كانت سيارتي معطلة ذلك الصباح، فقررتُ أن أستقل المواصلات العامة للوصول إلى عملي. لم أكن معتادًا على هذا، لكنه بدا كخيار اضطراري. عند أول محطة، وجدت سائقًا بسيطًا، يقود سيارة قديمة بعض الشيء، وعرض أن يقلّني مباشرة إلى المعادي. كان هذا أفضل من التنقل عبر أربع مواصلات مختلفة، فركبت معه شاكرًا.
مع انطلاقنا، بدأ بتحميل ركاب آخرين متجهين إلى التجمع. شعرت بالضيق، فقد وعدني برحلة مباشرة، لكنه اعتذر بأدب شديد، مبررًا أن الحياة أصبحت صعبة، وأنه بحاجة لزيادة دخله بأي طريقة. كان حديثه هادئًا، صادقًا، لدرجة أنني لم أجد في نفسي القدرة على الاعتراض. شيء في نبرته حمل ثقل الأيام، وكأنها تنساب بين كلماته، تتحدث دون تصريح.
بعد أن أنزل الركاب في وجهتهم، دعاني للجلوس بجانبه. كان رجلاً في منتصف العمر، قسمات وجهه تحكي قصصًا لم يروها بعد، وعيناه تحملان شيئًا من الإرهاق الممزوج بالإصرار. بدأ يحكي عن حياته؛ لديه أربع بنات، يعمل ليلًا ونهارًا ليؤمّن لهن حياة كريمة. قالها بنبرة فخر رغم التعب الذي يتخلل صوته. لم يشتكِ بقدر ما كان يبوح، وكأنه يبحث عن مساحة في هذا العالم الصاخب ليُسمع.
في منتصف الطريق، قاطعتنا سيارة مسرعة، وصاح أحد الركاب في وجهه بعصبية: " يالله يا أسطى، سرع شوية مش فاضيين " نظر إليه عبر المرآة، ثم زاد السرعة قليلًا وقال بصوت هادئ لكن حاسم : "حقك عليّ ، آسف لو أخرتك"
ثم التفت إليّ، أخرج بطاقته ومدّها لي بصمت. نظرت إليها، كان مكتوبًا في ظهرها: "مهندس ميكانيكا". رفع عينيه نحوي وقال بصوت بالكاد سمعته: "أنا مهندس ميكانيكا حُر ، لكن الظروف أقوى من الجميع و الرزق بأيد ربنا ، وأي شغل بالحلال فيه كرامة."
كانت لحظة صمت ثقيلة. شعرتُ بالصدمة، ليس فقط لأنني لم أتوقع ذلك، بل لأنني أدركت كم كنت متسرعًا في افتراضاتي عنه. كم من الأشخاص نراهم كل يوم، فنظن أننا نعرفهم، بينما يحمل كل منهم قصة لا تشبه الأخرى؟ نظرت إليه باحترام جديد، ورأيت فيه إنسانًا يصارع الحياة بشرف.
في نهاية الرحلة، نزلت وأنا أشعر أنني تعلمت درسًا لن أنساه : لا تحكم على كتاب من غلافه، ولا على إنسان من مهنته، فخلف كل وجه قصة، وخلف كل قصة كفاح لا نراه. رأيت في عينيه حكايات لم تحكَ بعد، نظراته كانت تحمل صمتًا مثقلًا بالهموم، لكنه لم يكن مجرد استسلام، بل كان صبرًا محمّلًا بالإرادة. وبينما كنت أبتعد، رأيت انعكاس صورته على نافذة السيارة، لم يعد مجرد سائق، بل صار رمزًا لصراع الإنسان مع الحياة، و لكرامة لم تنحنِ رغم قسوة الظروف ، لعزيمة تأبى أن تنهار رغم كل شيء. شعرت لحظتها بأن العالم مليء بقصص كهذه ، قصص تمر بجوارنا كل يوم دون أن نلتفت إليها، لكنها تستحق أن تُروى.