هل الزوج ملزم بنفقة علاج زوجته؟ من الأمور الشرعية التي يتساءل كثير من الأزواج حولها؛ وفي السطور التالية نوضح حكم الشرع في نفقة علاج الزوجة وهل يلتزم بها الزوج.
هل الزوج ملزم بنفقة علاج زوجته؟
وقالت دار الإفتاء المصرية في بيان “هل الزوج ملزم بنفقة علاج زوجته؟”، إن تكاليف علاج الزوجة من دواءٍ وأجرة طبيبٍ داخلةٌ ضمن النفقة الواجبة شرعًا على الزوج تجاه زوجته تبعًا لقدرة الزوج المالية يُسْرًا أو عُسْرًا، وتُنَزَّلُ هذه النفقة منزلة الأصل من طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ إن لم تكن أَوْلَى من ذلك جميعًا؛ فقد يصبر الإنسان على الجوع والعطش، لكنه لا يصبر في الغالب على المرض، وهذا ما عليه العمل في الديار المصرية قضاءً، وهو الموافق لمقاصد الشرع الشريف، وفيه عرفانٌ لفضل الزوجة التي لا تألو جهدًا في خدمة زوجها والعكوف على تربية الأولاد.
حسن العشرة بين الزوجين
وتابعت الإفتاء: “الأحكام الشرعية المتعلقة بالحياة بين الزوجين لا تؤخذ بطريقةٍ يبحث فيها كلٌّ من الزوجين عن النصوص الشرعية التي تبيِّن حدود حقوقه وواجباته أو تجعله دائمًا على صوابٍ والطرفَ الآخر على خطأٍ؛ بحيث يجعل الدين وسيلةً للضغط على الطرف الآخر وجَعْلِهِ مُذعِنًا لرغباته من غير أداء الواجبات التي عليه هو؛ فالحياة الزوجية مبناها على السكن والرحمة والمودة ومراعاة مشاعر كلٍّ من الطرفين للآخر أكثر من بنائها على طلب الحقوق، وفِقه الحياة والخلق الكريم الذي علمنا إياه رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقتضي أن تتقي الزوجةُ اللهَ تعالى في زوجها وأن تَعْلَمَ أن حُسنَ عشرتها له وصَبْرَها عليه بابٌ من أبواب دخولها الجنة، وعلى الزوج أيضًا أن يراعي ضَعفَ زوجته ومشقة خدمتها طوال اليوم للبيت والأولاد، وأن يكون بها رحيمًا، وأن لا يُحَمِّلَهَا ما لا تطيق، فبهذه المشاعر الصادقة المتبادَلَةِ يستطيع الزوجان أداءَ واجبهما والقيامَ بمراد الله تعالى منهما، وسَحْبُ ما هو عند القضاء إلى الحياة غير سديدٍ؛ قال تعالى في كتابه الحكيم: ﴿يُؤْتِي الحِكمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾” [البقرة: 269].
الأدلة على وجوب نفقة الزوجة على زوجها
قرر الشرع الشريف وجوب النفقة للزوجة على زوجها في الجملة، وثبت هذا بالكتاب والسنة والإجماع والقياس:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]. ووجه الدلالة: صيغة الأمر في قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ﴾؛ فهو فعلٌ مضارعٌ مسبوقٌ بلام الأمر، والأمر للوجوب ما لم يَرِدْ قرينةٌ تصرفه من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، وإذْ لم يرد ما يصرفه عن الوجوب فإنه يفيد أن النفقة للزوجة واجبةٌ على زوجها.
ومن السنة: ما رواه حَكِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا يُقَبِّحْ، وَلَا يَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» أخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. ووجه الدلالة: التعبير بكلمة "حق"، والحق موضوعٌ حقيقةً للواجب؛ لغةً واصطلاحًا.
وأما الإجماع: فلقد انعقد إجماع المسلمين على وجوب النفقة للزوجة على زوجها إجمالًا من لدُن سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم الناس هذا، ولم يخالف في ذلك أحد؛ كما نقله الإمام أبو الحسن ابن القطان الفاسي في كتابه "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 55، ط. دار الفاروق الحديثة) وغيرُه.
وأما القياس: فإن من القواعد المقررة في الفقه أن "مَن حُبِس لِحَقِّ غيره فنفقته واجبةٌ عليه"؛ وهذا منطبقٌ على الزوجة؛ فإنها محبوسةٌ على زوجها، فَحُقَّ لها النفقةُ جزاء الاحتباس.
