قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق، إن الحج يتميز بمعان سامية وحكم شريفة عالية تدعونا للتأمل في أركانه وأفعاله، والنظر في نتائجه وآثاره.
وأضاف علي جمعة ، عبر صفحته الرسمية على فيس بوك ، أن أعمال الحج في الجملة تطهير للأبدان وتزكية للنفوس، موضحا أن أفعال الحج كلها تربية عملية على الطاعة التامة لله رب العالمين, والإخلاص في العبودية له، والامتثال لأمره.
وأشار علي جمعة، إلى أن أعمال الحج تشتمل على كثيرٍ من المعاني التي تسهم في بناء مجتمع إسلامي متكامل, ووحدة عضوية وروحية مترابطة.
وأوضح علي جمعة، أن من تلك المعاني العظيمة لأعمال الحج ما يلي:
(1) التجرد: فالحج ينأى بالإنسان عن هموم الحياة وتعلقه بها لتصفو نفسه وتسمو روحانيته فيزداد قربا من الله, وأولى خطوات هذا التجرد هي الإحرام, الذي يعني التجرد من كل ما سوى الله, وأسوتنا في هذا التجرد وذلك التعلق ما فعله وقاله أبو الأنبياء إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم:37].
والحاج في هذه الحالة من التجرد لله يتشبه بالملائكة في التجرد المحض للخير, قال الله تعالى فيهم: {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6] وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: «التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين, والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين, والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين; فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان, والمتجرد للشر شيطان, والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان» (الإحياء).
وعندما يكون المرء أقرب للملائكة ينبذ الرفث ويهجر الفسوق ويتزود بخير زاد, كما قال تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197], وقال رسول الله ﷺ: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (البخاري).
(2) المداومة بعض الوقت على أعمال الآخرة: ومظهر ذلك الذكر والتلبية ,فعندما يتجرد القلب لله يعرف القصد والغاية, فلا يقطعه عنه قاطع, ولا يشغله عنه شاغل, فيلهج لسانه بذكر الله عز وجل ودعائه وتلبيته, فلا نسمع إلا صدى التلبية وأصوات التكبير التي تبين أن هذه الأمة في حقيقتها إنما تكبر الله, وتستصغر كل شيء سواه, وتتحقق بذلك واقعا, فتبتهج الخلائق من حول الحجاج فتشدو أجمل الألحان وأصدقها: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك», ولذلك قال ﷺ: «ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا» (الترمذي)، وهذا الذكر يؤدي إلى شحن القلوب وغمرها بفيوض الإيمان, وإلى تقوية الصدور باليقين والتجرد لرب العالمين.
(3) التقاء الأرض بالسماء: ففي ظل هذه الروح العامرة بالذكر تلتقي الأرض بالسماء حين تقع عين المرء على الكعبة المشرفة ويعلم أن الدعاء عندها مطلوب ومستجاب; لقول رسول الله ﷺ: «الحجاج والعمار وفد الله, إن دعوه أجابهم, وإن استغفروه غفر لهم» (سنن ابن ماجه), قال المناوي: «وعند رؤية الكعبة يحتمل أن المراد أول ما يقع بصر القادم إليها عليها, ويحتمل أن المراد ما يشمل دوام مشاهدتها, فما دام إنسان ينظر إليها فباب السماء مفتوح والدعاء مستجاب, والأول أقرب» (فيض القدير).
وفي الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش وأيضا الطائفين حول البيت المعمور في السماء السابعة, وما القصد طواف الجسم, بل طواف القلب بذكر الرب سبحانه.
وفي التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت, وتبركا بالمماسة وبالإلحاح في طلب المغفرة.
وفي السعي بين الصفا والمروة مضاهاة تردد العبد بفناء الملك ذهابا ومجيئا إظهارا للخلوص في الخدمة, ورجاء للملاحظة بعين الرحمة, والتجاء إلى من بيده الضر والمنفعة.
(4) الشعور بالانتماء لأمة مترامية الأطراف مترابطة الأواصر: وذلك يوم وقوف الحجيج جميعا بعرفة في صعيدٍ واحد ووقتٍ واحد, ساعتها يدرك الإنسان أن تكاليف الشرع سهلة المنال; إذ السالكون والوافدون من كل فجٍ عميق, تحقيقا لوعد الله تعالى لخليله إبراهيم:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، وفي هذا تذكرة بيوم الحشر واجتماع الأمم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول، وفي ذكر ذلك إلزام القلب الضراعة والابتهال إلي الله عز وجل ورجاء الحشر في زمرة الفائزين، فالموقف مهيب وشريف، والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب النقية.
وفي هذا الموقف تتضح لنا قيمة الوحدة والتآلف والتراحم بين أفراد هذه الأمة التي هي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
(5) الفأل الحسن برفع الأذى: حيث نجد الحاج بعد رمي الجمرات والنحر والحلق أو التقصير في راحة نفسية كبيرة، استبشارا بأنه كما أزال عن جسده الدرن والأذى الجسماني، أن يمن الله عليه بالتخلص من درن الذنوب والخطايا والأذى النفساني.
(6) اقتران الشهادتين: ففي الحج أيضا صورة من صور اقتران شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، حين يهفو الحجيج إلى المدينة المنورة شوقًا لزيارة الحبيب المصطفى ﷺ، فهو من دلنا إلى الطريق المستقيم، وأرشدنا إلى ذلك الفضل العظيم، فزيارة المدينة النبوية لها شأن كبير في الدلالة على ارتباط الشهادتين، والاعتراف بالجميل لسيد الخلق وخاتم المرسلين ﷺ، على ما أسداه إلينا من معروف فكنا بفضل الله من المسلمين، وصدق من قال: فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ .