صباح أوائل أكتوبر من عام 2001، عقب ما يقرب من شهر للحدث الأهم في تاريخ الولايات المتحدة، 11 سبتمبر 2001، تلقت حركة طالبان الباكستانية برقية من وزير الخارجية الأمريكي كولن باول إلى مبعوثه في باكستان عبر وسطاء باكستانيين، قال فيها: "توقفوا عن إيواء القاعدة وإلا".
وصلت هذه الرسالة التي وجهتها السفيرة الأمريكية في باكستان ويندي تشامبرلين إلى زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر، قبل أيام قليلة من الغزو الأمريكي لأفغانستان، وسط مخاوف من تخطيط تنظيم القاعدة لمزيد من الهجمات الإرهابية على الأراضي الأمريكية بعد 11 سبتمبر.
وجاء في هذه البرقية: "طالبان مسؤولة شخصيا عن أي من هذه الأعمال، كما سيتم تدمير كل عمود من أركان نظام طالبان".
والآن، بعد عقدين من الزمن، تقترب الحرب الأمريكية في أفغانستان من نهايتها، حيث حركة طالبان، التي هددتها واشنطن ذات يوم بشكل صريح بالإبادة الكاملة، أصبحت قوية أكثر من أي وقت مضى، حيث سيطرت على ما يقدر بنحو 188 منطقة من مناطق أفغانستان البالغ عددها 407، وفق تقرير نشرته "فورين بوليسي" الأمريكية.
فرت بعض القوات الحكومية الأفغانية من البلاد هربا من تقدم طالبان، وبحثا عن ملاذ في طاجيكستان وأوزبكستان المجاورتين. ووسط الانسحاب، يستولي التنظيم المتشدد على حاويات مليئة بالأسلحة والمعدات العسكرية التي خلفتها القوات الأفغانية، في مشاهد يقارن بعض الخبراء بها مع انسحاب القوات العراقية أمام تنظيم داعش الإرهاربي في عام 2014 الذي عجل بصعود دولة داعش الإرهابية.
ووفقا لقادة عسكريين أمريكيين فإن شبح الحرب الأهلية، إن لم يكن استيلاء طالبان التام على البلاد والإطاحة بحكومة كابول، قد يلوح في الأفق.
وتظهر المقابلات مع أكثر من عشرة من المسؤولين الأمريكيين والأفغان وغيرهم من الخبراء الإقليميين أن مجتمع صنع السياسات في أفغانستان لا يزال ممزقا بشأن ما إذا كان بإمكان طالبان السيطرة على البلد بأكمله، بما في ذلك العاصمة شديدة التحصين كابول، أو السيطرة على المقاطعات التي كانت محتلة من قبل.
يتفق الجميع على أنه على الرغم من حالة التفاؤل من الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته بشأن محادثات السلام الأفغانية، فإن الزخم داخل طالبان يتزايد، حيث تواجه الحركة تحدياتها الخاصة، وهي: حجم الدماء الكبير التي يجب إنفاقها من أجل الدفعة الأخيرة بعد عقدين من القتال المستمر، وكيفية الموازنة بين المعتدلين والمتشددين، والأهم من ذلك، المستقبل الذي يتخيلونه للبلد عندما يتوقف القتال.
ومع تحول ساحة المعركة نحو القتال التقليدي بعيدا عن حرب العصابات، قد تواجه الجماعة المسلحة مقاومة شرسة في شن هجمات مباشرة على المدن الكبرى التي ستحتاجها لاستعادة السيطرة الكاملة على البلاد. وتساءل بعض الخبراء عن أي مدى سيكون الشعب الأفغاني، ومجندي طالبان المحتملين، على استعداد لهذا الأمر.
وقالت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إن طالبان أظهرت مرونة ملحوظة، بعد عقدين من عمليات مكافحة التمرد المكلفة ومشاريع بناء الدولة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، حيث حشدت قوتها القتالية، التي يبلغ عددها الآن ما بين 55000 و 85000 مقاتل بدوام كامل وفقا لتقديرات الخبراء، وعملت على صقل أوراق اعتمادها الدولية في الخارج في الوقت الذي تحاول فيه تصوير نفسها على أنها قوة دبلوماسية جادة في أفغانستان، مع الحفاظ على الوحدة.
وقالت ليزا كيرتس، مسؤولة كبيرة سابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي والتي أشرفت على جنوب آسيا تحت إدارة دونالد ترامب: "يبدو أنهم يسيطرون على القادة على الأرض".
وأشارت إلى حقيقة أنه عندما وافق مفاوضو طالبان على وقف إطلاق نار مع الحكومة الأفغانية من قبل، استمع قادتهم على الأرض إليهم وأوقفوا القتال.
وذكرت المجلة أن طالبان أكثر توحيدا، حيث لديهم قيادة وتحكم أفضل مما نعطيهم الفضل في كثير من الأحيان.