أقوال الفقهاء في تعيين صفة النفقة الواجبة للزوجة على زوجها
رغم اتفاق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة على زوجها، إلا أنهم اختلفوا في تعيين صفاتها ومشمولاتها:
فحَصَرَهَا جمهور الفقهاء في الطعام والشراب والكسوة والسكن والخادم على تفصيلٍ بينهم في شروط وجوبها، ولم يجعلوا منها نفقة العلاج من دواءٍ وأجرة الطبيب ونحوها:
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (4/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي): [النفقة إذا أُطْلِقَتْ فإنها تَنصَرِفُ إلى الطعام والكسوة والسُّكنى؛ كما في "الخلاصة"؛ فقولهم: يُعتَبَرُ في النفقة حالُهُما: يشمل الثلاثةَ كما لا يخفى] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المحتار" (2/ 462، ط. دار الفكر): [والنفقة تشمل الطعام والكسوة والسُّكنى، ويُعتَبَرُ في نفقته ونفقة عياله الوسطُ من غير تبذيرٍ ولا تَقتِير؛ "بحر": أي الوسط مِن حاله المعهود] اهـ.
وقال العلامة خليل المالكي في "المختصر" (ص: 136، ط. دار الحديث): [يجب لِمُمَكِّنَةٍ مُطِيقةٍ للوطءِ على البالغ، وليس أحدُهما مُشْرِفًا -أي بعد الدخول-؛ قوتٌ وإدامٌ وكسوةٌ ومسكنٌ بالعادة بقدر وُسْعِهِ وحالِها والبلد والسعر] اهـ.
وقال العلامة أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل لمختصر خليل" (5/ 541، ط. دار الكتب العلمية) نقلًا عن العلامة ابن شاس: [واجبات النفقة ستةٌ: الطعامُ، والإدامُ، والخادمُ، والكسوةُ، وآلةُ التنظيف، والسُّكنى] اهـ.
وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "الوسيط" (2/ 203، ط. دار السلام): [يجب على الزوجِ النفقةُ بالاتفاق؛ وهي خمسة أشياء: الطعامُ، والإدامُ، والكسوةُ، والسُّكنى، وآلةُ التنظيف؛ كالمشطِ والدهنِ، والخادمُ إن كانت مِمَّنْ تُخْدَمُ] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (5/ 151، ط. دار الكتب العلمية): [والحقوق الواجبة بالزوجية سبعةٌ: الطعامُ، والإدامُ، والكسوةُ، وآلةُ التنظيف، ومتاعُ البيت، والسُّكنى، وخادمٌ إن كانت مِمَّنْ تُخْدَمُ] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 460 ط. دار الكتب العلمية): [(ويلزم ذلك) المذكور؛ وهو الكفاية من الخبز والأُدْم والكسوة وتوابعها (الزوج لزوجته) إجماعًا] اهـ.
واستدل الجمهور لما ذهبوا إليه من عدم شمول نفقة الزوجة كُلفةَ علاجها بقول الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ﴾ [الطلاق: 7]، ووجه استدلالهم: أن الله عز وجل أوجب على الزوج النفقةَ المستمرةَ لزوجته، ونفقةُ العلاج من الأمور العارضة؛ فلا تدخل بذلك في النفقة الواجبة، ولأن شراء الأدوية وأجرة الطبيب إنما تُرَادُ لإصلاح الجسم؛ فلا تلزم الزوج؛ باعتبار أن عقد النكاح إنما هو على منفعة بُضْعِ المرأة؛ فلا يلزم الزوجَ إصلاحُ الجسم كما لا يَلزمُ المستأجرَ إصلاحُ ما انهدم من الدار.
قال العلامة العمراني الشافعي في "البيان" (11/ 208، ط. دار المنهاج): [ولا يلزمه أجرةُ الحجامة والفصاد، ولا ثَمَنُ الأدوية، ولا أجرةُ الطبيب إن احتاجت إليه؛ لأن ذلك يُرَادُ لحفظ بَدَنِهَا لِعَارِضٍ؛ فلا يلزمه؛ كما لا يلزم المستأجرَ إصلاحُ ما انهدم من الدار المستأجرة، وفيه احترازٌ من النفقة والكسوة؛ فإن ذلك يُحتاجُ إليه لحفظ البَدَنِ على الدوام] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (8/ 199، ط. مكتبة القاهرة): [ولا يجب عليه شراءُ الأدوية، ولا أجرةُ الطبيب؛ لأنه يراد لإصلاح الجسم؛ فلا يلزمه؛ كما لا يلزم المستأجرَ بناءُ ما يقع من الدار وحفظُ أصولها؛ وكذلك أجرةُ الحَجَّامِ والفَاصِدِ] اهـ.
