على امتداد ربوع مصر تناثرت آلاف الأضرحة والمقامات على جغرافيا الواقع المصري، فلا توجد قرية مصرية إلا وبها مقام أو أكثر لأولياء الله الصالحين، ويوميا لا تخلو محافظة أو مدينة من مولد يجدد لغة الوصل بين البشر وموروثهم الروحي والدينى في قالب كرنفالى.
ومنذ أيام قليلة تم الاِحتفال بمولد سيدي أبي الحجاج الأقصري وسيدي عبد الرحيم القناوي بصعيد مصر، وقبلهما تم الاِحتفال بمولد عقيلة آل البيت السيدة زينب.
وما بين المقدس والدنيوي جاءت عادة الاِحتفال بما يطلق عليه في الثقافة الشعبية المصرية اسم الموالد، وهو موروث شعبي شديد الخصوصية لدى المصريين دون غيرهم من شعوب العالم.
ولا تقتصر الموالد على ديانة واحدة فتذوب فيها كل الأديان ، فالمسيحي يحرص على زيارة أولياء الله المسلمين تَبَرُّكًا و تيمُّنًا ، والمسلم يزور القديسين حبا وكرامة وأشهر تلك الموالد، موالد ستنا العذراء والسيدة زينب والسيدة نفسية والإمام الحسين والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي ومارجرجس ومارمينا.
وقد تأصلت في مصر عادة الموالد الشعبية قبل الدولة الفاطمية، التي تنسب إليها بوصفها اِمتدادا حضاريًّا مشابه الطقوس للاِحتفالات الدينية منذ عهد ملوك فراعنة الدولة المصرية القديمة.
حيث كانت الاِحتفالات الدينية تقترن بتقديم النذور والقرابين، تمجيدا وتضرعاً للآلهة صاحبة الخوارق والمعجزات، وهي تشبه إلى حد كبير الكرمات التي يتحدث عنها المحتفلون حاليا، ويتم ذلك في طقس اِحتفاليّ مبهج يقدم فيها الطعام والشراب، ومشاهد غنائية سجلتها جدران المعابد الفرعونية.
ثم مُرُورًا بقديسين عصر الشهداء المسيحيين الأوائل بمصر الرومانية، وصولا إلى تقليد موالد الأولياء الصالحين في مصر الإسلامية، التي لا يزال المريدون يرتحلون خلف تجلياتهم في طول البلاد وعرضها علهم يحظون بجانب من بركاتهم.
وأصبحت الموالد جزءاً لا يتجزأ من التراث المصري، فالولي أوالقديس حى في الفكر الجمعي رغم رحيله، وتحول إلى رمز ديني يطلقون عليه صاحب كرامات، تلك الكرامات التي يستمدون منها الأمل في الغلبة على العجز والمرض وكافة أشكال الصعاب والتحديات باعتباره حلقة وصل بين السماء والأرض.
فالكثير من العامة يعتقدون أن هناك مسافة كبيرة تفصلهم عن المولى عز وجل، ولا بدّ من البحث عن شفيع يتوسلون به إلى الله لقضاء حوائجهم.
وتشهد الموالد التي تجتذب أعدادا غفيرة تقارب المليون شخص، سقوط كل الحواجز الاجتماعيَّة بين طبقات المجتمع المصري على تباينها، فالأغنياء والفقراء على مائدة طعام واحدة على حد سواء، يصطفون في حلقات ذكر متصلة لا فارق فيها بين هذا وذاك، فالجميع يذوبون عِشْقاً في حب الله يرددون دعوات مُشفَّعة بصاحب الكرامات.
ومظاهر اِرتبطت في الأذهان بعادات ذات طقوس خاصة، مع الوقت ذابت في نسيج المجتمع المصري، ووحدت بين عنصري الأمة مسلمين ومسيحيين فجمعت بين أولياء الله الصالحين والقديسين، ورويدا رويدا تسللت إلى الموروث الشعبي في ثقافة الأمة وأصبحت جزءاً من الهوية المصرية.
وسواء كان المولد مسيحيا أو إسلاميا فهناك طقوس شبه ثابتة في الاِحتفالات، تتمثل في زيارة الضريح وعقد حلقات الذكر و الإِنشاد والاِبتهالات والترانيم، والسير في مواكب كبيرة تحمل أعلاماً وبيارق، علاوة على تقديم النذور التي لا تقتصر على النقود فقد تكون أطعمة أو ذبائح توزع على الفقراء وجمهور الحاضرين، أو مفروشات وسجاجيد لصاحب المقام أو تكون في شكل شموع تقدم لتضيء الأضرحة، كما اِرتبطت الموالد بعقود الزواج وإجراء عمليات الختان والتعميد تباركا بالمناسبة.
ومظاهر مبهجة للوحة بديعة حيث تقام السرادقات الكبيرة، وينتشر باعة الحلوى ولعب الأطفال والأطعمة الشعبية، والحلي والسبح والملابس، إضافة للألعاب النارية والمراجيح وعروض العرائس، في مزيج يجمع الطقس الديني بالترفيهي، تغلفه سعادة وبهجة شكلت مزاجاً شعبياً عقائدياً ، يربط بين الروحانيات من جانب والاِحتفالات من جانب آخر، وحتى يومنا هذا لا يزال المصريون يتمسكون بمورثاتهم رغم شيطنة البعض لتلك الطقوس فهم شعب محب للحياة.
منى أحمد تكتب: البهجة الروحانية
