يُعد الفيلسوف الألماني كارل ياسبرس واحدًا من أبرز المفكرين الذين تناولوا قضية المسؤولية الأخلاقية بعد الحرب العالمية الثانية.
فقد شهد صعود النازية وتداعياتها الكارثية، ولم يكن مجرد مراقب صامت، بل واجه تلك الحقبة بأفكاره الفلسفية العميقة التي ما زالت تُناقش حتى اليوم. ورغم أنه لم يكن ناشطًا سياسيًا، إلا أن كتاباته حملت نقدًا مبطنًا للاستبداد، خاصة فيما يتعلق بالقمع الفكري وإنكار الحريات الفردية.
منذ البداية، كان ياسبرس معارضًا للأيديولوجيا النازية، التي رآها قائمة على التلاعب بالجماهير واستخدام العنف المنهجي. لم يكن من الممكن أن يعبّر عن آرائه علنًا في ظل نظام قمعي، لكنه دفع ثمن مواقفه حين أُجبر على التقاعد من جامعة هايدلبرغ عام 1937. زواجه من امرأة يهودية جعل وضعه أكثر خطورة، حيث كان معرّضًا للاضطهاد وربما الاعتقال، ومع ذلك، لم يتخلَ عن قناعاته، بل ظل متمسكًا بمبادئه حتى انهيار النظام النازي.
بعد سقوط النازية، انشغل ياسبرس بالسؤال الأخلاقي حول مسؤولية الألمان عما حدث. في عام 1946، نشر كتابه الشهير “مسألة الذنب”، حيث قدّم تحليلًا عميقًا لفكرة الذنب والمسؤولية الجماعية. لم يكن هدفه إدانة المجتمع الألماني بقدر ما كان يسعى إلى دفعه لمواجهة الحقائق والاعتراف بالأخطاء من أجل بناء مستقبل أكثر إنسانية. اعتبر أن هناك مستويات مختلفة من الذنب، تبدأ بالمسؤولية القانونية لمن ارتكبوا الجرائم، لكنها تمتد أيضًا إلى المسؤولية الأخلاقية لأولئك الذين سكتوا أو تغاضوا عن الجرائم التي ارتكبها النظام النازي.
أثار هذا الطرح جدلًا واسعًا في ألمانيا، حيث لم يكن الجميع مستعدًا لمواجهة الماضي بهذه الصراحة. ورغم ذلك، أصر ياسبرس على أن الاعتراف بالمسؤولية هو الخطوة الأولى نحو التعافي الوطني. وقد لعب دورًا محوريًا في إعادة بناء الفكر الفلسفي والسياسي في ألمانيا بعد الحرب، حيث دعا إلى التمسك بالديمقراطية والحرية كقيم أساسية لمستقبل البلاد.