في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا مسرحاً رئيسياً للصراعات الدولية، تحولت منصة "تيك توك" الشهيرة إلى نقطة إشتعال جديدة في التوتر المستمر والمزمن بين الولايات المتحدة والصين.
التطبيق الذي بدأ كوسيلة ترفيهية لمشاركة مقاطع الفيديو القصيرة، أصبح اليوم محور نقاش سياسي، أمني، وإقتصادي بين أكبر قوتين في العالم. يُعد تطبيق "تيك توك" أحد أبرز منصات التواصل الإجتماعي عالمياً، إلا أن ملكيته الصينية تسببت في توترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث تتهم واشنطن التطبيق بتهديد أمنها القومي بسبب جمعه لبيانات المستخدمين ، بينما تعتبر بكين ذلك إستهدافًا سياسياً.
الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ سنوات، تنظر بعين الشك إلى تطبيق "تيك توك"، بإعتباره منصة مملوكة لشركة "بايت دانس" الصينية، وتخشى من أن تستخدمه الحكومة الصينية كوسيلة لجمع بيانات عن المواطنين الأمريكيين، أو التأثير على الرأي العام، خصوصًا بين فئة الشباب. بينما على الجانب الأخر، تعتبر الحكومة الصينية الضغوط الأمريكية على تطبيق "تيك توك" بمثابة "قمع" للشركات الأجنبية، واصفةً ذلك بـ "التلاعب السياسي"، وأشارت إلى أن الولايات المتحدة تستغل مفهوم الأمن القومي كذريعة لمهاجمة شركات التكنولوجيا الصينية دون تقديم أدلة ملموسة.
المخاوف الأمريكية تصاعدت بشكل حاد خلال عام 2024، حين أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يُمهل "بايت دانس" ستة أشهر لبيع التطبيق لشركة أمريكية أو مواجهة الحظر الكامل داخل البلاد. الدعم لهذا القانون جاء من الحزبين الجمهورى والديمقراطى معاً، وهو ما يعكس إجماعاً نادراً في السياسة الأمريكية بشأن التهديدات القادمة من الصين.
الصين، بدورها، لم تقف مكتوفة الأيدي. فقد وصفت الإجراء الأمريكي بأنه "إبتزاز سياسي" و"تضييق على التكنولوجيا الصينية تحت ذرائع واهية"، كما حذّرت وزارة الخارجية الصينية من أن هذا النوع من التصعيد قد يضر بثقة الشركات الأجنبية في بيئة الأعمال الأمريكية، ومن غير المستبعد أن ترد الصين بإجراءات مقابلة، سواء ضد شركات تكنولوجية أمريكية تنشط داخل أراضيها، أو عبر تعزيز دعمها للتطبيقات المحلية وتوسيع نفوذها الرقمي في الأسواق الناشئة.
القضية لا تتعلق فقط ببيانات المستخدمين أو مخاطر الإختراق السيبراني، بل ترتبط بصراع أعمق حول من يضع قواعد اللعبة في العالم الرقمي؟ ومن يسيطر على سلوك الجيل الجديد عبر المنصات الإلكترونية؟ الولايات المتحدة ترى أن بسط الصين سيطرتها على منصات رقمية عالمية قد يمنحها قوة ناعمة غير مسبوقة. أما الصين، فترى أن الإجراءات الأمريكية تمثل إستهدافاً غير مبرر لشركاتها وأن ما يحدث هو محاولة أمريكية واضحة لعرقلة صعودها التكنولوجي لفرض الهيمنة الأمريكية الرقمية على العالم تماماً كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً وفرضت ولا تزال تفرض هيمنتها على مجمل الإقتصاد العالمى.
المستقبل القريب قد يحمل سيناريوهات عدة. في حال فُرض الحظر على "تيك توك"، قد نرى تحركات قانونية من الشركة أو حتى إحتجاجات من المستخدمين الأمريكيين الذين يتجاوز عددهم 150 مليون مستخدم. أما في حال تم بيع التطبيق لشركة أمريكية، فستبقى التساؤلات قائمة حول حُرية السوق وإستقلالية الشركات في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا مع السيادة، حيث تتداخل قضايا الأمن القومي مع التنافس الجيوسياسي.
على الرغم من أهمية حماية البيانات الشخصية وخصوصية المستخدمين، إلا أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين يعكس أكثر من مجرد مخاوف أمنية. إنه صراع على القوة الرقمية، حيث تسعى كل دولة لإرساء معاييرها الخاصة بها في عالم الإنترنت. وإذا إستمر الوضع على هذا المنوال، فقد نشهد تحول الإنترنت من شبكة عالمية مفتوحة إلى "شبكات محلية" تتنافس على المستوى العالمي، مما قد يغير قواعد اللعبة الإقتصادية والإجتماعية في المستقبل.
التكنولوجيا يجب أن تكون وسيلة لتعزيز التعاون الدولي، لا أن تكون أداة لتقسيم العالم إلى معسكرات متناحرة. ومع ذلك، فإن سياسة "المنع" أو "التفكيك" ليست دائمًا هي الحل الأفضل، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الأمور بدلاً من معالجتها. قد يكون الحوار الدولي والتنظيم المشترك هو الطريق الأمثل لتجنب التصعيد وضمان إستدامة الإستخدام العادل والأمن للتكنولوجيا في عالمنا المتشابك.
