هناك تحول استراتيجي كبير يجري منذ عدة أشهر في أوروبا بسبب الحرب في أوكرانيا ، فالبرغم من أن هذا الصراع المستمر منذ عام 2022 ساهم في قلب الموازين بمجال القتال البري، إلا أنه يعمل حاليا علي إعادة إحياء الصواريخ متوسطة المدى "التي يتراوح مداها بين 500 إلى 5500 كيلو متر" بعد أن تخلى عنها الغرب تماما منذ نهاية الحرب الباردة ، ومن الممكن أن تضع هذه الصواريخ أوروبا الآن وليس أوكرانيا فقط في نطاق الضربة الروسية.
وذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن الغرب يأخذ هذا التهديد على محمل الجد ، موضحة أن وزير القوات المسلحة الفرنسي سيباستيان ليكورنو أشار لأول مرة، يوم الأربعاء الماضي إلى هذه القضايا بوضوح معلنا على وجه الخصوص أن بعض الدول تتجاوز حدودا جديدة للانتشار وتشكل خطر التشكيك في التوازنات الاستراتيجية الرئيسية المبنية على المعاهدات الدولية.
ورأت الصحيفة أن نقطة ضعف الغرب الجديدة بدأت تظهر للنور مع إطلاق موسكو بشكل غير متوقع، في 21 نوفمبر 2024، صاروخ متوسط المدى على مدينة دنيبرو في أوكرانيا للمرة الأولى علي ساحة المعركة ، مشيرة إلى أنه حتى الآن، تم إطلاق هذا النوع من الصواريخ في إطار التجربة.
وأوضحت أن هذا الصاروخ الذي أطلق عليه اسم "أوريشنيك" ( الصاروخ الباليستي متوسط المدى بالمصطلحات العسكرية) فاجأ الغرب، لأن هذا السلاح لم يكن يشكل رسميا جزءا من ترسانة موسكو ، كما تم حظر تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات حتى عام 2019، عندما انسحبت موسكو وواشنطن من معاهدة القوى النووية المتوسطة، التي كانت تهدف، منذ الحرب الباردة، إلى إنهاء السباق على التسلح في أوروبا.
وأكدت "لوموند " أنه لم يكن علي متن صاروخ "أوريشنيك" الذي تم إطلاقه على دنيبرو أية حمولة ولم يتسبب في أضرار تذكر عندما أصاب موقعا لتصنيع الأسلحة ، لكن منذ ذلك الحين، واصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إثارة هذا التهديد ، معلنا أن روسيا يمكن أن تنشر، بحلول منتصف عام 2025، صواريخ "أوريتشنيك" في بيلاروسيا، في إطار معاهدة جديدة موقعة مع مينسك في 6 ديسمبر الماضي .
وفي 19 ديسمبر، خلال المؤتمر الصحفي التقليدي الذي يعقده في نهاية العام، ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك داعيا إلى "مبارزة تكنولوجية" بين صاروخه أوريشنيك وأنظمة الدفاع الغربية.
وأشارت الصحيفة إلى أنه حتى ظهور تصريحات سيباستيان ليكورنو، لم يكن هذا التهديد الجديد يذكر إلا داخل الاوساط العسكرية. اذ قال الأدميرال بيير فاندير، الرجل الثاني السابق في الجيوش الفرنسية، والقائد الأعلى الحالي لقوات الحلفاء لتحويل الناتو :" لقد فتح صندوق الشر مجددا منذ انتهاء معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى في عام 2019، "
ومع ذلك مازال الغرب بعيدا عن "أزمة الصواريخ الأوروبية" الجديدة، هذه الحلقة من الحرب الباردة التي وقعت بين عامي 1978 و1987، والتي قرر خلالها الاتحاد السوفيتي نشر صواريخ /اس.اس-20/ ذات الرؤوس النووية والتي يصل مداها إلى 4600 كيلومتر إلى حدود الناتو ، وهو التهديد الذي قررت الولايات المتحدة الرد عليه اعتبارا من عام 1983 بنشر صواريخ /بيرشينج-2/ وصواريخ كروز، المجهزة أيضا بنواقل نووية، في كل ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة.
وفي يوليو 2024، أعلنت الولايات المتحدة وألمانيا، على هامش قمة حلف شمال الأطلنطي في واشنطن، نشر عدة أنواع من الصواريخ متوسطة المدى على الأراضي الألمانية اعتبارا من عام 2026 ، وتتضمن أنظمة يتراوح مداها من 460 كيلومترا إلى أكثر من 2700 كيلومتر، بما في ذلك صواريخ أرض-جو /اس.ام - 6/وصواريخ /توماهوك/ أرض-أرض، وأيضا صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت من الجيل الأحدث، مثل /دارك ايجيل/ .
وفي ديسمبر 2022، أعلنت الولايات المتحدة أيضا أنها ستسرع في استبدال ما يقرب من مائة قنبلة نووية قديمة منتشرة في خمس دول أوروبية (إيطاليا ، ألمانيا ، بلجيكا ، هولندا ، تركيا) منذ منتصف الخمسينيات، في إطار برنامجها النووي "المظلة الأمريكية" بنسخة جديدة تماما وهي قنابل /بي61-12/ ، وهو ما أثار غضب روسيا.
وأكدت الصحيفة أنه إذا كان الروس قد قرروا الشروع في تطوير صواريخ "أوريشنيك" فذلك يرجع أيضا إلى أن قوة الردع النووية لديهم قد تم تقويضها من خلال الضربات الأوكرانية على طول الطريق إلى ضواحي موسكو ، ولم يكن التهديد باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، والذي يثيره الكرملين بانتظام، كافيا لثني الأوكرانيين عن ذلك.
