هي إحدى رئتي كوكب الأرض، وإحدى أكثر المناطق تضررًا من التغير المناخي في آن واحد، إنها قارة أفريقيا، جنة الطبيعة والحياة البرية وكنز الموارد الطبيعية بكل تنوعها وغناها، والثروة التي يتعين علينا جميعًا التكاتف لصونها وحمايتها مما قد يلحق بها من كوارث المناخ.
ولكل مطلوب ثمن، وإذا كان مطلوبا الحفاظ على ما تبقى من الطبيعة في أفريقيا وسائر دول العالم، لا سيما تلك النامية والفقيرة، سليمة، فسيتعين بذل الأثمان المطلوبة لتطبيق حلول التكيف مع تغير المناخ والحد من آثاره.
أثمان التكيف وفجوات التمويل
يعد التكيف، أو الحد من تعرض البلدان والمجتمعات للتأثر بتغير المناخ من خلال زيادة قدرتها على استيعاب التأثيرات - ركيزة أساسية من ركائز اتفاق باريس بشأن تغير المناخ. ويتطلب الاتفاق من الموقعين عليه تنفيذ تدابير التكيف من خلال الخطط الوطنية وأنظمة المعلومات المناخية والإنذار المبكر والتدابير الوقائية والاستثمارات في مستقبل مراعٍ للبيئة.
ويخلص تقرير فجوة التكيف لعام 2020 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أنه في الوقت الذي أحرزت فيه الدول تقدماً بشأن التخطيط، إلا أنه لا تزال هناك فجوات ضخمة في التمويل للبلدان النامية والوصول بمشاريع التكيف إلى المرحلة التي توفر فيها حماية حقيقية من تأثيرات المناخ مثل الجفاف والفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحر.
قالت إنجر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، "نحن بحاجة إلى التزام عالمي لوضع نصف أموال التمويل المخصصة للمناخ العالمي في اتجاه التكيف في العام المقبل. سيسمح هذا باتخاذ خطوة كبيرة بشأن التكيف في كل شيء بدءاً من أنظمة الإنذار المبكر وموارد المياه المرنة وصولاً إلى الحلول القائمة على الطبيعة."
وتقدر تكاليف التكيف السنوية في البلدان النامية بنحو 70 مليار دولار أمريكي. ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى ما بين 140-300 مليار دولار أمريكي في عام 2030 وما بين 280-500 مليار دولار أمريكي في عام 2050.
وفي مقال له، كتب ديفيد مالباس رئيس مجموعة البنك الدولي “مازال 760 مليون شخص -يعيش كثير منهم في أفقر بلدان العالم ومسؤولون عن أقل من عشر الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة- محرومين من الطاقة. وهذه البلدان في حاجة إلى النمو والتنمية بخطى أسرع وعلى نحو منخفض الانبعاثات الكربونية وبطريقة تكفل الصمود في وجه الصدمات. وهي أيضا في حاجة إلى القيام باستثمارات كبيرة في أنشطة التكيف وإدارة المخاطر لأنها في الغالب أكثر البلدان تأثرا بالظواهر المناخية العاتية والكوارث الطبيعية”.
وأضاف مالباس "يتطلب العمل المناخي الانخراط في طائفة واسعة من الأنشطة منها دعم السياسات، وتهيئة بيئة داعمة للاستثمار، وإعداد وتصميم المشروعات، والأهم من ذلك كله، تمويل المشروعات. وهو يتطلب منحا مقابلة، وحيثما أمكن التمويل الهجين، مختلف أشكال رأس المال - التجاري والميسر والمنح- لتمويل المكون المناسب في كل مشروع."
