مع موجة نزوح غير مسبوقة للروس إلى دول الجوار هربا من قرار التعبئة الجزئية، والتقدم الملحوظ للجيش الأوكراني على أكثر من محور في ميدان المعركة، واستعادته المزيد من الأراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية بما فيها أجزاء من الأقاليم التي تسعى روسيا لضمها بموجب الاستفتاءات التي أجرتها فيها، يتساءل مراقبون عن مدى استيعاب القيادة الروسية لتطورات الوضع على الأرض.
ففي العالم الحقيقي تبدو الأمور مختلفة عما يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التأكيد عليه منذ بدء الحرب وحتى آخر ظهور عام له بالميدان الأحمر الأسبوع الماضي، حيث وجه كلمة في حفل كبير أعلن فيه عن ضم الأقاليم الأربعة المستفتى عليها إلى الأراضي الروسية، بعد توقيع معاهدات ضم يعتبرها المجتمع الدولي غير قانونية، مضيفا: النصر حليفنا والحقيقة في صالحنا.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، في تقرير لها، إن الحقيقة الغائبة عن بوتين أدركها أنطون بارباشين المحلل السياسي الروسي المعارض ورئيس تحرير موقع "ريدل روسيا"، فقد وصف الرئيس الروسي بـ "الأعمى الذي لا يبصر ما يحدث"، واعتبره ضحية نظام ظل على رأسه لمدة 20 عاما، ومع بلوغه السبعين من العمر، أصبح عاجزا عن التفاعل بإيجابية مع التقارير الاستخباراتية التي تقدم إليه.
وأضاف بارباشين أن بوتين لم يكن يتوقع حجم المقاومة التي واجهها جنوده في أوكرانيا، فضلا عن الدعم الأمريكي والأوروبي الكبير لها، واللذين أسفرا عن تغير موازين القوى عما كان يعتقده بوتين، ما قد يضطره لإعادة النظر فيما يصفه بـ" قهر النازية" وتحرير الناطقين بالروسية من الاضطهاد.
وتتفق رئيسة مركز "آر بوليتيك" للدراسات تاتيانا ستانوفايا مع الرأي القائل بأن بوتين شخصية صارمة ولا يقبل التشكيك في قراراته، وهي حقيقة عرفها كل من تعامل معه، لذا لا يخبره المحيطون به بمعلومات تخالف تصوره عن سير الأمور والنظام العالمي الجديد الذي يزعم أنه قيد التشكل، وقوة روسيا القادرة على أعادة إخضاع أوكرانيا، التي اختارها كساحة معركة مضمونة المكسب، تجبر العالم على احترامه، وهو مستعد للذهاب إلى أبعد مدى، وفعل أي شيء في سبيل إثبات هذه التصورات، بما فيها حشد أعداد هائلة من شعبه وإرسالهم إلى الجبهة كخطة بديلة، بعد أن أربك أداء الأوكرانيين حسابته السابقة.
ولايزال بوتين يصف حربه مع أوكرانيا ب" العملية العسكرية الخاصة" رافضا الاعتراف باحتمالية تحولها إلى حرب طويلة الأمد، وقد نجح في البداية في الحصول على دعم شعبي، أخذ في التناقص تدريجيا إلى أن أظهر قرار التعبئة الجزئية انتهاءه بشكل كبير، وحاول تعويضه باللجوء إلى حلفائه من قادة دول الاتحاد السوفييتي السابقة، الذين أبدوا استعدادهم لسد النقص في أعداد الجنود المطلوبين لمواصلة العملية العسكرية، بعد أن استشعر الروس أن الحرب تدخل منعطفا أكثر جدية وخطورة وفضلوا الفرار منها.
من جانبهم كشف الجنود الذين شاركوا حديثا في المعركة، عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، عن الأوضاع السيئة التي يعيشونها، من نقص في الطعام ومواد الإسعاف والزي الرسمي واستعمالهم أسلحة قديمة، ما أظهر مدى الخلل في رواية بوتين الذي اعتاد التفاخر بإعادة بناء جيش قوي ذي قدرات قتالية عالية، وبإقناع شعبه أن بلادهم قوة عظمى تواجه الناتو وتدرأ خطره عن حدودها.
لم يكن الجنود الطرف الوحيد الذي علا صوته بانتقاد الوضع الراهن، بل دفع قرار التعبئة المتسرع الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين إلى رفضه بوضوح، وأصبحت كلمة الحرب متداولة أكثر من ذي قبل حتى داخل أروقة الكرملين، بدلا من تعبير عملية عسكرية خاصة، وتعالت المطالبات لوزارة الدفاع الروسية بكشف الحقائق والكف عن الادعاءات التي لم تعد تنطلي على أحد في الداخل والخارج، ولكن وبرغم وجود هكذا مناخ، هل يمكن أن نرى ملامح معارضة سياسية تتشكل إذا استمر نزيف الخسائر، وبعد تأكد رفض الروس للمشاركة في الحرب تارة بالاحتشاد على الحدود وتارة بالاختباء؟ هذا هو ما ستجيب عنه الشهور القادمة.