانيين.
كما كانت خطة تراس تنذر بأن الحكومة ستلجأ إلى الاقتراض وزيادة عبء الدين العام لتعويض ما ستفقده من عوائد بسبب تلك الإعفاءات الضريبية، وأدى ذلك إلى اضطراب شديد في أسواق المال وانهيار في قيمة الجنيه الإسترليني وارتفاع ملحوظ في تكلفة الرهن العقاري، بشكل أضر كثيرًا بالمستهلكين والشركات على السواء.
حزب المحافظين.. انقسام في الصفوف وفوضى في القيادة
وفي محاولة لتهدئة الأسواق والرأي العام، طلبت تراس من وزير المالية السابق كواسي كوارتنج تقديم استقالته، وعينت خلفًا له وزير الخارجية السابق جيريمي هانت، الذي أقر فور توليه منصبه بأن خطة تراس للإعفاءات الضريبية تنطوي على أخطاء كبيرة، وأعلن التراجع عن بنودها الرئيسية التي أثارت السخط العام.
لكن المشكلة أن تنازل تراس عن خطتها الاقتصادية الأصلية التي ضمنت لها الفوز بزعامة حزب المحافظين، أدى إلى انقسام خطير واستقطاب شديد في صفوف حزب المحافظين، بين المعسكر المؤيد لخطة تراس الاصلية والمعسكر المستعد للتخلي عنها، وإن بدا معسكر خطة الإعفاءات الضريبية أقوى وهو الذي ضغط بشدة على تراس للتنحي عن منصبها بعدما خاب أمله عندما تنازلت عن الخطة التي أيدها.
وخلال جلسة لمجلس العموم البريطاني، الأربعاء الماضي، اعتذرت تراس عن الفوضى التي سببتها للأسواق وإن أعلنت رفضها الاستقالة وترك منصبها، لكن استقالة وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان التي كانت حليفة قوية لتراس، بجانب ضغوط شديدة داخل حزب المحافظين، أجبرتها على التخلي عن السلطة بعد أقل من 24 ساعة على إعلان تمسكها الشديد بها.
حزب المحافظين.. حرب على دفة القيادة
ليس من الواضح الآن في أي اتجاه سيمضي حزب المحافظين ومن سيخلف تراس في قيادته، فهو يضم عددًا كبيرًا للغاية من الأعضاء من خلفيات وتوجهات متباينة، وفي حديث لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" قال النائب بمجلس العموم وعضو حزب المحافظين سيمون هور قبيل استقالة تراس "لا أحد لديه خارطة طريق. إن هي إلا أفكار تتصارع لإدارة كل يوم على حدة".
وقالت برونوين مادوكس، مديرة معهد "تشاتام هاوس" للدراسات "لا شك أن مركز المملكة المتحدة في العالم قد اهتز بشدة نتيجة هذا الاضطراب في القيادة"، مضيفة أن رئيس الوزراء القادم سيحتاج بالتأكيد إلى سياسات تستهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولكنه سيحتاج بنفس الدرجة إلى حلول لمشكلات العلاقة مع أوروبا والفوضى التي أعقبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وأعلن حزب المحافظين أن باب الترشح لزعامته ورئاسة الحكومة سيُغلق يوم الاثنين المقبل، ويحتاج أي مرشح إلى موافقة موقعة من 100 نائب برلماني عن الحزب على الأقل من أصل 357 نائبًا يشكلون كتلته البرلمانية، ما يعني أن 3 أشخاص فقط هم من يمكنهم الترشح، ومن المنتظر أن يتوافق نواب الحزب في البرلمان على إقصاء أحد المرشحين الثلاثة لحصر المنافسة بين مرشحين اثنين يتنافسان عى أصوات أعضاء الحزب البالغ عددهم نحو 172 ألف عضو، والذين سيدلون بأصواتهم إلكترونيًا عبر الإنترنت، ومن المفترض أن يُنتخب الزعيم الجديد بحلول يوم الجمعة المقبل 28 أكتوبر.
حزب المحافظين يقود بريطانيا نحو الفوضى
وجاءت استقالة تراس لتتوج أشهر من الاستياء المتنامي في صفوف حزب المحافظين، الذي كشفت استطلاعات رأي تراجع شعبيته بشكل ملحوظ في الشارع البريطاني، هذا التراجع الذي بدا في عهد حكومة بوريس جونسون بعد انكشاف فضيحة إقامته سلسلة من الحفلات في المباني الحكومية في وقت مُنع فيه الناس في بريطانيا من الاختلاط بالأصدقاء والعائلة أو حتى زيارة الأقارب، في إطار إجراءات الإغلاق لمكافحة فيروس كورونا.
وأمضى حزب المحافظين الصيف الماضي في اختيار زعيم بديل لجونسون، بالتزامن مع تدهور الاقتصاد وسط ارتفاع أسعار الطاقة الذي نتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وآنذاك عملت تراس وزيرة للخارجية في حكومة جونسون.
وأيًا كان من سيخلف تراس فسيصبح ثالث رئيس وزراء للبلاد هذا العام. ومن المفترض أن الانتخابات البرلمانية العامة لن تُجرى حتى عام 2024، لكن أحزاب المعارضة تطالب بإجراء انتخابات الآن، قائلة إن الحكومة تفتقر إلى الشرعية الديمقراطية، ويتهم زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر المحافظين بقيادة بريطانيا نحو "فوضى عارمة"، محذرًا من أن "هذا يلحق ضررًا كبيرًا باقتصادنا وسمعة بلدنا. يجب أن نحظى بفرصة بداية جديدة، ونحن بحاجة إلى انتخابات عامة الآن".