لطالما ظلت عبارة "الحياة الأوروبية" ذات دلالة تحيل إلى معان تدور كلها حول الرفاهية والوفرة والثراء والتنعم، لكن يبدو أن الآية تنقلب والمفاهيم تتغير فيما يعود سكان أوروبا لاختبار حياة من الشح والتقشف لم يعرفها منهم سوى الطاعنين في السن ممن عاصروا الحرب العالمية الثانية على الأقل.
كورونا والحرب يزلزلان اقتصاد أوروبا
ووفقًا لوكالة "بلومبرج" الأمريكية، فحتى الآن لا تزال الصورة الذهنية للحياة الأوروبية مرتبطة بمفاهيم مثل عدد أقل نسبيًا لساعات العمل، والتنزه على الشواطئ، وانخفاض تكاليف المعيشة، وارتفاع متوسط العمر المتوقع.
لكن حقائق العصر الجديد تصفع الأوروبيين الآن بقوة ليفيقوا من هذا الحلم الوردي على واقع جديد مختلف مفعم بصور الندرة والتقشف، نتيجة أسباب كثيرة، في مقدمتها التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
وتلوح في الأفق صورة قاتمة لمستقبل قد يمتد في أكثر التقديرات تفاؤلًا لعدة سنوات، يعيش خلالها الأوروبيون في مستويات معيشة أدنى مما اعتادوا عليه في سنوات الرخاء، لا سيما في بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، فالقيمة الشرائية للأجور والرواتب تتراجع باستمرار بفعل التضخم وارتفاع الأسعار.
ويترك شح موارد الطاقة، التي هي عصب الحياة الحديثة، تأثيره على الحياة اليومية في صورة انقطاعات متكررة للكهرباء، والتناقص المتوقع لعدد ساعات عمل شبكات التدفئة خلال الشتاء المقبل بسبب صعوبة تأمين الغاز اللازم لتشغيلها، فضلًا عن تشغيل مختلف الأنشطة الاقتصادية.
وفيما تتدافع دول أوروبا لفرض عقوبات على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، وبشكل أساسي من خلال إنهاء الاعتماد على الغاز الروسي وتأمينه من مصادر بديله، لا يبدو أن أزمة الطاقة ستقتصر على أشهر الشتاء المقبلة فحسب.
فعلى الرغم من نجاح بعض دول أوروبا في تأمين مخزونات معتبرة من الغاز من مصادر بديلة لروسيا، تشير تقديرات جدية إلى أن معظم هذه المخزونات ستكو نقد استُنفدت بحلول مارس المقبل، وبعدها ستستمر أسعار الطاقة في الارتفاع مع بقاء المتاح من مواردها شحيحًا.
ويقدر خبراء اقتصاديون ببنك باركليز البريطاني أن اقتصاد منطقة اليورو سينكمش بنسبة 1.1% خلال العام المقبل، بينما يتوقع خبرء بمصرف دويتشه بنك الألماني انكماشه بنسبة 2.2%.
أزمة الطاقة تترك أوروبا مشلولة
وتتعرض قدرة أوروبا على احتواء التفاوت وعدم المساواة بين الأثرياء والفقراء لاختبار عسير، إذ يمثل الإنفاق على الغذاء والطاقة حصة من ميزانيات أفقر 20% من سكان أوروبا أكبر بكثير من مثيلتها لدى أغنى 20% من سكانها.
وخصصت حكومات أوروبا حزم مساعدات بقيمة إجمالية 500 مليار يورو، لامتصاص أثر صدمات التضخم على الأسر والشركات، ولكن هذا المبلغ على ضخامته الظاهرة قد يكون غير كاف لاحتواء الآثار المختلفة لارتفاع الأسعار ونقص الطاقة، ففي بلد مثل بريطانيا جاءت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية لتُضاف إلى آثار الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) وتخلق صعوبات مضاعفة للأسر والشركات، بما يضطر الحكومة البريطانية لإنفاق مبالغ أضخم لدعم المستهلكين وأصحاب الأعمال.
وفي ألمانيا، أجبرت تكاليف الطاقة المرتفعة شركة من بين كل 10 شركات عاملة في ألمانية على خفض حجم إنتاجها أو الاستغناء عن جزء من العمالة، وبدأت شركات ألمانية مثل "فولكس فاجن" تحويل الجزء الأكبر من نشاطها الإنتاجي إلى خارج ألمانيا، كما بدأت شركات غير ألمانية مثل شركة "تسلا" الأمريكية بتجميد خطط للاستثمار في ألمانيا.
الولايات المتحدة تستفيد من التعثر في أوروبا
وبعيدًا عن هذه الصورة القاتمة، تبدو الولايات المتحدة مستفيدة بشكل مباشر من هذا التعثر في أوروبا، فالعديد من الشركات الأوروبية وغير الأوروبية تنقل أنشطتها من القارة العجوز إلى الولايات المتحدة سعيًا إلى تكاليف أقل للطاقة، ومع أن الولايات المتحدة تعاني بدورها من التضخم، فإنها تظل مصدّرا صافيًا للطاقة، وفي يونيو الماضي صدرت ثلثي إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
وانخفض سعر اليورو أمام الدولار بنسبة 1% ليبلغ أدنى مستوى له منذ 20 عامًا، فيما انخفض سعر الجنيه الإسترليني بنسبة 2.1% أمام الدولار ليبلغ أدنى مستوى منذ 37 عامًا، وكان من نتيجة ذلك أن بدأ خبراء الاقتصاد والمصرفيين يركزون أحاديثهم على الفارق بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا.
وهبط الفرنك السويسري بنسبة أكثر من 1% أمام الدولار، بعد قرار البنك الوطني السويسري أمس الخميس رفع أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس، وهو القرار الذي اعتبره المستثمرون والمودعون السويسريون مخيبًا للآمال بعد أن توقعوا رفع أسعار الفائدة بمعدل أكبر لمجاراة الارتفاع المستمر في سعر الدولار، وحدث شيء مشابه في النرويج وعدة دول أوروبية أخرى، تتعامل بنوكها المركزية بحذر مع رفع أسعار الفائدة.
وكانت البنوك المركزية الأوروبية قد سبقت الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة وتطبيق سياسات نقدية انكماشية منذ أواخر العام الماضي، وهي الخطوات التي لم يقدم عليها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلا بدءًا من مارس الماضي، وكل ذلك بهدف تقليل المعروض النقدي في الأسواق أملًا في كبح التضخم ووقف ارتفاع الأسعار، لكن قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المتعاقبة رفع أسعار الفائدة (5 مرات حتى الآن منذ مارس) أوصلت سعر الفائدة في الولايات المتحدة إلى 3.25%، الأمر الذي أضاع ثمار جهود البنوك المركزية الأوروبية للحفاظ على قيمة عملاتها أمام الدولار.