"تيك توك" لم يعد مجرد تطبيق، بل إنه أصبح رمزاً لصراع عالمي تدور رحاه في السحاب، لكنه يُترجم على أرض الواقع في قاعات المحاكم، وغرف التشريع، وبين أيدي ملايين المستخدمين حول العالم. إنه تذكير بأن التكنولوجيا رغم بساطتها الظاهرة، فإنها قد تحمل في طياتها أعقد القضايا الجيوسياسية لعصرنا الرقمي. في رأيي، أزمة "تيك توك" هي مجرد حلقة في سلسلة أكبر من الصراعات الجيوسياسية التي تتخذ من التكنولوجيا ساحة لها. من الواضح أن البرامج والتطبيقات التكنولوجية لم تعد مجرد أدوات تُستخدم لتسهيل الحياة اليومية، بل إنها أصبحت محركاً رئيسياً للنفوذ الدولي، وتُستخدم لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية.
ومن خلال التحليل الحالي للمواقف من الجانبين، يبدو أن أزمة "تيك توك" بين الولايات المتحدة والصين قد تنتهي بعدة سيناريوهات، وكل واحد منها يحمل تداعياته الخاصة. لكن بناءً على المعطيات والإتجاهات الحالية، يمكنني تصور ثلاث إحتمالات رئيسية:
الإحتمال الأول:- صفقة مع شركة أمريكية
قد تجد "بايت دانس" نفسها مجبرة على بيع "تيك توك" لشركة أمريكية كبيرة، مثل "مايكروسوفت" أو "أمازون" أو "أوراكل"، كما طُرح في بعض التسريبات. هذا السيناريو سيتيح للتطبيق البقاء في الولايات المتحدة مع ضمان تخفيف القلق الأمريكي بشأن الأمن القومى وخصوصية بيانات المستخدمين. وفي المقابل، سيمنح "بايت دانس" القدرة على الإحتفاظ بحصة من السوق العالمية بدون التورط في التوترات السياسية مع واشنطن. إلا أن هذا السيناريو قد يفتح الباب لمزيد من الرقابة الأمريكية على التطبيقات الصينية في المستقبل، مما يهدد نمو شركات التكنولوجية الصينية في الأسواق الغربية.
الإحتمال الثانى:- الحظر الكامل
هناك إحتمال كبير أن تستمر الضغوط الأمريكية على "تيك توك" حتى يتم فرض حظر شامل على التطبيق في الولايات المتحدة. هذا قد يتسبب في خسائر كبيرة لشركة "بايت دانس" في السوق الأمريكي، مما سيؤدي إلى تأثر أرباحها بشكل كبير. من جانب آخر، سيكون لذلك تأثير مدمر على مستخدمي التطبيق في أمريكا، الذين يشكلون جزءاً كبيراً من قاعدة المستخدمين العالمية. لكن الحظر سيزيد من تصاعد التوترات الجيوسياسية وقد ينعكس سلبًا على الشركات الأمريكية في الأسواق الصينية، مما يؤدي إلى دوامة من العقوبات المتبادلة.
الإحتمال الثالث:- الحل الدبلوماسي والتنظيم الدولي
قد تجد الدول الكبرى في نهاية المطاف أن التصعيد على مستوى الحظر أو التفكيك ليس الحل الأنسب على المدى الطويل. في هذا السيناريو، قد يتم إنشاء إتفاق دولي لتوحيد المعايير الأمنية المتعلقة بجمع البيانات وحمايتها في عصر الإنترنت، مع إمكانية تشكيل هيئة تنظيمية مستقلة تدير هذه القضايا بشكل محايد. وهذا قد يسمح لتطبيقات مثل "تيك توك" بمواصلة العمل ضمن إطار من الشفافية والمساءلة، ما يعزز الثقة بين الدول. هذا الحل قد يكون الأكثر إستدامه، لكنه يتطلب إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف.
من المتوقع أن تتراوح الأزمة بين هذه السيناريوهات المختلفة، وقد تنتهي إما بتسوية سياسية أو من خلال التدابير القانونية التي قد تتغير مع مرور الوقت. لكن ما يبدو واضحًا هو أن التكنولوجيا أصبحت جزءاً أساسياً من الصراع العالمي بين القوى العظمى أكثر من أي وقت مضى، وأن الحلول الدبلوماسية ستكون دائماً الأكثر تأثيراً على المدى الطويل.
في النهاية، لا يمكن القول أن أحد الأطراف سينتصر بشكل مطلق. قد تحقق كل من الولايات المتحدة والصين مكاسب جزئية، لكن الصراع سيستمر في تطوراته المستقبلية، وقد يمتد ليشمل مسائل أوسع مثل السيادة الرقمية والتنافس في مجال الذكاء الاصطناعي. قد يكون الحل الأمثل برأى هو إتفاق دبلوماسي يؤدي إلى توازن، ولكن من المؤكد أن الأزمة ستُظهر للعالم كيف أن التكنولوجيا أصبحت ساحة تنافس جيوسياسي حاسمة في عصرنا الحالي. وإذا كان يجب تحديد "من سينتصر"، يمكن القول إن الطرف الذي سيحقق "الإنتصار" الأكبر هو الذي سيكون قادرًا على التكيف مع التغيرات السريعة في السياسة الدولية وتكنولوجيا المعلومات، وليس بالضرورة من يفرض إرادته بالقوة في هذه المعركة.