قال أحمد شجاع جمال، خبير الشئون الدولية إلى "فورين بوليسي": "الشيء المهم بالنسبة لطالبان هو أنهم لم يفكروا كثيرا في النظام الذي يريدونه بالفعل بعد التسوية أو بعد ما يبدو أنه استراتيجيتهم للاستيلاء العسكري".
وأضاف أن هذه هي مشكلة طالبان، لأنها يمكن أن تسلط الضوء على الانقسامات الموجودة في طالبان، والتي من السهل جدا رؤيتها.
لا تزال قيادة طالبان محددة بجذورها في ولاية قندهار بجنوب أفغانستان بعد خروج الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، ولا يزال القادة المقربون من مؤسس طالبان الراحل، بما في ذلك ابنه الملا محمد يعقوب وكبير المفاوضين الملا عبد الغني بردار، يتمتعون بالأولوية على فصائل مثل شبكة حقاني التي تتخذ من باكستان مقرا لها، والتي انضمت إلى الحركة فيما بعد، وظلت مميزة من الناحية التشغيلية.
وأشارت إلى أنه أحد العوامل الرئيسية حول ما إذا كانت المجموعة ستبقى موحدة أم لا، أن الانقسام سيكون على الجبهة الدبلوماسية.
وكانت المفاوضات بين الحكومة الأفغانية وطالبان في العاصمة القطرية الدوحة توقفت بشكل فعال حيث حقق ذراع طالبان العسكري مكاسب كاسحة في هجماته العسكرية، وخاصة شمال أفغانستان.
ويرى معظم الخبراء أن هذا جزء من استراتيجية متماسكة من جانب طالبان، وهي تعتمد على جر القوات الحكومية إلى محادثات السلام مع تعزيز مكاسبهم على الأرض.
وقال كورتيس، الخبير في مركز الأمن الأمريكي الجديد: "على الرغم من أنه لا يزال يتواجد مفاوضون من طالبان في الدوحة، إلا أنهم على الأرجح يسعون فقط لكسب الوقت بينما تحقق قوات طالبان مكاسبها على الأرض"، مضيفا: "أعتقد أنها استراتيجية جيدة التنسيق للغاية بالنسبة لطالبان، وهي تظاهرهم بأنهم مهتمون بالسلام، وفي الناحية الأخرى يواصلون لقتال على الأرض".
وفي إيجاز صحفي يوم الثلاثاء الماضي، لم يتطرق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس بشكل مباشر لـ المكاسب السريعة التي حققتها طالبان في الأسابيع الأخيرة، لكنه ضاعف من الدعوات الأمريكية لإجراء محادثات سلام.
وقال برايس: "نواصل حث جميع الأطراف على الانخراط في مفاوضات جادة لتحديد خريطة طريق سياسية تؤدي إلى تسوية سياسية عادلة ودائمة، لن يقبل العالم بفرض حكومة بالقوة في أفغانستان".
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أنه إذا تباطأ هجوم طالبان، أو لم يتمكنوا من الإطاحة بالحكومة الأفغانية، يعتقد بعض الخبراء أن الفصائل الأكثر اعتدالا في طالبان ستضغط من أجل اتفاق سلام بينما ستدعو العناصر المتشددة إلى مواصلة القتال.
قال مايكل كوجلمان، الخبير في شؤون جنوب آسيا في ويلسون: "المثير للدهشة أن الرسائل العامة من القيادة العليا لطالبان، وخاصة المكتب السياسي في الدوحة، تتناقض بشدة مع الرسائل القادمة من قادة ساحة المعركة".
وذكرت "فورين بوليسي" أن القادة العسكريين في طالبان أجروا مقابلات قائلين إنهم مستعدون فعليا للتخلي عن محادثات السلام، وغزو أفغانستان بينما يخبر المفاوضون وسائل الإعلام الأجنبية أن هذه الهجمات ستقوي موقفهم في الجولات المستقبلية من محادثات السلام.
وقال كوجلمان: "السؤال هو من سيفوز بهذه الحجة؟، حيث من الصعب تحديد الأمر في هذه المرحلة".
وبينما تحقق طالبان مكاسب على الأرض في أفغانستان، فإنها تعمل أيضا على تلميع صورتها الدولية، حيث تتنافس القوى الإقليمية على النفوذ في البلاد بعد انسحاب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو".
وقالت شهرزاد أكبر، رئيسة لجنة حقوق الإنسان المستقلة في أفغانستان: "لقد طرحوا بيانات لطيفة باللغة الإنجليزية حول احترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة، لكننا لم نتمكن بعد من رؤيتها قيد التنفيذ".
وأضافت: "الطريقة التي يتكشف بها الوضع الأمني، للأسف، من المحتمل جدا حدوث أزمة في حقوق الإنسان ما لم يكن هناك اهتمام وتدخل".
ومع ذلك، تواصل حركة طالبان محاولتها الهجوم الدبلوماسي ذا التأثير على المسرح الدولي.