يحتفل المصريون عيد شم النسيم هو من الأعياد الذي اجتمع عليها المصريون جميعا على اختلاف معتقداتهم مسلمين ومسيحيين.
أقدم مهرجان شعبي في التاريخ
وشم النسيم، هو أقدمُ مهرجان شعبي في التاريخ ابتكره المصري القديم منذ أكثر من 4700 عام، حيث بدأ الاحتفال به رسميًا منذ نهاية الأسرة الثالثة في عام 2700 قبل الميلاد ليحتفل بالحياة وعبقرية الخلق من العدم، فالمصريون القدامى كانوا أكثرَ شعوب الأرض حبًّا للحياة واحتفاءً بها، لهذا احتفلوا بالربيع، إذْ تتفتح الزهورُ لتعلن عن ميلاد جديد.
وتعلم المصري القديم أن يحدّد بداية السنة الشمسية باليوم الذي يتساوى فيه الليلُ والنهار طولًا، وقت حلول الشمس في برج الحمل، وكان المصريين القدماء يؤمنوا أن بداية خلق العالم كانت في ذلك اليوم الربيعي الفريد، 25 برمهات.
واعتبره المصريون غُرّة الربيع وأول الزمان ربطت المصادر والدراسات بين عيد شم النسيم والعقيدة المصرية القديمة، حيث ارتبط ذلك العيد في مصر القديمة، بفصل الحصاد "شمو" والذي يرمز للبعث وتجدد الحياة، وذلك وفقا للفلسفة الآزورية التي عرفها المصري القديم، وبمرور الزمن تغير هذا الاسم من "شمو" إلى "شم"، خاصة في العصر القبطي، ثم أضيفت إليه كلمة "النسيم" فأصبح شم النسيم.
وارتبط بعد ذلك عيد شم النسيم (عيد بدء الخلق عند المصريين القدماء) بـ عيد الفصح لدى اليهود، فعندما خرجوا من مصر في عهد النبي موسی علیه السلام، كان ذلك اليوم يصادف موعد احتفال المصريين ببدء الخلق وأول الربيع، واعتبروه رأسها لسنتهم الدينية، ثم انتقل الفصح بعد ذلك إلى المسيحية لموافقته موعد "قيامة السيد المسيح"، ولما انتشرت المسيحية في مصر أصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء.
بعد انتشار المسيحية في مصر حتى غطتها بالكامل في القرن الرابع، واجه المصريون مشكلة في الاحتفال بهذا العيد (شم النسيم)، إذ أنه كان يقع دائمًا داخل موسم الصوم الكبير المقدس الذي يسبق عيد القيامة المجيد، وفترة الصوم تتميَّز بالنُسك الشديد والاختلاء والعبادة العميقة، مع الامتناع طبعًا عن جميع الأطعمة التي من أصل حيواني.
كانت هناك صعوبة خلال فترة الصوم في الاحتفال بعيد الربيع، بما فيه من انطلاق ومرح وأفراح ومأكولات، لذلك رأى المصريون المسيحيون وقتها تأجيل الاحتفال بعيد الربيع (شم النسيم) إلى ما بعد فترة الصوم، واتفقوا على الاحتفال به في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد، والذي يأتي دائمًا يوم أحد، فيكون عيد شم النسيم يوم الاثنين التالي له.
ويقول الباحث المصري عصام ستاتي، الباحث في التراث واللغة المصرية القديمة، في كتابه: “شم النسيم، ”أساطير وتاريخ وعادات وطقوس" والصادر ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، إن شم النسيم، وعيد الربيع، والنيروز، والفصح، وعيد أدونيس، ورأس السنة البابلية، جميعها أسماء لعيد واحد.
