من بين أخطر النتائج المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية، أو بالأحرى التي يجب أن تترتب عليها، ضرورة إعادة النظر في طريقة تفكيرنا بالأسلحة النووية.
وفي هذا الصدد، قالت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية إنه لأول مرة في عصر الأسلحة النووية تهدد دولة صراحة باستخدامها لردع خصومها، وذا يؤشر بوضوح إلى أن العالم قد دخل عصر الدول النووية الشرسة.
توازن الردع النووي لا يعمل
وربما لا يُعد هذا الأمر مفاجئًا بالنسبة للمحللين السياسيين والمسئولين العسكريين، فهذا المفهوم يندرج تحت ما يُسمى مفارقة الاستقرار وعدم الاستقرار؛ فمن ناحية يوحي امتلاك عدة دول أسلحة نووية بأن هناك نوع من التوازن الدولي يمنع نشوب الحروب ويحقق قدرًا من الاستقرار العالمي، ومن ناحية أخرى فلأن خطر الحرب النووية مرعب للغاية تغدو الحروب التقليدية أكثر جدوى وأعلى احتمالًا، حين يصبح بمقدور دولة تمتلك أسلحة نووية أن تشن حربًا تقليدية وتتصور أن قدراتها النووية ستردع أي تدخل خارجي في الحرب، وهذا ما يحدث على أرض الواقع في أوكرانيا.
يخلق ذلك إشكالية عميقة تتعلق بالأمن الدولي؛ فهو أولًا ينطوي على ظلم بيّن، ويجب ألا يتأقلم العالم مع الوضع الراهن حيث يمكن لأي دولة تمتلك أسلحة نووية شن حروب تقليدية تقتل فيها عشرات الآلاف وتضم أراضي دول أخرى بالقوة وهي آمنة من المحاسبة فقط لمجرد أن ترسانتها النووية توفر لها حصانة وتمنع الآخرين من التدخل.
وثانيًا، فإن دعم أوكرانيا والدفاع عنها يرفعان احتمال نشوب حرب نووية؛ فحتى آخر لحظة قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ظل عدد من الخبراء والمحللين مصرين على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يغزو أوكرانيا، وها هو قد فعل، وهذا يعني أن تهديده باستخدام الأسلحة النووية يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، وخاصة إن استمرت هزائم وتراجعات الجيش الروسي على الأرض في أوكرانيا، ومن شأن ذلك كسر خط أحمر مقدس عمره 77 عامًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستخدام السلاح النووي لأول وآخر مرة، حتى الآن، وهو ما سيترتب عليه تحويل مجرى التاريخ وبكلفة مرعبة.
ومع ذلك، يمكن اعتبار أن الردع النووي لا يزال فعالًا، فالقدرات النووية الروسية وتهديدات بوتين تردع الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية تأجيل اختبار صاروخ مزود برأس نووي خشية اعتباره إشارة تصعيد، وهذا هو جوهر الردع النووي: أن يمنع الحروب الشاملة على غرار الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لكن ألا ينطوي هذا الردع أو التوازن على مخاطرة كبيرة؟ تبرهن الحرب الروسية الأوكرانية على أن الردع لا ينتج تأثيره كما يتصور معظمنا، فالعالم الآن أضحى مكانًا أخطر مما كنا نعتقد، وخطر الحرب النووية التي يمكن أن تفني مئات الملايين من البشر هو الآن في أعلى مستوى احتمالاته منذ عشرات السنين.
سيناريوهات الرعب النووي
وخلصت صحيفة "بوليتيكو" إلى أن هذه الحقيقة يجب أن تحفزنا لإعادة النظر في قيمة الأسلحة النووية، وطرحت 4 مسارات محتملة يمكن أن يسلكها العالم:
الأول، وهو الأكثر احتمالًا للأسف، أن يبقى الوضع على ما هو عليه ولكن في عالم مفعم بقدر أكبر من السخط وعدم الرضا؛ فقبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت الولايات المتحدة وروسيا والصين يطورون ويوسعون بالفعل ترساناتهم النووية، والآن يجادل بعض صناع القرار الأمريكيين بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى المزيد من الأسلحة النووية، ولكن إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك بالفعل أقوى ترسانة نووية في العالم ومع ذلك لم تستطع ردع روسيا عن غزو أوكرانيا، فما ستكون فائدة المزيد من الأسلحة النووية؟
المسار المحتمل الثاني هو أن دولًا مثل البرازيل وإيران والسعودية وكوريا الجنوبية وتركيا قد تحاول الحصول على أسلحة نووية، وهو ما سيؤدي إلى انهيار نظام منع انتشار الأسلحة النووية وتشجيع دول أخرى على دخول هذا السباق المميت، ومع تسلح المزيد من الدول نوويًا يصبح خطر نشوب الحروب النووية أعلى.
المسار الثالث هو محاولة تخليص العالم من "الدول المشاغبة" التي تهدد باستخدام الأسلحة النووية، ويؤيد دعاة هذا المسار تغيير الأنظمة الحاكمة في دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية من أجل تجنب الحروب التقليدية مثل تلك المشتعلة في أوكرانيا، لكن هذا بدوره قد يؤدي إلى كوارث يصعب التكهن بها، لأن الأنظمة الحاكمة في هذه الدول شديدة القوة.
وهكذا يبقى المسار المحتمل الرابع هو الأكثر تفاؤلًا وأدعى للأمن؛ وهو يقوم على إدراك أن الأسلحة النووية هي المشكلة، وبدلًا من خلق عالم مدجج بترسانات نووية أكبر أو تغيير الأنظمة المشاغبة التي تمتلك أسلحة نووية، فإن العالم بحاجة إلى تفكيك الأسلحة النووية، وهذا لن يحدث بسرعة، وسيتعين على العالم تطوير نظام أمني جديد ومستقر حقًا ليحل محل النظام الحالي المبني على الردع النووي.
نظام عالمي جديد بلا رعب الأسلحة النووية
وفي هذا الإطار يجب البدء بإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تتمتع الدول الخمس المسلحة نووياً - الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة - بحق النقض (الفيتو) على الجهود المبذولة لإنهاء النزاعات في جميع أنحاء العالم، فلا يمكن أن يكون هناك نظام أمان جديد حتى ينتهي هذا الترتيب.
وبالتوازي مع ذلك، يجب تفعيل جهود الحد من التسلح، ويشمل ذلك التوصل إلى اتفاقيات ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا لخفض الترسانات النووية، تتضمن قيودًا على الدفاعات الصاروخية بعيدة المدى، وإنجاز التصديق على اتفاقيتين دوليتين: معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية ومعاهدة وقف إنتاج المواد الانشطارية، وهي خطوة من شأنها أن تعرقل بشكل حاد البرنامج النووي الصيني، وبناء الدعم لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهي النجاح الوحيد المتحقق حتى الآن في المجال النووي.