محاضرة مهمة للعالم المستشرق الألماني الكبير سباستيان جونتر أستاذ كرسي الدراسات العربية والإسلامية في جامعة جوتنجن، ألقاها في الهيئة الألمانية للتبادل العلمي بالقاهرة، بحضور أكاديمي مميز وكانت حول"طرق التدريس ونقل المعرفة في الإسلام الكلاسيكي: رؤى مستوحاة من عالم المربين المسلمين الأوائل".
أكد جونتر أن مناقشات التعليم والتعلم كانت محورًا أساسيًا في كتابات عربية واسعة النطاق من الفترة الكلاسيكية للإسلام، أي من القرن الثامن إلى الخامس عشر الميلادي. حيث استكشف العلماء المسلمون الجوانب النظرية والعملية للتعليم، مستفيدين من تقاليد فكرية متنوعة. كان هؤلاء العلماء فلاسفة، ولاهوتيين، وفقهاء، ومحدثين، وأدباء، وعلماء طبيعة، ينتمون إلى خلفيات وانتماءات مختلفة. وعلى الرغم من أن جميعهم مارسوا التدريس، إلا أن أياً منهم لم يعامله كمجال متخصص ومستقل.
![](https://media.elbalad.news/ArticleUpload/2025\2\9\475363194_1043936011_561_124702.jpg)
وأوضح أن ما يجمع هذه النصوص العربية الكلاسيكية حول التعليم هو تأصيلها العميق في المبادئ القرآنية والتقاليد النبوية (الحديث). وفي الوقت نفسه، تأثرت هذه النصوص بشكل كبير بالتقاليد التربوية اليونانية القديمة، وكذلك بالموروث العربي والفارسي والهندي.كما تطور الفكر التربوي الإسلامي في تفاعل مستمر مع التقاليد اليهودية والمسيحية في العصور الوسطى، من خلال عمليات تبادل متبادلة وتكييفات متميزة، خصوصًا بين القرنين الثامن والحادي عشر.
آداب العالم والمتعلم: الأخلاق الفكرية والتربوية
وأشار إلى أن من بين أهم الأنواع الأدبية الكلاسيكية التي تناولت التعليم بوضوح، نجد كتب آداب العالم والمتعلم، وهي نصوص تعالج السلوك الأخلاقي والفكري للمعلمين والطلاب. تتراوح هذه الأعمال من رسائل موجزة إلى موسوعات شاملة، تناقش أهداف التعليم ومثله وأساليبه.
تحدد هذه النصوص أدوار ومسؤوليات المعلمين والطلاب، وتشدد على الفضائل الأخلاقية والفكرية، كما تتناول الديناميكيات التي تحكم العلاقة بينهما. كما أنها تعالج قضايا تعليمية رئيسية، مثل تصميم المناهج، وأساليب التدريس، ونقل المعرفة.
وأوضح أنه رغم أن الإسلام الكلاسيكي لم يطور تخصصًا أكاديميًا مستقلاً تحت مسمى علم التربية، إلا أن العديد من هذه الكتابات تحمل طابعًا تربويًا واضحًا.
أربعة علماء أثروا في الفكر التربوي الإسلامي
واستعرض أربعة نماذج من العلماء المسلمين الذين كان لهم تأثير بارز على الإنتاج المعرفي ونقل التعليم وهم :
ابن المقفع
الجاحظ
إخوان الصفاء
ابن السُّني الدينوري
وقال: إن كل واحد منهم ترك بصمته في الفكر التربوي الإسلامي، إما من خلال التأثير السلطوي لأعمالهم، أو من خلال أصالتهم الفكرية،وإن كتاباتهم لا تقتصر على رسم معالم تطور التعليم في الإسلام الكلاسيكي، بل تتفاعل أيضًا مع تحديات لا تزال ذات صلة بعالمنا اليوم. فالأسئلة التي طرحوها حول التعليم والتعلم لا تزال تلهم المناقشات التربوية المعاصرة، وتقدم رؤى تمتد إلى ما هو أبعد من سياقها التاريخي.
ابن المقفّع (ت. 139هـ/756م)
كان عبد الله بن المقفع، من البصرة، كاتبًا بارعًا ومترجمًا ومسؤولًا إداريًا في البلاط، ويُعد رائدًا في النثر الأدبي العربي. عُرف بتقديمه المفاهيم الإنسانية للآداب إلى التقليد الفكري العربي، كما لعب دورًا مهمًا في نقل المعرفة المتأخرة من العصور القديمة إلى الثقافة العربية الإسلامية.
