كان ولا يزال الإعلام والاتصال أداة أساسية في يد القوى العالمية لدعم النفوذ السياسي والعسكري والسيطرة الناعمة على عقول وقلوب الشعوب التي تقع تحت هيمنة تلك القوى الكبرى، كان هذا منذ عصر الصحافة في بداية القرن الثامن عشر، مرورًا بالراديو والتليفزيون، ثم التحول الرقمي للإعلام ومنصاته، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، ليظل الإعلام والنفوذ وجهان لعملة واحدة، عملة الهيمنة والسيطرة على العالم، وهذا يفسر لماذا يحتاج الإعلام للصراعات والأحداث الكبرى بل والحروب، ولماذا تحتاج السياسة للإعلام والمعلومات حتى توظفها لصالحها، وهنا يصبح الجمهور أو المتلقون للمحتوى الإعلامي في غالب الأحيان ضحايا، أو بتعبير أدق “مُستَخدَمين” لتحقيق مصالح سياسية أو تجارية، للقوى المهيمنة.
إن التاريخ والسياسة يوضحان بجلاء كيف يتم استخدام سطوة الإعلام والاتصالات لفرض الهيمنة، منذ الإمبراطورية البريطانية وسيطرتها على الاتصالات من خلال امتلاكها لكابلات تحت البحار والمحيطات، والتي كانت خلالها تنقل الاتصالات عبر التليجراف، حيث لم يكن الراديو اللاسلكي قد اخترع بعد، ثم انتهاءً إلى الهيمنة الأمريكية على كابلات أخرى تحت المحيطات تمر عبرها بيانات الإنترنت، لتتحكم أمريكا هي الأخرى بالوسيلة الأهم في العالم للاتصالات وتدفق المعلومات.
الإشكالية تكمن في أن تلك القوى العالمية لها مصالح جيوسياسية في مناطق مختلفة من العالم، تجعل بيئة المعلومات وخصوصية البيانات غير مضمونة، وهناك دلائل كثيرة على ذلك، منها ما حدث في واقعة فيسبوك عام ٢٠٢٠، حينما تم استخدام بيانات ملايين المستخدمين لتوجيه إعلانات مخصصة لهم لصالح مرشح رئاسي محدد، ولم تكن هي المرة الأولى التي تتدخل فيها خوارزميات المنصات الرقمية التي تمتلكها شركات أمريكية ضخمة مثل ميتا، مالكة منصة فيسبوك، والتي عدد مستخدميها يفوق أضعاف عدد أكبر دول العالم في تعداد السكان.
الآن، تسعى قوى سياسية أخرى للإمساك بلجام القيادة من يد الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فدولة مثل الصين وروسيا منذ لحظة مبكرة قررتا أن لا تخضعان لتلك الهيمنة الرقمية، وقامتا بإنشاء منصات رقمية محلية بديلة، لضمان أمن المعلومات والحماية من أية محاولات تجسس تمارسها القوى الغربية. وقد بدأت معالم التشكيل العالمي الجديد مع نشوء منظمة بريكس، والذي أعلن أن الهدف منه تجاري اقتصادي، ولتحجيم سيطرة الدولار على الأسواق العالمية، لكن يبدو أن الأهداف الجيوسياسية حاضرة وبقوة في هذا التشكيل، خصوصًا بعد انضمام عدد من الدول له، ورغبة دول أخرى في الانضمام، وقد عزز ذلك مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، تلك التي تسيطر الآن على صناعات حيوية مثل الرقائق الإلكترونية والسيارات الكهربائية، التي تهدد عمالقة صناعة السيارات في كل العالم، كما أن الصين وروسيا يتجهان منذ فترة لشراء معظم إنتاج العالم من الذهب، للخروج من أسر الدولار في صراعات مستقبلية محتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أضف إلى ذلك، التغيرات التي يشهدها المجال العام في الولايات المتحدة الأمريكية مع سيطرة العقلية "الترامبية" التي تشي بتغيرات عميقة في الثقافة والذهنية الأمريكية، ولذلك ارتباط قوي بالمشهد الإعلامي، فالرئيس ترامب لا يؤمن بوسائل الإعلام الكبرى في أمريكا مثل سي إن إن، وواشنطن بوست، ويعدها "إعلامًا زائفًا"، في الوقت الذي يستخدم فيه حسابه على منصة إكس للتواصل مع شعبه ومع المتابعين حول العالم، ومن المعروف أن منصة إكس يمتلكها صديقه رجل الأعمال إيلون ماسك الذي أصبح مقربًا منه، وسيعينه وزيرًا في فترة رئاسته الوشيكة، في مشهد تتداخل فيه المصالح ويطرح علامات استفهام حول مصير هذا الكم الهائل من البيانات التي يمكن أن يتم التلاعب بها وتوظيفها دون إذن أو علم أصحابها لتحقيق مصالح القوة المهيمنة، في بيئة يتم فيها التغني بالحرية وحماية الخصوصية، وتعزيز القيم الفردية وحقوق الإنسان.
ويرى معظم المحللين أن النموذج الأمريكي بدأ يتآكل مع تزايد صعود القوى العالمية الأخرى، وأن العالم في مرحلة إعادة التشكيل على قواعد مختلفة لم يعرفها العالم المعاصر، ليس بالضرورة أن يكون هذا التشكيل الجديد هو الأفضل أو الأسوأ بالنسبة لنا، لأن الذي يحدد ذلك هو موقعنا من هذا التشكيل الجديد، وحضورنا بصفتنا لاعبين أساسيين في ذلك التشكيل بدلآً من أن يُلعب بنا، أن نكون ضمن القوى الفاعلة، لا المفعول بها، أن ننهض نهوضًا نستحقه، ونستثمر فرصة التغيير والتبديل، فالفرصة دائمًا سانحة للجاهزين.