قادتني الصدفة إلي مشاهدة رائعة الروائي الكبير يحيى حقي قنديل أم هاشم وصراع العلم والمعتقدات المتوراثة, المتراكمة في الوعي الجمعي لشريحة كبيرة باختلاف طبقاتها.
جاءت النسخة السينمائية للطرح الإبداعي لحقي مشرقة بأنوارها ومجابهة بأفكارها لموروثات شعبية, ومجسدة لفكرة الصراع بين العادات والمورثات التي تقف علي النقيض من التطور العلمي, وهي من الروايات الرمزية غير المباشرة التي ُنسجت في إطار درامي, بمعالجات دلالية حول إشكالية التفاعل مع الثقافات الغربية والموقف المذبذب منها.
فقنديل أم هاشم كان صراع بين المجتمع الأصولي وبين الحداثة الوافدة, من خلال بطل الرواية إسماعيل الذي ولد وعاش في حي السيدة زينب بعاداته وتقاليده المتشبعة بنمطا من التدين الشعبي ,لينتقل فجأة لدراسة الطب في أوروبا.
وتصطدم مكونات التسامي الإيماني الظاهري لديه بحضارة الغرب المنفتح بكل منجزاته ومادياته,وتحدث الصدمة الحضارية ويعود لوطنه آسيرا لكل ما رأه من حريات وأفكار, فيقع بين مطرقة ما نشأ عليه وسندان ما اطلع عليه من حداثة.
أضيف إلي هذا الصراع تحدي أخر تمثل في إصابة أبنة عمه فاطمة بضعف في الأبصار, يهددها بالعمي في وسط اجتماعي يلجأ فيه بسطاؤه إلى العلاج ببركة الصالحين, والرمز هنا هو قطرات من زيت القنديل المبارك وهو الأمر الذي يرفضه العلم وجسدته المعالجة الدرامية بتحطيم د.إسماعيل قنديل المسجد.
لكنه هو الآخر يفشل في علاجها بالعلم وينفض عنه مرضاه ،بعد فشله الناتج عن تحديه لمعتقداتهم الدينية ويصبح علمه مرفوضا من جميع من حوله.
وتنهار ثقة إسماعيل فيما تلقاه من علم , فلا الزيت ولا العلم قدما العلاج لعين فاطمة , وتزداد حالته سوءا ويصبح بلا عمل , وبعد صراع كبير يقرر منهجًا جديًدا مستخدما العلم والايمان معًا.
ويبدأ مرحلة جديدة من علاج ابنة عمه ,معترفا ببركة زيت القنديل في الشفاء لكن مع الاستعانة بالأدوية, وبمرور الوقت تتعافي وتبصر مرة أخري,دون أن يعلم أحد هل العلاج بالدواء أم بالتسليم والرضوخ الروحاني للفكرة.
فعندما دخل بطل الرواية في دوامة الصراع الوجودي عبر معاناة داخلية مظلمة,أنتهت باكتشاف النور المتواجد في مكنونات النفس, والذى أدي التخلى الكامل عنه لتحويل العلم المكتسب إلى طائر بجناحٍ واحد.
وجاء رحاب أم هاشم بكل ما ترمز إليه من دلالات روحانية, ليمد جسرا يصل ما بين ما وصل إليه العلم وبين حياة الناس ومورثاتهم الراسخة,فالجانب الروحى الخلاق الذى يرمز إليه الحضور المضيئ للقنديل ،ويمتد إلى الزيت الذى يؤمن ببركاته من يقبلون عليه يصل في نهايته إلى اليقين بحتمية أقتران العلم المادي بالروحانيات.
ومن أجل هذا وصف حقي القنديل بأنه أبدي ويتعالى على كل الصراعات,فكل نور يبدأ باصطدام بين ظلام يجثم وضوء يدفع ,إلا هذا القنديل فإنه يضئ بغير صراع.
على كثرة نصوص الأدب العربي التي طرحت إشكاليات الصراع بين الأصالة والحداثة , تظل رواية قنديل أم هاشم متفردة بوصفها مرجعا أصيلا فند هذا الصراع علي ارض الواقع.
ورغم تنوع أعمال يحيي حقي ستظل رائعته قنديل أم هاشم هي الأشهر والأهم في أعماله ,التي تميزت بجمال الصياغة وروعة الفكرة والتراكيب اللغوية المتفردة في إيقاعاتها المتدفقة,والقدرة الفائقةعلى استخدام الإيحاء والتجسيد والتأثير.