كتابه "الأدب الكبير"
إلى جانب كتابه الشهير "كليلة ودمنة"، الذي يعتبر من روائع الأدب التعليمي، كتب ابن المقفع "الأدب الكبير"، وهو نص يعالج القواعد الأخلاقية للسلوك في دوائر الحكم والمجتمع.
يركز الكتاب على توجيه القادة السياسيين والمسؤولين والوزراء، كما يتناول مسائل الأخلاق والعلاقات الإنسانية، ويؤكد على أهمية تكوين الشخصية كجزء أساسي من القيادة الناجحة.
نصيحته للقادة
شدد ابن المقفع على ضرورة أن يلجأ الحكام إلى العلماء وأهل الفضل لضمان قرارات حكيمة. كما أكد على أهمية القدوة الحسنة، وإدارة الوقت بحكمة، والحفاظ على التوازن بين المسؤوليات والرفاهية الشخصية.
آداب الجدل والحوار
في سياق النقاشات العلمية، نصح ابن المقفع المستمعين بتعلم حسن الإنصات كما يتعلمون حسن الحديث، موضحًا أن:
"الحكمة إذا لم توضع في موضعها، فقدت بهاءها وأثرها."
الجاحظ (ت. 255هـ/869م)
يعد الجاحظ من أكثر المفكرين تأثيرًا في الفكر العربي الإسلامي، إذ ألف نحو 200 كتاب في الأدب والفكر والعقيدة والسياسة. كما كان ناقدًا لممارسات الحفظ والاستظهار دون فهم، ورأى أن التوازن بين التفكير النقدي والذاكرة ضروري للتحصيل العلمي الحقيقي.
كتابه "المعلمون"
خصص الجاحظ كتابًا حول مهنة التدريس بعنوان "المعلمون"، وهو من أقدم النصوص الفلسفية حول التعليم. في هذا العمل، دافع عن المعلمين، ورفع من مكانتهم فوق سائر المهن، معتبرًا أنهم شركاء في النجاح والتحديات التي يواجهها الطلاب.
إخوان الصفاء
مجموعة فلسفية غامضة نشأت في البصرة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، اشتهرت بموسوعتها العلمية "رسائل إخوان الصفاء"، والتي قدمت رؤية شاملة للمعرفة مقسمة إلى علوم تمهيدية، وشرعية، وفلسفية.
ركزت رسائلهم على التعليم الذاتي، حيث شجعوا الطلاب على تجاوز حدود الكتب المدرسية، واستكشاف المعرفة بحرية، وهو مفهوم ينسجم مع النظريات الحديثة حول التعلم الذاتي.
ابن السُّنِّي الدينوري (ت. 974م)
كان ابن السني عالم حديث وفقه، واشتهر بكتابه "رياضة المتعلمين"، وهو عمل حديثي مخصص بالكامل للتربية، يضم 288 حديثًا حول آداب التعلم والتعليم.
يحتوي المخطوط على سجلات سماع، توضح استخدامه في حلقات التدريس بين القرن العاشر والرابع عشر الميلادي.
التوصيات التربوية الأساسية
قدم ابن السني مجموعة من التوجيهات التربوية، من بينها:
أهمية نية التعلم وإخلاصها.
التدرج في اكتساب المعرفة، مع الموازنة بين الفهم والحفظ.
استخدام النقاش والمراجعة الجماعية كوسائل لتعزيز التعلم.
ضرورة مراعاة المستويات الفكرية للمتعلمين، خاصة الأطفال والنساء.
وفي ختام المحاضرة عرض “جونتر” كيف أن هذه النماذج الفكرية تبرزكيف جمع العلماء المسلمون بين التعليم الديني والفلسفي، معتمدين على مناهج متنوعة مثل:
التوازن بين التفكير النقدي والحفظ.
تشجيع التعلم الذاتي.
دمج المعرفة عبر تخصصات متعددة.
وقال :إن دراسة الفكر التربوي الإسلامي الكلاسيكي تقدم لنا دروسًا قيمة اليوم، لا سيما في مجالات:
الانفتاح الفكري وتبادل المعرفة عالميًا.
تطوير بيئات تعليمية أكثر شمولية وأخلاقية.
الجمع بين الابتكار والعمق العلمي في أساليب التدريس.
وعقب المحاضرة تلقى المحاضر مجموعة من الأسئلة المهمة أكدت تفاعل الحاضرين مما ساهم في إثراء اللقاء.
![](https://media.elbalad.news/ArticleUpload/2025\2\9\475408855_1043936117_561_124822.jpg)