إلا أنهم نصُّوا على شمولها عددًا من الإجراءات الطبية الوقائية للحفاظ على بدن الزوجة وصحتها ووقايتها على وجهٍ مستمرٍّ مما قد يؤذيها أو يضرها أو يسبب لها التعب والإجهاد؛ حيث أوجبوا خدمتها ونفقة من يؤنسها عند الحاجة إلى ذلك، وكذلك توفير أدوات التنظيف والطهارة اللازمة لبدن الزوجة والمسكن.
قال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 463، ط. دار الكتب العلمية): [يجب (عليه) أي الزوج (مؤنة نظافتها من الدهن) لرأسها (والسدر والصابون وثمن ماءِ شربٍ ووضوءٍ وغسلٍ من حيضٍ ونفاسٍ وجنابةٍ ونجاسةٍ وغسلِ ثيابٍ وكذا المشط وأجرة القيمة ونحوه وتبييض الدست وقت الحاجة) إليه؛ لأن ذلك يُرَادُ للتنظيف؛ كتنظيف الدار المؤجرة. (ولا يجب عليه) أي الزوج (الأدوية وأجرة الطبيب والحجام والفاصد)؛ لأن ذلك يُرَادُ لإصلاح الجسم؛ كما لا يلزم المستأجرَ بناءُ ما يقع من الدار (وكذا ثمن الطيب والحناء والخضاب ونحوه) كالإسفيداج؛ لأن ذلك من الزينة فلا يجب عليه؛ كشراء الحلي (إلا أن يريد منها التزين به)؛ لأنه هو المريد لذلك (أو قطع رائحةٍ كريهةٍ منها) أي يلزمه ما يُرَادُ لقطع رائحةٍ كريهةٍ منها؛ كما ذكره في "المغني" و"الشرح" و"الترغيب"] اهـ.
كما قرر المالكية في المشهور عندهم وجوبَ تحمل الزوج نفقةَ الولادةِ وتوفيرِ العناية والرعاية الطبية اللازمة للزوجة وللمولود في مدة الحمل أيضًا:
قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (4/ 184): [وعلى الرجل أن يقوم بجميع مصلحة زوجته عند ولادتها؛ فأجرة القابلة -أي من واجبات الزوج-؛ كانت تحته أو مطلَّقةً، إلا أن تكون أَمَةً مطلَّقةً فيسقط ذلك عنه] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (2/ 510، ط. دار الفكر): [(قوله: وأجرة قابلة) يعني أن أجرة القابلة وهي التي تولد النساء لازمةٌ للزوج على المشهور ولو كانت مطلقةً بائنًا ولو نزل الولد ميتًا في الطلاق البائن؛ لأن المرأة لا تستغني عن ذلك؛ كالنفقة. وقيل: إن أجرة القابلة عليها. ومحل الخلاف في الزوجة التي ولدها حُرٌّ؛ كالزوجة الحرة والأَمَة التي مِثل أَمَةِ الجَد، وأما الزوجة الأَمَة التي يكون ولدها رقيقًا لسيدها فأجرة القابلة لازمةٌ لسيدها قولًا واحدًا؛ لِمِلْكِهِ للولد ولو كانت في عصمة الزوج (قوله: ويجب لها عند الولادة ما جَرَت به العادة) أي من الفراريج والحلبة بالعسل والمفتقة ونحو ذلك (قوله: يحصل لها ضررٌ عادةً بتركها) أي بأن يحصل لها الشعث عند تركها، ولا يشترط المرض، لا -أي لا يجب- ما يُحتَاجُ له من ذلك ولو اعتادته. والحاصل أن المدار في لزوم ذلك على الضرر؛ أُعْتِيدَ أم لا، فإنْ ضَرَّ تَرْكُهُ بها لَزِمَهُ؛ أُعْتِيدَ أم لا، وإن لم يضرَّ تَرْكُهُ بها فلا يلزمه؛ أُعْتِيدَ أم لا] اهـ.