ويتمتع صاروخ "أوريشنيك" بقدرات "مزدوجة" فهو قادر على حمل رؤوس حربية نووية وتقليدية، مما يزيد المعادلة تعقيدا للأوروبيين.
وتتمتع الصواريخ الباليستية بمزايا مزدوجة تتمثل في الاستجابة والسرعة مقارنة بالأسلحة الأخرى ، ففي غضون عشر دقائق، يمكنك إصابة هدف على مسافة 1000 كيلومتر بجسم يصل إلى سرعة 6 ماخ (أو أكثر من 7000 كيلومتر في الساعة) وبدقة أقل من 10 أمتار.
وبدورها قالت إيلويز فايت، المتخصصة في قضايا الانتشار النووي والباليستي في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: "لقد وضعنا جانبا إلى حد ما مسألة الضربات العميقة لأننا لم نواجهها في الغرب."
وتابعت قائلة :"للوصول إلى الجماعات الإرهابية التي ليس لديها دفاع أرض-جو أو دفاع مضاد للصواريخ، فإن الغارة الجوية مناسبة جدا. لكن مع ما يحدث في أوكرانيا، ندرك أن القدرة على الضرب بعمق بالصواريخ الباليستية أمر مهم.. إن أعداءنا جاهزون بالفعل."
وقد شعر الأمريكيون أن الرياح بدأت في التحول وبدأوا في تطوير صاروخ متوسط المدى قبل نهاية معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى.
في هذا الصدد قالت فايت، التي شاركت في تأليف دراسة حول الضربات العميقة إنه في أثناء الاختبارات، أوضح الأمريكيون أن نطاقها يقتصر على 499 كيلومترا، أي أقل بقليل من العتبة التي تغطيها المعاهدة"، وتم تسليم الأمثلة الأولى لصاروخ بريسيجن سترايك إلى الجيش الأمريكي في عام 2023، وهناك نسخة مداها اكثر طولا قيد التطوير. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تتخلف عن منافسيها الرئيسيين. اذ تمتلك بكين بالفعل ترسانة كبيرة من الأسلحة الباليستية، في المجالين التقليدي والنووي، وتميل موسكو إلى فعل الشيء ذاته اليوم.
وفي أوروبا، من ناحية أخرى، يوجد ثقب أسود ذو سعة حقيقية في هذه المنطقة. لكن الأوروبيين يخاطرون بعدم وجود خيار أمامهم.
وتابع الأدميرال فاندير قائلا: "إن القذائف الباليستية الميدانية هي مدفعية الغد" مشيرا إلى عدم التماثل الموجود بين الأوكرانيين والروس، بسبب عدم وجود أسلحة مناسبة. ففي الوقت الحالي في المجال التقليدي، لا يملك الأوروبيون سوى صواريخ كروز ذات مدى محدود بـ 500 كيلومتر، مثل صاروخ /سكالب/ الفرنسي و/ستورم شادو/ البريطاني. ولسد هذه الفجوة، انطلقت المناقشات في الأشهر الأخيرة، بقيادة فرنسا بشكل خاص والشركة الأوروبية المصنعة للصواريخ /إم.بي.دي.إيه/، لكن تمويل هذه الأسلحة الجديدة يشكل تحديا حقيقيا.
وبدوره أوضح إيمانويل ميتر من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية قائلا :"في السابق، اعتقدت العديد من الدول الأوروبية أن الصواريخ الباليستية ليست دقيقة للغاية ولن تكون ذات فائدة كبيرة إن لم تكن مرتبطة بأسلحة نووية" . لكن التطورات التكنولوجية تعني أن الأمر لم يعد كذلك اليوم. اذ يمكن أن يكون لها آثار عسكرية كبيرة وأن تخلق تأثيرا نفسيا حقيقيا."
ويمثل تطوير صواريخ متوسطة المدى مثل /أوريشنيك/ صعوبة دفاعية بالنسبة للأوروبيين الذين يعتمدون بشكل أساسي على قدرات الإنذار المبكر الأمريكية لكشف إطلاق هذا النوع من الصواريخ ومحاولة اعتراضها. "وهناك عدد قليل جدا من وسائل الدفاع المضادة للصواريخ في هذا النطاق، لأنه لم يكن هناك تهديد حقيقي حتى الآن" وفقا لما اكدته إيلويز فايت، المتخصصة في قضايا الانتشار النووي والباليستي في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية.
وأضافت أنه في الآونة الأخيرة، ظهرت العديد من المبادرات العاجلة، مثل مشروع الدرع المضاد للصواريخ، الذي أطلقته ألمانيا عام 2022، بهدف القدرة على مواجهة التهديدات الباليستية التقليدية الروسية، ولكن من الوهم تماما الاعتقاد بأننا نستطيع حماية الأراضي الأوروبية بأكملها".
وتابعت :" وفي هذه المرحلة، يبقى الحل الوحيد هو الردع النووي ومع ذلك، يجب ألا نقتصر على هذا الخيار الوحيد، وإلا فإننا نجازف بالبقاء عالقين". وقد يعتقد خصومنا أننا لن نرد بضربة نووية على هجوم بالصواريخ الباليستية التقليدية على موقع لوجستي تابع لحلف شمال الأطلنطي."
إنها معضلة عقائدية وسياسية حقيقية يواجهها الغربيون، وفي مقدمتهم الأوروبيون، الذين وضعوا أنفسهم في الأعوام الأخيرة على رأس المعركة الدولية ضد الانتشار النووي ونزع السلاح النووي.
وخلص إيمانويل ميتر إلى القول: "ما زلنا في منتصف التفكير بشأن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، ولكن يجب علينا أن نتطور، لأن المفهوم الذي كان لدينا خلال الحرب الباردة لم يعد منطقيا اليوم."