وتابع "ومع حرص العالم على تعزيز تمويل العمل المناخي، من الضروري إعداد مشروعات عالية الأثر، ودراسة معايير التبادل بين مقدمي ومستخدمي رأس المال المناخي. وستكون الشراكات وجهود التنسيق، بما في ذلك من خلال البرامج القطرية، وإيجاد سبل مبتكرة لتجميع الموارد من المؤسسات والشركات الخاصة التي تتطلع إلى الوفاء بالتزاماتها بالوصول إلى صافي الانبعاثات إلى الصفر- ذات أهمية بالغة لتعزيز التمويل المتاح من أجل تحقيق نتائج فعالة."
أفريقيا وحلول اللحظات الأخيرة.. مبادرات فردية وحكومية
في عام 2015، أطلق زعماء الدول الأفريقية المبادرة الأفريقية للتكيف لضمان أن تتكيف القارة بشكل عاجل مع الآثار الضارة لتغير المناخ على المدى الفوري والقصير والمتوسط والطويل.
وبحسب موقع المبادرة، نمت الاقتصادات الأفريقية بمعدل 4.7% خلال العقد المنصرم، لكن التحدي المتمثل في تغير المناخ يهدد بعرقلة النمو الاقتصادي وإعاقة التقدم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إن الآثار المدمرة لتغير المناخ، والتي تشمل الجفاف الشديد والفيضانات وتناقص المحاصيل الزراعية وارتفاع مستوى سطح البحر والكوارث الأخرى المرتبطة بالمناخ آخذة في الازدياد. وبحلول عام 2050، بناءً على الاتجاهات الحالية للانبعاثات العالمية، يمكن أن تصل تكاليف التكيف في إفريقيا إلى 100 مليار دولار أمريكي سنويًا، وفقًا لتقدير برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وعلى الرغم من كونها مسؤولة عن حوالي 3 في المائة فقط من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، يقول الخبراء إن أفريقيا ستكون المنطقة الأكثر تضرراً من تغير المناخ، وفقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، حيث ترتفع درجة حرارة القارة بشكل أسرع من المتوسط العالمي ، والذي من المحتمل أن يؤدي إلى آثار مدمرة ، من هطول الأمطار الغزيرة إلى الجفاف إلى الفيضانات الساحلية.
ورصد برنامج الأمم المتحدة للبيئة عددًا من المبادرات الفردية والجماعية البسيطة والمركبة، الهادفة لمكافحة آثار التغير المناخي في عدد من دول قارة أفريقيا، ومن شأن تأمين التمويل والدعم اللازمين لها وللقائمين عليها أن يجعل منها خط دفاع متين يٌعتمد عليه.
ففي سيشل، يعكف الناشط المحلي فكتورين لابودالون على زراعة غابات أشجار المنجروف لصد زحف مياه البحر التي يرتفع منسوبها بإطراد، فجزر سيشيل، وهي دولة تتكون من 115 جزيرة قبالة الساحل الشرقي لأفريقيا، معرضة لارتفاع مستوى سطح البحر، لكن غابات المنجروف توفر أسوارًا بحرية طبيعية تعمل بمثابة حاجز ضد الفيضانات والعواصف.
وفي منطقة فاتوفافي فيتوفيناني بمدغشقر، أدى عدم انتظام هطول الأمطار والجفاف إلى انخفاض حاد في محاصيل الأرز. وبدعم من حكومة البلاد تحاول المزارعة فيفيان راكوتواريسوا وعائلتها التكيف مع سبل عيش أكثر مقاومة للجفاف. فعلى سبيل المثال، يعتبر الرامبو - أو البردي الرمادي - نباتًا مائيًا يتحمل الجفاف، ويحظى بشعبية كبيرة كمادة تدخل في صناعة النسيج، وتقول راكوتواريسوا إن التحول إلى زراعة الرامبو قد وفر دخلاً أكثر استقرارًا لعائلتها في ظل مناخ متغير.
ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة وإزالة الغابات إلى تجفيف التربة في جزر القمر وتحويل الغابات إلى صحار. ولمواجهة ذلك ، تساعد الحكومة المجتمعات المحلية على زراعة 1.4 مليون شجرة في موائل مستجمعات المياه، حيث تحبس الأشجار الرطوبة في الأرض وتمنع تآكل الأراضي الزراعية من خلال تقييد التربة، مما يساعد على تعزيز الأمن الغذائي.
وتُعد جيبوتي واحدة من العديد من البلدان الأفريقية المشاركة في السور الأخضر العظيم لأفريقيا، وهي خطة طموحة لاستعادة النظم البيئية على طول الحدود الجنوبية للصحراء الكبرى الأفريقية. وتهدف المبادرة إلى منع انتشار التصحر وما يترتب عليه من تدمير لإمدادات المياه وسبل العيش. وبمجرد اكتماله، من المتوقع أن يكون السور الأخضر العظيم أكبر هيكل حي على هذا الكوكب، ويهدف إلى خلق 10 ملايين فرصة عمل في المناطق الريفية بحلول عام 2030.
وفي مقاطعة الكيب الشرقية بجنوب إفريقيا، شرعت الحكومة في تجربة بيئية واسعة لاستعادة مساحات شاسعة من الأراضي المتدهورة عن طريق زراعة السبيكبوم، وهو نبات محلي. يساعد نبات السبيكبوم على زيادة تغلغل المياه في التربة، مما يعزز زيادة إمدادات المياه الجوفية وتقليل الفيضانات. كما يمتص النبات أيضًا ثاني أكسيد الكربون بشكل أسرع من معظم الأشجار الأخرى في الظروف الجافة.
وتُعد مالاوي ثالث أكبر منتج للشاي في أفريقيا، لكن الإنتاجية المتضائلة نتيجة لتغير المناخ أجبرت مزارعي الشاي أصحاب الحيازات الصغيرة على اللجوء إلى قطع الأشجار، وهذا بدوره يجعل زراعة الشاي أكثر صعوبة، فقطع الأشجار يسرع من التعرية ويزيل حاجزًا مهمًا ضد الفيضانات ويحرم المزارعين من مزايا تلقيح الحشرات. ويساعد مشروع مالاوي للتكيف مع المناظر الطبيعية للشاي السكان المحليين على استعادة الغابات والتدريب على المهن، مثل تربية النحل أو الصناعة اليدوية الأقل ضررًا من قطع الأشجار.
وفي شمال شرق غامبيا الذي يزداد جفافًا، أدى الجفاف والأمطار غير المنتظمة وارتفاع درجات الحرارة إلى جانب إزالة الغابات إلى تغذية التصحر. ولكن الآن، يهدف أحد أكبر مشاريع التنمية في تاريخ غامبيا إلى استعادة أكثر من 10000 هكتار من الأراضي وتحسين الأمن المائي. ويقول لامين ديبا، وزير البيئة في غامبيا، إنه يأمل ألا يدعم المشروع المزارعين فحسب، بل أن يوفر أيضًا 25000 وظيفة خضراء للمساعدة في توفير الفرص المحلية للشباب الذين يخاطرون بحياتهم في رحلات محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا.
تحركات مطلوبة على وجه السرعة
ورد في تقرير شاركت في إعداده وكالات متعددة بتنسيق من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، أن تغيّر أنماط هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وزيادة ظواهر الطقس المتطرفة، كل ذلك ساهم في تفاقم انعدام الأمن الغذائي والفقر والنزوح في أفريقيا في عام 2020، وبالتالي تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا.
وقال الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس في مقدمة التقرير، إنه "في عام 2020، اتسمت مؤشرات المناخ في أفريقيا باستمرار درجات الحرارة المرتفعة، وتسارع ارتفاع مستوى سطح البحر، وظواهر الطقس والمناخ المتطرفة، مثل الفيضانات والانهيارات الأرضية والجفاف، وما نجم عنها من آثار مدمرة. وينذر الانحسار السريع لآخر الأنهار الجليدية المتبقية في شرق أفريقيا، والتي يُتوقع أن تذوب كلياً في المستقبل القريب، بخطر حدوث تغيّر وشيك ولا رجعة فيه في نظام الأرض".