وما يُفْهَمُ من إطلاق الحنفيَّة والشافعيَّة والحنابلة عدمَ وجوب هذا النوع من النفقة للزوجة في النصوص السابق إيرادها إنما هو عدم لزومها على الزوج تجاهها إذا لم تأت هذه النفقة استجابةً لطلبه أو بما تعود ثمرته عليه أو بحيث تكون زائدةً على ما يقيم حاجته؛ قال العلامة الشبراملسي في "حاشيته على نهاية المحتاج" (7/ 195، ط. دار الفكر): [(قوله: لحفظ الأصل) ويؤخذ منه أن ما تحتاج إليه المرأة بعد الولادة لِمَا يُزِيلُ ما يُصيبُها مِن الوجع الحاصل في باطنها ونحوه؛ لا يجب عليه؛ لأنه من الدواء، وكذا ما جرت به العادة مِن عمل العصيدة واللبابة ونحوهما مما جرت به عادتهن لمن يجتمع عندها من النساء؛ فلا يجب؛ لأنه ليس من النفقة، بل ولا مما تحتاج إليه المرأة أصلًا، ولا نَظَرَ لِتَأَذِّيها بِتَرْكِهِ، فإن أرادته فَعَلَت مِن عندها نفسها] اهـ.
وأدخل ثمنَ الدواء وأجرةَ الطبيب مطلقًا بعضُ المالكية وغيرُ واحدٍ من العلماء في النفقة الواجبة للزوجة على زوجها:
قال الشيخ عليش المالكي في كتابه "منح الجليل" (4/ 392، ط. دار الفكر، بيروت): [عن ابن عبد الحكم: عليه أجرُ الطبيب والمداواة] اهـ.
وقال الإمام الشوكاني في "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" (1/ 460، ط. دار ابن حزم): [وأما قوله: (كفايتها كسوةً ونفقةً وإدامًا) فصحيحٌ، مع التقييد بقوله عز وجل: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ﴾ [الطلاق: 7]. وأما إيجاب الدواء فوجهه: أن وجوب النفقة عليه -أي على الزوج لزوجته- هي لحفظ صحتها، والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها] اهـ.
والقول بوجوب إنفاق الزوج على علاج زوجته هو ما اختارته التشريعات القانونية المعاصرة في الديار المصرية ومعظم البلاد الإسلاميَّة؛ فقد نصَّت المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية المصري رقم 25 لسنة 1920م على أنه: [تجب النفقة للزوجة على زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلَّمت نفسها إليه ولو حُكْمًا حتى لو كانت موسرةً أو مختلفةً معه في الدين، ولا يَمنعُ مرضُ الزوجةِ مِن استحقاقها للنفقة، وتشملُ النفقةُ الغذاءَ والكسوةَ والسكنَ ومصاريفَ العلاج وغيرَ ذلك بما يقتضي به الشرع] اهـ.
ومن المقرر شرعًا أن "حكم الحاكم يرفع الخلاف"، وقد تكلم العلماء على هذه القاعدة وفصَّلُوا الكلامَ فيها؛ منهم الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 103، ط. عالم الكتب) في الفَرْقِ السابع والسبعين؛ حيث قال رضي الله عنه: [اعْلَمْ أنَّ حُكمَ الحاكم في مسائل الاجتهاد يَرفَعُ الخلافَ، ويَرجعُ المخالفُ عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتَتغيَّرُ فُتْيَاهُ بعد الحُكمِ عمَّا كانت عليه؛ على القول الصحيح من مذاهب العلماء] اهـ.
وأما ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم شمول النفقةِ الواجبةِ الدواءَ وأجرةَ الطبيب: فإنما قرروه في واقعٍ مختلفٍ عن واقع الناس اليوم، ومِن المعلوم أن تغيُّر الزمان يترتب عليه في الغالب تغيُّرٌ في الأعراف والعادات ومِن ثَمَّ الاحتياجات؛ فلَم تكن الأسقامُ والأمراضُ منتشرةً في القرون الأولى على النحو الذي نراه في زماننا هذا، ولم يكن علاجها يحتاج إلى تكاليف وإنفاقٍ مثل ما هو الواقع الآن، بل كان المرض في أزمانهم عارضًا في الغالب، يتأتَّى علاجه بما هو متوفرٌ من أطعمةٍ ونباتاتٍ وأعشابٍ وعناصر في البيئة المحيطة، وكان من خبرة النساء ومما يميزهن عن الرجال تداول هذه الأشياء وتعلم التداوي والتطبيب بها، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلغت في ذلك مبلغًا عظيمًا؛ كما وصفها بذلك عبدُ الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء رضي الله عنهم؛ فقال: "ما رأيت أحدًا أعلم بفقهٍ ولا بطِبٍّ ولا بشِعرٍّ من عائشة رضي الله عنها" -انظر: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" للقرطبي (4/ 1883، ط. دار الجيل)، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (7/ 186، ط. دار الكتب العلمية)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني (8/ 233، ط. دار الكتب العلمية)، وغيرها-، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرشد إلى الغسل من الحُمَّى؛ فيقول: «الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» متفقٌ عليه، وغير ذلك كثيرٌ مما يدل على طبيعة التداوي وآلِيَّتِهِ في تلك الأزمان.