أساطير وطقوس عيد شم النسيم
ووفقا لكتاب "شم النسيم.. أساطير وتاريخ وعادات وطقوس"، فقد انتقل عيد شم النسيم من مصر إلى ممالك العالم القديم بنفس الفلسفة الآزورية التي تعبر عن البعث وتجدد الحياة، حيث أخذت الأسطورة أشكالاً مـخـتـلـفـة للتعبير عن الحـصـاد، (إله يموت ثم يعيش فـتنتعش الدنيـا وتزدهر).
واتخذت الحضارات القديمة هذا العيد رأسا لسنتهم كما فعل المصريون القدماء، بأن اتخذوه رأسا لسنتهم غير الزراعية (سنتهم المدنية)، واعتبروه أيضاً بداية الخلق وأول الزمان، وأقاموا الاحتفالات والطقوس كما فعل المصريون، ومن بين تلك الحضارات التي انتقل إليها عيد شم النسيم البابلية، والفينقية، والفارسية.
ويقع شم النسيم وسط مـجـمـوعـة من الأعيـاد القبطية المسيحية ، فهو يقع مع أربعاء أيوب، وخميس العهد، والجمعة الكبيرة، وسبت النور وعيد القيامة.
أمَّا أحب الأطعمة التي كانت تمتلئ بها موائد المصريين في ذلك اليوم؛ فكان البيض والسمك المملح (الفسيخ) والبصل والخس والحمص الأخضر (الملانة) ولحم الأوز المشوي.
وكان البيض يرمز لخصب الطيور وموعد ظهور جيل جديد منه، في إشارة لنظرية بدء الخلق حيث اعتقدوا أن الكون بأكمله "انبثق من بيضة كبيرة" كما يحرج الكتكوت من البيضة، لذا فإن لاحتواء مائدة أعياد شم النسيم على البيض دلالة دينية مهمة ، لكنهم كانوا يقللون من أكله بعد فصل الربيع، لأنه بعد هذا الموعد يصبح "غير مقبول".
كما اعتادوا تجفيف السمك وتمليحه كما هو الحال اليوم، ويذكر (هيرودوت) أن المصريين كانوا يأكلون السمك ويجففون بعضه في الشمس ویأکلونه نیئا، ويحفظون بعضه الآخر في الملح، ولا شك أنه يقصد (الملوحة) أو (الفسيخ)، حيث كانوا يرون أن أكلها مفيد أثناء تغير الفصول.
أما البصل، فقد عثر على بعض النقوش التي تشير إلى تقديسه، إذ كانوا يعلقونه حول أعناقهم بخاصة في عيد (نتر يت)، الذي يقع مع عيد الربيع في "29 كيهك"، فيطوفون حول الدار البيضاء في منف تبرکا به.
شم البصل في صباح عيد النسيم
ومن العادات الشائعة لدى البعض حينها؛ أن يعلقوا البصل فوق أسرة نومهم ثم يشمونه في الصباح الباكر، ويعلقون حزما منه على أبواب دورهم اعتقادا منهم بأنه يطرد الأمراض.
كما اعتادوا أن يقربوا البصل من الطفل عند ولادته ليشمه، لما له من رائحة نفاذة، ومن ثم أصبح البصل تقلیدا يؤكل مع الفسيخ في عيد شم النسيم.
وكما كان شم النسيم في مصر القديمة، مناسبة لإقامة احتفالات ضخمة، وتبادل الورود، والتجمعات وولائم أكل السمك المملح "الفسيخ"، وغيره من الأطعمة التي ارتبطت بتلك المناسبة، فقد توارث المصريون الكثير من تلك المظاهر التي عرفتها مصر القديمة في الاحتفال بـ شم النسيم.
وبقيت تلك المظاهر باقية حتى اليوم، وفي مقدمتها الخروج للحدائق العامة، وشواطئ نهر النيل، وأكل "الفسيخ" وغير ذلك من الأطعمة والطقوس التي تشهدها مصر خلال الاحتفال بـ"شم النسيم" في كل عام منذ عهود الفراعنة وحتى اليوم.