وأضاف تالاس أن "تعزيز القدرة على الصمود أمام تغيّر المناخ ضرورة ملحّة ومستمرة إلى جانب التعافي من جائحة كوفيد-19. وتوجد حاجة خاصة إلى الاستثمارات في تنمية القدرات ونقل التكنولوجيا، وفي تعزيز نظم الإنذار المبكر القائمة في البلدان، بما يشمل نظم رصد الطقس والمياه والمناخ".
وبدورها قالت جوزيفا ليونيل كوريا ساكو، مفوضة شؤون الزارعة والاقتصاد في المناطق الريفية بمفوضية الاتحاد الأفريقي، إن "في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، قد يزيد تغيّر المناخ من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 3% بحلول عام 2050، ويطرح ذلك تحدياً كبيراً أمام إجراءات مواجهة تغير المناخ والتكيف معه، لا لأن الظروف المادية ترداد سوءاً فحسب، بل لأن عدد المتضررين يزداد أيضاً".
ويقول المركز العالمي للتكيف إن تغير المناخ سيدفع 120 مليون شخص إلى الفقر المدقع بحلول عام 2030، وسيكون ثلثهم أفارقة إذا لم يتم فعل أي شيء للتخفيف من آثاره.
وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، قدرت الحكومات الأفريقية أنها بحاجة إلى 7.4 مليار دولار أمريكي على الأقل سنويًا بحلول عام 2020. وتتوقع أيضًا أنها ستحتاج إلى المزيد مع ازدياد حرارة العالم، حيث تصل الاحتياجات إلى عشرات المليارات من الدولارات سنويًا بحلول عام 2050.
وكشف المنتدى أن التمويل من الذي يستهدف التكيف بين عامي 2014 و2018 (16.5 مليار دولار) كان فقط حوالي نصف التمويل الهادف إلى تقليل الانبعاثات، والذي بلغ 30.6 مليار دولار أمريكي. ومع أن تمويل تقليل الانبعاثات مهم لأنه يعالج السبب الجذري لتغير المناخ، إلا أنه بالنسبة للبلدان الأفريقية التي تواجه بالفعل تأثيرات مناخية شديدة، فإن زيادة التمويل للتكيف أمر ملح.
وبشكل عام، فإن البلدان الأقل نموا هي أيضا الأكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ. وتعد النيجر والصومال وتشاد والسودان وليبيريا من بين أكثر البلدان ضعفا في العالم. ومع ذلك، فإنهم يتلقون أقل من 5 دولارات أمريكية للفرد سنويًا للتكيف مع تقلبات الطقس.
تولي الحكومات الأفريقية الأولوية لقطاعي الزراعة والصرف الصحي في خططها المناخية، ولكن يجب أيضًا أن تذهب الأموال إلى قطاعات مثل التعليم والصحة والتنوع البيولوجي وتحقيق المساواة بين الجنسين كهدف رئيسي، إذ يتمتع الأصحاء والمتعلمون بقدر أكبر من المرونة في مواجهة الصدمات المناخية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
ويكشف المنتدى الاقتصادي العالمي أنه تم تقديم التمويل المتعلق بالتكيف كقروض (57%) أكثر منه كمنح (42%)، وفوق ذلك يُنتظر من البلدان الفقيرة والمثقلة بالديون أن تسدد الأموال مقابل التكيف مع المخاطر المناخية التي لم تساهم في أسبابها سوى بأقل قدر.
وبصرف النظر عن العدالة المناخية، فإن التمويل القائم على المنح يتسم بمعدلات إنفاق أعلى من القروض. ويمكن أن يحدث تمويل التكيف فرقًا أكبر إذا تم تقديم المزيد منه في شكل منح.