وهذا الفهم لنصوص الجمهور مستنبطٌ من إيجابهم نفقةَ العلاج والتداوي من بعض الأمراض والأحوال على تفصيلٍ بينهم في ذلك كما سبق بيانه، كما يظهر من نصوصهم في هذا الباب أن تحديد النفقة ومشتملاتها يرجع فيه إلى العرف بشروطه، ومراعاة الأعراف وتغير الزمان عند النظر في هذا النوع من النفقة هو ما قرره الشيخ شمس الدين محمد نجيب المطيعي في تكملته على "المجموع شرح المهذب" (18/ 256، ط. دار الفكر)؛ مستحسنًا ضرب المثل لهذا النوع من النفقة في هذا الزمان بالتأمين الصحي المكفول للعامل لا بالدار المستأجرة؛ فيقول رضي الله عنه: [ولنا وقفةٌ عند هذا الأمر الذي ينبغي النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغيّر، وليس هذا الفرع بالشيء الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الانسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجتمعٍ أو بيئةٍ أو دولةٍ تكفل للعامل والشغّال قدرًا من الرعاية الصحية تحت اسم إصابة العمل أو المرض أثناء الخدمة؛ فيتكفل صاحبُ العمل ببعض نفقات العلاج أو كلها؛ فإنه ليس من العروف أن يُضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة والدار، والأقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيًّا؛ فيُضرب المثل بالعامل فإنه أَوْلَى] اهـ.
ويرجع فيه أيضًا إلى ما هو دائمٌ دون ما هو عارضٌ؛ قال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (15/ 449، ط. دار المنهاج): [والأمراض عوارض؛ لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء؛ فلم يَرَ الشرعُ اعتبارَها] اهـ.
ومراعاةُ المستمر من النفقة دون العارض منها على ما ذهب إليه الجمهور راجعةٌ إلى استيعاب إحداهما الأخرى، ولعل في ذلك تفسيرًا لعدم إيجابهم نفقة العلاج على الزوج تجاه زوجته باعتبار المرض عارضًا يسيرًا تحصل نفقة التداوي منه بما يفضل من النفقة المستمرة؛ إذ كان هذا المعنى واضحًا لديهم؛ حيث أباحوا للزوجة حال مرضها أن تأخذ مِن النفقة المستمرة التي يوفرها الزوجُ ما تتداوى به باعتبار ذلك عارضًا ولا كلفةَ فيه زائدة على حدود النفقة المعتادة؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (9/ 50، ط. المكتب الإسلامي): [ويلزم الزوجَ الطعامُ والأُدْمُ في أيام المرض، ولها صرف ما تأخذه إلى الدواء ونحوه] اهـ.
وعلى هذا التحقيق يتجه القول بشمول النفقة الواجبة على الزوج تجاه زوجته تكاليفَ علاجها؛ فهذا هو المتفق مع مقاصد التشريع التي أسس عليها جمهورُ الفقهاء كلامَهم، وهو المناسب لواقع الناس اليوم؛ فالغالب في أمراض هذا الزمان أنها: إما عارضةٌ تحتاج من النفقة ما لا تستوعبه النفقة المعتادة، أو مزمنةٌ مستمرةٌ لا تستوعبها النفقة المعتادة أيضًا، وعلاجها حينئذٍ يُنزَّل منزلة الأصل من طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ إن لم يكن أَوْلَى من ذلك جميعًا؛ فقد يصبر الانسان على الجوع والعطش، لكنه لا يصبر في الغالب على مثل هذه الأمراض.
هذا، بالإضافة إلى أن كثيرًا مِن النساء المتزوجات في عصرنا هذا قد خرجن إلى العمل، باذِلاتٍ دُخُولَهُنَّ في نفقة البيت والأولاد الواجبة أصالةً على الزوج، وليس من العدل أن تَبذُلَ المرأةُ مالها في النفقة، حتى إذا مرضت لا تجد مَن يُنفق على علاجها.