مع بداية كل عام، نقف أمام صفحة بيضاء، نتأمل فيها ما مضى، ونتساءل عمّا سيأتي. يملؤنا الحماس أحيانًا، والقلق أحيانًا أخرى. لكن هناك شيء غريب يحدث حين تُطفأ الأنوار وتُضاء الشاشة أمامنا؛ فنجد أنفسنا نُمنح فرصة استراق النظر إلى حياة أخرى. فجأة، تتسع العدسة وتضيق، تُشرق الوجوه وتخفت، وتتحول القصة – أيًا كانت – إلى لوحة شفافة، تُسجّل عليها أفكارنا الهاربة وقراراتنا التي تهنا عنها وسط زحام الأيام.
السينما ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي لحظات مُعلقة، مكتوبة بحبر من مشاعر لم نجرؤ على الاعتراف بها. في كل مشهد، يتسلل إحساس ما، تتبلور فكرة لم تكتمل، أو تتردد أمنية بين السطور. أحيانًا تأتيك الحكمة من مشهد عابر، من جملة أُلقيت بلا اكتراث، أو من موسيقى تصويرية تختبئ خلف لقطة صامتة. فتغوص في بحر من الحكايات السينمائية، التي لا تقتصر على إبهارك، بل تهمس في أذنك قائلة: “انهض... لا يزال هناك فصل لم يُكتب بعد”.
من الأفلام التي أعتبرها على قائمة الصدارة من حيث الإلهام والقدرة على لمس القلوب، يأتي فيلم "The Pursuit of Happyness" البحث عن السعادة، إنتاج عام 2006، أخرجه الإيطالي جابرييل موكينو (Gabriele Muccino)، وبطولة النجم ويل سميث (Willard Smith)، الذي قدّم أداءً استثنائيًا يُعد واحدًا من أفضل أدواره السينمائية على الإطلاق.
الفيلم مستوحى من القصة الحقيقية لرجل الأعمال كريس جاردنر (Chris Gardner)، الذي بدأ من نقطة الصفر وواجه أصعب التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لكنه لم يفقد الأمل أبدًا. وسط الأزمات المالية والمشاكل العائلية، يظهر كريس كرمز حي للصبر والإصرار؛ فيُجسّد معنى السعي الحقيقي نحو الأحلام.
يعتمد فيلم "The Pursuit of Happyness" على واقعية مُباشرة تجعله قريبًا من المتلقي. تبدأ القصة من أدنى نقطة ممكنة في حياة كريس جاردنر، وهو اختيار ذكي من كاتب السيناريو "ستيفن كونراد"، حيث يضع الجمهور في مواجهة مع الواقع منذ اللحظة الأولى. يتبع الفيلم المنحنى الكلاسيكي للقصة (المقدمة، الصراع، الحل)، لكنه يُبرز الصراع كجزء جوهري من التجربة الإنسانية. يُبرز الفيلم التحولات التدريجية دون الاعتماد على أحداث درامية مفتعلة. فالصراع يتولد من المواقف اليومية، المتمثلة في السعي لإيجاد مأوى، فقدان المال، ومحاولته الموازنة بين دوره كأب وكعامل يكافح للبقاء.
"جابرييل موكينو" مخرج الفيلم، تبنّى منهجية إخراج تُركّز على تلك الواقعية، حيث جعل الكاميرا المحمولة أداة لنقل المشاهدين مباشرة إلى قلب حياة كريس، فاستخدم الكاميرا المحمولة بذكاء في العديد من المشاهد الخارجية، مثل تلك التي يظهر فيها كريس وابنه يتنقلان بين الملاجئ، مما أضاف بُعدًا وثائقيًا عزّز من مصداقية العمل.
ويل سميث استخدم تقنيات أداء تعتمد على الصمت والتعبير البصري، حيث حملت عيناه وحركاته كل مشاعر الألم والانكسار دون صخب أو مبالغة. وجاء وجود ابنه الحقيقي "جادين سميث" ليضيف بُعدًا من الصدق إلى العلاقة بين الشخصيتين، وهو ما انعكس في المشاهد العاطفية القوية التي لم تبدُ مصطنعة أو متكلفة.
ساعد كل ذلك في إظهار تطور الشخصية بشكل تدريجي، من الانكسار إلى إعادة بناء الذات، وصولًا إلى لحظة التمكين النفسي في المشهد الأخير.
"The Pursuit of Happyness" هو أكثر من مجرد فيلم ملهم؛ إنه عمل درامي متكامل يُجسد بأدوات سينمائية بارعة رحلة مُرهقة في دهاليز الحياة، حيث يصبح الأمل هو الحبل الوحيد الذي يُمسك به الإنسان كي لا يسقط. يأتي المشهد الأشهر حين يقول كريس لابنه: "لا تدع أحدًا يخبرك أنك لا تستطيع فعل شيء. حتى أنا." ليقدم وصية إنسانية تُلخّص فلسفة الفيلم. تلك التي تؤكد أن الإيمان بالذات هو مفتاح الصمود أمام تحديات الحياة.
الحياة لا تضمن لنا فرصًا متساوية، لكنها تُعطي لكل منا لحظة اختبار حاسمة؛ لحظة تُقرر فيها إن كنت ستقف من جديد أم ستستسلم لليأس.